حسام عيد – محلل اقتصادي

في أواخر أغسطس  2019، احتضنت العاصمة الكينية، نيروبي، مئات من الباحثين في مجال وصناعة الذكاء الاصطناعي. البعض منهم وقف أمام الملصقات ، التي حولت جذور شجرة الفلفل المقوسة المترامية الأطراف، والتي تصور أنظمة التعلم الآلي التي وعدت بالتنبؤ بكل شيء من تغذية التربة ، إلى ما إذا كان المزارع الصغير سيدفع قرضًا ، وكيف يمكن لسيارة ذاتية القيادة التنقل في شوارع القاهرة الصاخب.

على مدار السنوات الثلاث الماضية، بدأ الأكاديميون والباحثون من جميع أنحاء القارة الأفريقية في رسم مستقبل صناعة الذكاء الاصطناعي الخاص بهم، وذلك عبر مؤتمر يسمى بـ “إندابا للتعلم العميق”؛ والذي يجمع مئات الباحثين من أكثر من 40 دولة أفريقية لعرض أعمالهم ، ومناقشة كل شيء بدءً من معالجة لغة الطبيعة وصولًا إلى أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، حالمين بمحاكاة وادي السيليكون الأمريكي، وتأسيس نموذج جديد بقلب القارة السمراء.

حلم “مجتمع الذكاء الاصطناعي” الأفريقي

مؤتمر “إندابا” تأسس في 2017، كاستجابة مباشرة للمؤتمرات الأكاديمية الغربية، والتي غالبًا ما يصعب على الباحثين من مناطق بعيدة من العالم الوصول إليها والمشاركة بها.

على سبيل المثال؛ مؤتمر نُظم معالجة المعلومات العصبية، وهو الاجتماع الأكثر شهرة المكرس للشبكات العصبية الاصطناعية، سبق وأن أقيم في منتجعات بعيدة ومكلفة. وبالنسبة للباحثين من أفريقيا، غالبًا ما يكون بعيد المنال.

ففي عام 2016 لم تُقبل أي أوراق من البلدان الأفريقية المقدمة خصيصا بغرض حضوره، وفي عام 2018، مُنع أكثر من مئة باحث من الحصول على تأشيرات لدخول كندا من أجل متابعة فعالياته.

ولهذه الأسباب اجتمع زملاء الدراسة السابقون من جامعة ويتواترسراند بجنوب أفريقيا وعدد قليل من الزملاء المقربين لتأسيس إندابا عام 2017.

وعبر “إندابا” عرض مئات الباحثين الأفارقة أعمالهم، وفي نسخته الثانية دعت الجهات المسؤولة عن المؤتمر أربعمئة شخص، وخلال عام 2019، تضاعف عدد الحاضرين في المؤتمر تقريبًا، حيث حضره سبعمئة مشارك، ليتحول خلال أعوامه الثلاث إلى نسيج يضم مجتمع الذكاء الاصطناعي الأفريقي، إذ إنه ليس مساحة للقاء جميع فئات المجتمع مع بعضها البعض فحسب؛ بل أضحى جزءًا من المجتمع نفسه.

المؤتمر الذي ترعاه شركات عملاقة مثل جوجل وميكروسوفت وأمازون وآبل ونتفيلكس وغيرها، أسهم كذلك في توطيد العلاقات بين الباحثين في القارة من خلال وضع أجندة واضحة تهدف إلى بناء مجتمع تقني نابض بالحياة في أفريقيا، وإيجاد حلول للتحديات التي تواجه المنطقة، مثل ازدحام حركة المرور ودفع مصاريف التأمين والجفاف.

“وادي سيليكون” أفريقي

جوجل وميكروسوفت وأمازون بالإضافة إلى شركات التكنولوجيا الأمريكية والعالمية الأخرى أعلنت تقديم دعم أولي يقدر بـ 300 ألف دولار لمؤتمر “إندابا”، لكن منظمي المؤتمر الأفريقي ما زالوا مصممين على على إنشاء مجال جديد متميز للبحث، يكون بعيدًا عن قبضة وادي السيليكون الأمريكي.

وهذا ما أعلنه وأكده فوكوسي ماريفات، المسؤول عن تنظيم “إندابا” ورئيس قسم علوم البيانات بجامعة بريتوريا في جنوب أفريقيا، بقوله: “نحن بحاجة إلى إيجاد طريقة لبناء نظم تعلم آلي على الطريقة الأفريقية”.

وخلال هذا العام، عُقد مؤتمر إندابا للتعلّم العميق على مدار ستة أيام في جامعة كينياتا، التي تقع قبالة طريق ثيكا في العاصمة الكينية نيروبي.

وشكّل الطلاب جزءًا كبيرًا من الحضور فيه، وهو السبب الرئيسي وراء تركيز المؤتمر بشدة على التعليم.

وخُصص اليوم الأول للمؤتمر لإجراء دورات تكميلية حول الذكاء الاصطناعي ودورات تمهيدية حول الإحصاءات وأساسيات بناء الشبكات العصبية.

كما حضر المشاركون دورات متخصصة في معالجة اللغات الطبيعية، ورؤية الحاسوبية، وتعزيز التعلم العميق، وأخلاقيات هذه الصناعة.

