كتبت – أسماء حمدي

بين السيارات المفخخة والانفجارات العنيفة التي تهز البلاد، وحالات الانفلات الأمني، وبين العيون الحزينة والأجساد المرهقة والأرواح المقهورة، تظل الصومال في دوامة من الحديد والنار بعيدة كل البعد عن أي شكل من أشكال الاستقرار.

كل ذلك يدفع الصوماليين للهرب بعيدًا عن ويلات الحرب الطاحنة التي تعصف ببلدهم، يفضلون حلم الهجرة، بحثًا عن بصيص أمل في نهاية نفق طوله عقود.

في عام 1992، اضطرت “أنيسة إبراهيم” وأسرتها إلى الهروب من الحرب الأهلية في الصومال، والعيش في مخيمات اللاجئين في كينيا مثلهم مثل الكثيرين، كان عمرها خمسة أعوام، ومن ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة، والآن تحقق أنيسة نجاحًا كبيرًا، حيث أصبحت طبيبة ومديرة لأحد المراكز الطبية التي عولجت فيها حين وصولها.

رحلة الهرب

تروي أنيسة، 32 عامًا، قصة لجوئها: “كان هناك الكثير من الناس في حَيِّنَا الصغير، جميعُنا هربنا من آثار العنف والاضطرابات السياسية، واضطررنا إلى اللجوء في كينيا وعشنا داخل مخيمات اللاجئين، حيث الفقر وسوء التغذية وتفشي الأمراض المعدية”.

في العام التالي انتقلت عائلة أنيسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بحثًا عن حياة أفضل، وكانت تعاني هي وإخوتها من الجفاف والأمراض المعدية، كما هو الحال في أغلب مخيمات اللاجئين، وبعد وصولها عولجت في عيادة طب الأطفال بمركز هاربورفيو الطبي في سياتل.

لم تعلم الطفلة في مخيمات اللجوء أنها ستحقق يومًا ما نجاحًا كلاجئة من الصومال إلى الولايات المتحدة، وأنها ستطرق أبواب الطب، وتصبح طبيبة ومديرة في سن مبكرة، وهو المركز نفسه الذي عولجت فيه وهي طفلة.

وفي الوقت الذي تتضاءل فيه جهود إعادة توطين اللاجئين في الولايات المتحدة تحت ضغط البيت الأبيض، تنظر أنيسة إلى الأطفال اللاجئين الذين يأتون إلى المركز الطبي بنفس الأمل الذي شعرت به يومًا ما عندما كانت طفلة مريضة.

تقول أنيسة: “أنا لست هذا الإنسان الاستثنائي، هناك ملايين اللاجئين في الوقت الحالي لم يحصلوا على الفرص التي أعطيت لي، وإذا حصلوا عليها فإنهم سيفعلون أشياء لا تصدق”.

طبيبتي مهدت لي الطريق

منذ خطت قدماها داخل المركز الطبي، أرادت أنيسة أن تصبح طبيبة، ووقتها الذي قضته في العيادة جعلها تدرك أن أحلامها كانت أكثر من مجرد خيال، تقول: “إن المعاملة التي تلقيتها كلاجئة “عززت” قراري.

تضيف: “كانت طبيبة الأطفال في هاربورفيو من أوائل الأشخاص الذين آمنوا بي وبأنه من الممكن أن أصبح طبيبة، بالنسبة لي، كلاجئة شابة كان هذا حلمًا، وكانت طبيبتي الدكتور إلينور جراهام، أستاذ طب الأطفال في جامعة واشنطن تؤمن بي فعليًّا”.

تقول جراهام: “كنت أسأل الأطفال دائمًا عما يريدون أن يكونوا عندما يكبرون؛ ما هي أحلامهم؟ أتذكر أنيسة في حوالي العاشرة من عمرها قالت إنها تريد أن تصبح طبيبة أطفال مثلي”.

في عام 2016 -وبعد تخرجها من كلية الطب بجامعة واشنطن- انضمت أنيسة إلى هاربورفيو كطبيبة أطفال عامة، وفي سبتمبر الماضي تمت ترقيتها إلى مديرة طبية للمركز.

