حسام عيد – محلل اقتصادي

يومًا تلو الآخر تدفق المهاجرين الريفيين إلى المدن في القارة السمراء يزداد، في مشهد يتجاوز الآن كل المناطق الأخرى في العالم. فأفريقيا اليوم أصبحت بحاجة ملحة أكبر من أي وقت مضى إلى بنية تحتية متطورة وذكية؛ من خطوط سكك حديدية جديدة، وطرق سريعة، ومطارات، ومحطات للطاقة، إلى مدن جديدة بالكامل، لأكثر من 1.3% مليار نسمة أو ما يعادل 17% من إجمالي سكان العالم.

أمر أشبه بالمعركة، وهذا ما دفع العديد من الحكومات الأفريقية إلى البحث عن مصادر خارجية للحصول على التمويل اللازم والقدرة الهندسية الفائقة.

وسرعان ما قفزت الصين في المقدمة، مرتكزة على الخبرة التي اكتسبتها من طفرة البناء المحلية، بطموحات محاكاتها وتطبيقها على الحالة الأفريقية، وكأنها وجهة استثمارية حدودية قادمة.

لكن ذلك لا يعني أن الصين قادرة في أفريقيا على فعل ما فعلته في داخل حدودها؛ فنموذج التنمية الصيني لا يعمل ببساطة هناك.

الصين شريك تجاري عملاق

أفريقيا؛ قارة بكر تستأثر بحوالي 30% من احتياطيات العالم من الهيدروكربونات والمعادن، ورغم ذلك لا يزال نصيبها من التصنيع يسجل أرقامًا محدودة.

وهذا ما دفع الصين إلى وضع القارة السمراء، على أجندتها الاقتصادية التي توصف بالطموحة، فهي من أوائل دول العالم التي رأت في أفريقيًا موردًا استثماريًا متجددًا.

الوفود التجارية الصينية جابت كل العواصم الأفريقية ولا تزال، وكأنهم مندوبين عن القادة الصينيين ومكلفين بالاستحواذ على مشاريع البنية التحتية والصفقات التجارية المختلفة، في محاولة توصف بأنها ترمي إلى تحويل أفريقيا إلى “قارة صينية” أخرى.

وبحلول عام 2009؛ أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا، فحجم التبادل التجاري نما بمعدل سنوي قوي نسبته 20% منذ عام 2000؛ حيث تجاوز 200 مليار دولار سنويًا.

وفي عام 2015 بلغت التجارة بين الصين وأفريقيا ما يقرب من 300 مليار دولار، في حين تجاوز عدد الشركات الصينية العاملة في أنحاء القارة السمراء أكثر من 10 آلاف شركة باستثمارات 2 تريليون دولار في عام 2017، حسب تقرير لمؤسسة الاستشارات الإدارية العالمية “ماكينزي وشركائه McKinsey & Company.

وينمو الاستثمار الأجنبي المباشر للصين في إفريقيا بمعدل سنوي خيالي يقدر بـ 40%، ووجدت مؤسسة “ماكينزي” أن هذا المعدل سيزيد بنسبة تتجاوز الـ 15% عندما يتضمن الاستثمار القنوات غير التقليدية.

أفريقيا.. قارة صينية أخرى

وغني عن القول، إن الصين أصبحت أكبر لاعب دولي في قطاع بناء البنية التحتية والتشييد في أفريقيا ، وكذلك أكبر مورد لتمويل البناء في القارة السمراء، بل إن وجودها هناك أكبر من توسعها في البلدان الآسيوية الأخرى.

ويتصدر المشهد الصيني في أفريقيا اليوم، صندوق الحزام والطريق لتطوير البنية التحتية بالقارة السمراء باستثمارات قيمتها مليار دولار، فيما أعلنت بكين مؤخرًا حزمة مساعدات أفريقية بقيمة 60 مليار دولار، ومن المقرر أن يذهب جزء كبير منها لتطوير البنية التحتية.

هذه المشاركة منطقية تمامًا بالنظر إلى ما أنجزته الصين داخل حدودها خلال العقود القليلة الماضية. فالكثير من الزعماء الأفارقة لم ينسوا ما كانت عليه الصين قبل أكثر من 30 عامًا، دولة تعاني الركود واقتصادها لا يتعد حجم الـ2% من إجمالي الناتج العالمي.

فعلى مدى عقود قليلة ماضية، أحدثت الصين صدمة للعالم من خلال استغلالها للبنية التحتية في دفع نموها الاقتصادي؛ فاليوم لديها شبكة سكة حديد عالية السرعة تصل إلى 29 ألف كيلومتر، وعبدت ورصفت أكثر من 100 ألف كيلومتر من الطرق السريعة الجديدة، وشيدت أكثر من 100 مطار جديد، وبناء ما لا يقل عن 3500 منطقة حضرية جديدة -والتي تشمل 500 منطقة تنمية اقتصادية و1000 مشروع على مستوى المدينة الواحدة. وخلال هذه الفترة الزمنية، نما الناتج المحلي الإجمالي الصيني بأكثر من 10 أضعاف، ليحتل المرتبة الثانية في العالم اليوم.

وقفزت شركات الهندسة والبناء الصينية أيضًا إلى الساحة العالمية، حيث تحولت من كيانات غير مهمة نسبيًا وغامضة إلى حد ما بأسماء مدفوعة باختصار، والتي تبدأ عمومًا بالحرف C إلى جزء من أكثر الشركات تطورًا وقوة في العالم.