وشارك البعض في تجمع للبرمجيات (هاكاثون)، قاموا خلاله بتطوير برمجيات ذكاء اصطناعي يمكنها التعرف تلقائيًّا على الحياة البرية الأفريقية، ودراسة الأنواع المهددة بالانقراض وحمايتها بشكل أفضل، في حين عمل آخرون على البيانات الصحية بهدف التنبؤ بانتشار مرض الملاريا والسيطرة عليه.

ثورة تحول “رقمي” تجتاح أفريقيا

“إذا كنت شغوفًا بخلق وظائف في آسيا ، فاستمر في استخدام الهواتف التي تستخدمها، ولكن إذا كنت شغوفًا بخلق وظائف في جنوب إفريقيا ، فدّعم هواتف مارا”، هذا ما قاله وزير التجارة والصناعة والتنمية الاقتصادية في جنوب أفريقيا، إبراهيم باتل.

فاليوم، الصناعة الخالصة للهاتف المحمول الذكي تبشر بثورة تحول رقمية في القارة السمراء، فهناك 450 مليون مستخدم فريد للهواتف المحمولة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

وبحلول أفق عام 2025، سيكون هناك 600 مليون مستخدم للهاتف المحمول، مما يجعل من أفريقيا واحدة من أسرع الأسواق نموًا في العالم “.

واستطاعت مجموعة مارا التكنولوجية الرواندية من تقديم هاتفي مارا إكس ومارا زد، لن يكونا الأخيرين في التكنولوجيا الذكية، فهي تعمل في الوقت الراهن على تصنيع هواتف ذكية جديد في دولة جنوب أفريقيا.

تهافت شركات وادي السيليكون الأمريكي

نظرًا لأن إندابا يعتبر من المؤتمرات البارزة في قارة أفريقيا، فهو يجذب اهتمامًا كبيرًا من أكبر رواد التكنولوجيا في العالم.

الجدير بالذكر أن الشركات الأمريكية مثل جوجل وميكروسوفت وأمازون وآبل ونتفيلكس وغيرها تمثل 11 شركة من مجموعة 34 شركة أخرى راعية لإندابا.

وفي الوقت الراهن، تتسارع شركات وادي السيليكون الأمريكي نحو ضخ استثمارات ضخمة في جميع أنحاء القارة السمراء.

وترعى شركة جوجل منظمات مثل داتا ساينس أفريكا والمعهد الأفريقي للعلوم الرياضية.

وفي عام 2018، أعلنت شركة غوغل تأسيس أول مركز أبحاث أفريقي لها في أكرا بغانا. وفي الوقت نفسه، تبرعت مايكروسوفت بنحو مئة ألف دولار لمنظمة داتا ساينس نيجيريا، التي تخطط لتقديم تدريب لنحو مليون مهندس نيجيري في السنوات العشر القادمة.

ويعود انجذاب كبرى شركات التكنولوجيا العالمية نحو أفريقيا إلى أن 75% من القارة لا تحظى باتصال إنترنت، وهذه معضلة رئيسية في حد ذاتها للسكان المحليين، والنجاح في تحويلهم نحو مواكبة الحياة العصرية الرقمية يمثل فرصة استثمارية كبرى لتلك الشركات.

ويشير تقرير حديث لمؤشرات الاستثمار إلى أن شركة “فيسبوك” ستحقق 2.13 دولار لكل مستخدم سنويًا في العالم النامي – ارتفاعًا من 0.90 دولار في عام 2015.

مخاوف من استعمار تكنولوجي لأفريقيا

كل هذا الاستثمار الأجنبي وجمع البيانات يرفع الأعلام الحمراء في قارة خائفة من الاستغلال.

فالشركات الصينية أمضت أعوامًا وهي تستثمر بكثافة في البنية التحتية التقنية لأفريقيا، وقامت شركة هواوي بتركيب كاميرات مراقبة حول نيروبي نيابة عن الحكومة الكينية، وتعمل الشركة -في الوقت الحالي- على تركيز أنظمة مراقبة التعرف على الوجه على نطاق واسع حول زيمبابوي.

وفي مقال بعنوان “الاستعمار الخوارزمي لأفريقيا”، قالت مرشحة للدكتوراة تدعى “أبيبا بيرهان” إن تلك الاستثمارات الكبيرة تعيد إلى الأذهان جهود الاستعمار السابقة، وهذا ما يعني استعمارًا جديدًا يلوح في الأفق ولكن عبر التكنولوجيا، والذي يرى في البشر مادة مادة خام مجانية يمكن الاستحواذ عليها.

وختامًا؛ يمكن القول إن قارة أفريقيا واعدة بالعديد من الفرص الهائلة التي من المتوقع أن تدخلها عصر الثورة الصناعية الرابعة المرتكزة على تكنولوجيا المحتوى الرقمي والذكاء الاصطناعي، وتبقى الإرادة السياسية والتخطيط والقدرة على استغلال الموارد وتوظيفها بصورة جيدة التحدي الأكبر للحاق بركب العالم الذكي خلال السنوات القادمة.