تضيف جراهام: “في اللحظة التي أصبحت فيها الدكتورة أنيسة إبراهيم مديرة لنفس المركز الذي كنت فيه طبيبة أطفال، وفي نفس الدور الذي كنت أمارسه، شعرت بأن هذا أفضل ما حدث لي في مهنتي الطبية”، واصفةً خليفتها بأنها القائد المثالي لعيادة تخدم في المقام الأول السكان ذوي الدخل المنخفض والمهاجرين واللاجئين والأقليات.

تحطيم الصورة النمطية للاجئين

لكن انتقال أنيسة إلى أمريكا لم يأت من دون عقبات، بصفتها لاجئة صومالية كانت ترتدي الحجاب الإسلامي، لم تر أنيسة أحدًا يشبهها في مجالها، وكثيرا ما جعلها تشك في أنها ستُقبَل في البرامج الطبية”.

تقول الطبيبة الشابة: “كَوْنِي أول فرد من أسرتي يذهب إلى المدرسة في الولايات المتحدة، شعرتُ حينها بضغط هائلٍ لأجد طريقي عبر نظام لم أكن أعرفه، كان ذهابي إلى عالم مجهول تحديًا، فلديّ أربعة أشقاء أصغر سنًّا، وشعرت أن دوري هو أن أمهد لهم الطريق لكي يصبح الطريق أمامهم أكثر سهولة في عالم جديد كليًّا عن عالمنا”.

“انغمسنا في مجتمع تختلف ثقافته اختلافًا جذريًّا عن المجتمعات الصومالية التي جئنا منها، وكان من الصعب التغلب على العزلة الاجتماعية التي شعرت بها في البداية، لكنني درست كثيرًا واجتهدت كثيرًا لأصبح متفوقة وتعلمت الإنجليزية في غضون شهور، فكنت كما أهتم بنفسي أهتم أيضًا بإخوتي “.

الآن أصبحت أنيسة أمًّا لابنتين، مع طفل ثالث في الطريق، كان من المهم بالنسبة لها، مثل الكثير من الآباء، ألا تضطر أبدًا إلى “التضحية بالأمومة من أجل الطب أو بالطب من أجل الأمومة، لكن دعم أسرتها لها ساعدها في القيام بالأمرين معًا.

اليوم، تدير أنيسة العيادة وتهتم بالمرضى الذين غالبًا ما وصلوا حديثًا إلى الولايات المتحدة كلاجئين، وأيضًا المهاجرين الذين أعيد توطينهم سابقًا، إلى جانب تحسين صحة الأطفال الذين كانوا في نفس الموقف الذي كانت فيه منذ 26 عامًا، تأمُلُ أنيسة في تحطيم الصورة النمطية للاجئين، كما تأمل في محاربة الخطاب السلبي الوجه ضدهم في أمريكا.

تقول أنيسة: “من أصعب الأشياء التي تواجهنا هنا هي تلك الهجمات العنصرية؛ سواء بسبب إسلامنا أو حجابنا أو بشرتنا السمراء”، وتتساءل كيف يستطيع الإنسان معاملة إنسان آخر بعنصرية وتجريده من إنسانيته؟.

تضيف: “هناك من يقسم اللاجئين إلى جيدين واستثنائيين وآخرين لا قيمة لهم، لكن الواقع هو أنه إذا تم منحهم جميعًا الوقت والمساحة والفرصة والموارد، فسوف يحققون نجاحا كبيرا في مختلف المجالات، كما يساهم الجميع بشكل إيجابي في الأماكن التي تتم إعادة توطينهم فيها، كل ما يحتاجونه هو الفرصة”.

وأشارت أنيسة إلى أنها ستقف دائمًا إلى جانب اللاجئين والمهاجرين، وخاصة الأطفال الذين هم في حاجة إلى رعاية طبية، تقول: “علينا أن نقاتل من أجل حماية أسرنا وأطفالنا ومجتمعاتنا من المهاجرين”.