وفي 2019، تستحوذ الشركات الصينية على أكثر من ربع قائمة أفضل المقاولين الدوليين.

النموذج الصيني ليس فريدا من نوعه

من نواح كثيرة ، تتماشى مصالح الصين إلى حد كبير مع مصالح أفريقيا عندما يتعلق الأمر بالتوسع الحضري وتطوير البنية التحتية.

ورغم أن نموذج الحكومة الصينية لا يزال لاعبًا رئيسيًا في التحول الرأسمالي للاقتصاد العالمي؛ إلا أنه لا يمكن وصفه بالفريد من نوعه، فالنموذج الصيني يفتقر للعمليات الديمقراطية، ما معناه أن الشعب ليس له صوت يُذكر في المساعي التنموية التي يتأثر بها بشكل مباشر، كما دللت مجلة “فوربس” الأمريكية.

وكما أشار رجل الأعمال والمبرمج الأمريكي الشهير بيل غيتس ذات مرة: “الصين استخدمت من عام 2011 إلى 2013 خرسانة بأكثر من 50% مقارنة بنظيرتها المستخدمة بالولايات المتحدة في القرن العشرين بأكمله”.

العالم لا يتحدث فقط عن بناء شبكة السكك الحديدية عالية السرعة الأكثر شمولاً خلال عقد من الزمان فقط، أو معظم الجسور البحرية الأطول في العالم، أو حتى ستة من ناطحات السحاب العشر الأطول في العالم، ولكن أيضًا يتحدث عن متطلبات ثورة البنية التحتية التي لم تقم فقط على تعبئة تريليونات الدولارات ولكن أيضا على مئات الملايين من الناس. على سبيل المثال ، سد الممرات الثلاثة تطلب بناءه تهجير ونقل 1.3 مليون شخص. ووفقا لدراسة أجرتها جامعة تسينغهوا الصينية، فإن أكثر من 64 مليون أسرة في جميع أنحاء الصين قد هُدم منازل البعض منها، والأخر استولت عليه الحكومة وذلك منذ بداية فترة الازدهار الاقتصادي. ووفقًا لجامعة تيانجين، قضت الصين على أكثر من مليون قرية بين عامي 2000 و 2010 لتمهيد الطريق للتنمية الحضرية.

على النقيض، الحكومات الأفريقية لا تتمتع بمرونة الإبادة والتهجير في عملية صنع القرار، فلا يمكن تطهير مليون شخص أو أكثر لمجرد بناء مدن جديدة أو مناطق اقتصادية خاصة أو سدود.

كما أن التحدي اليوم هو أن التنمية الحضرية المنشودة في أفريقيا صعبة المنال، فالأرض مملوكة بشكل دائم لأفراد وقبائل، لذلك من الصعب جدًا على أي حكومة محلية أن تتطفل على الملكيات الخاصة لمجرد التخطيط والتطوير، وحتى لو كان هناك تخطيط، فإنه يكاد يكون من المستحيل إنفاذ لوائح التخطيط. لذلك على الشركات الصينية الراغبة في تنفيذ استثمارات بالبنية التحتية التفاوض مع السكان المحليين أولًا وليس الحكومات.

مبادرة الحزام والطريق.. وفخ الديون

في أكتوبر الماضي، حلّت الذكرى السادسة للمشرع الصيني الكبير “الحزام والطريق”، وتزامن معها تنامي رغبة معظم البلدان الأفريقية بالانضمام له، فهو يهدف إلى بناء شبكة للتجارة والبنية التحتية “ماية ورقمية” تتجاوز قيمتها تريليونات الدولارات تربط آسيا بأوروبا وإفريقيا على طول الطرق التجارية القديمة لطريق الحرير.

لكنّ القارة التي سيتضاعف عدد سكانها بحلول عام 2050 ويُعَدُّ سكانها الأصغر سنّاً والأسرع نموّاً في العالم، بحاجة إلى وضع أسس تنمية ذاتية لا تكون عرضة لمخاطر استغلال الجهات الخارجية ومطامعها المتجددّة.

هناك بعض البلدان الأفريقية يتملكها خوفًا دائم من فخ الديون الصينية، وكذلك تهميش الكفاءات من السكان المحلين وإهدار حقوقهم في التوظيف، واستغلال الموارد الطبيعية لأفريقيا بشكل سيء.

ومن الأمثلة التي يقدمها أصحاب المخاوف، ويحذرون منها الدول الأفريقية: ما حدث لـ”سريلانكا” في ديسمبر 2017؛ حيث لقي تعامل الصين مع هذه الدولة الجزرية في جنوب آسيا استياء وانتقادات واسعة لعدم استطاعتها دفع ديونها للصين. وحسبما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أعادت الصين التفاوض بشأن شروط الديون المستعصية مع سيريلانكا، مقابل الحصول على ملكية ميناء “هامبانتوتا” و 15 ألف فدان من الأراضي المحيطة على شكل عقد إيجار لمدة 99 عاماً على هذه الممتلكات.

وختامًا، يمكن القول أن تطوير البنية التحتية هو في حد ذاته مشروع عالي المخاطر، فالمشاريع الكبرى والمكلفة غالبًا ما تستغرق سنوات -إن لم تكن عقودًا- بين التصور والتنفيذ. لكن مع تخطي المطورين الصينيين حدودهم، فإن التضاريس الجديدة التي يدخلونها ليست مادية فحسب، بل سياسية واجتماعية أيضًا، والحفاظ على دعم عام إيجابي يعد مكونًا رئيسيًا لمشروع ناجح في العديد من البلدان الأفريقية.