كتب-  محمد الدابولي

في ستينيات القرن الماضي شهدت جنوب أفريقيا احتجاجات واضطرابات سياسية عنيفة علي خلفية تزايد سياسة الفصل العنصري «الأبارتهيد» التي اتخذتها حكومة الأقلية البيضاء تجاه الأغلبية السوداء في البلاد والمتمثلة في عزل الأغلبية السوداء في بانتوستانات ضيقة ومنعزلة عن بعضها البعض.

فرضت حكومة الأبارتهيد في جنوب أفريقيا المزيد من القيود على تحركات السود في جنوب أفريقيا خاصة بين البانتوستانات وبعضها البعض ولعل أبرز تلك القيود ما كان يسمي في السابق قوانين المرور والاجتياز التي كان الهدف الأساس منها الحد من حركة السود داخل مدن جنوب أفريقيا وحصرها داخل البانتوستانات، فالمواطن الأفريقي في البانتوستانات كان يلزمه تصريح مرور من الشرطة لكي ينتقل من بانتوستان لأخر، وإزاء تلك القواعد والقوانين المقيدة للحرية اندلعت تظاهرات في مدينة شاربفيل شمال جنوب أفريقيا في 21 مارس 1960اعتراضا على قوانين المرور  والاجتياز مما أدي إلى تعامل وحشي من شرطة الأبارتهيد مع المتظاهرين موقعة عشرات الضحايا مبين قتيل وجريح.

 وتعد مذبحة شاربفيل نقطة تحول كبري في تاريخ النضال الأفريقي في مواجهة الأبارتهيد فمنذ تاريخ حدوثها اشتد عود المقاومة في مواجهة الفصل العنصري، حيث أسس المؤتمر الوطني الأفريقي جناحه العسكري المسمي «رمح الأمة» في عام 1961 بقيادة نيلسون مانديلا  الذي سرعان ما واجه حملة اعتقالات طالت قيادة المؤتمر وتنظيمه العسكري.

ولم تقتصر مقاومة نظام الفصل العنصري على الأغلبية السوداء في البلاد إذ اشتركت العديد من الجماعات الأخري التي تعايشت في جنوب أفريقيا في مواجهة الأبارتهيد ومن أبرزهم جماعة المسلمين، حيث سطر بعض قادة المسلمين في جنوب أفريقيا سجلا ناصعا في مواجهة الأبارتهيد وعلى رأسهم الإمام «عبد الله هارون» الذي قضي حياته مدافعا عن حقوق الأغلبية السوداء ومناهضا لسياسة الفصل العنصري.

القتل تحت التعذيب

نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تقريرا مفصلا عن حياة عبد الله هارون، موضحة أنه في 29 سبتمبر 1969 اهتزت جنوب أفريقيا لتشيع جثمان الشيخ عبد الله هارون إلي مثواه الأخير في مقبرة موبراي الإسلامية Mowbray ، مؤكدة حضور مالا يقل عن 40 ألف شخص لجنازة الإمام الراحل في مشهد حافل امتد حوالي 10 كلم.

شكلت وفاة هارون في ذلك الوقت صدمة كبري للمجتمع الجنوب الأفريقي مفادها أن حتي رجال الدين لا يمكن أن يسلموا من قمع وبطش سياسات الفصل العنصري، فهارون البالغ من العمر وقتها 45 سنة  توفي إثر التعذيب في زنزانة تابعة للشرطة بعد فترة احتجاز طالت 123 يوم في الحبس الانفرادي.

وتعرض هارون في الحبس الانفرادي إلى أبشع أساليب انتزاع الاعترافات الدموية والتنكيل نظرا لمشاركته في مكافحة الأبارتهيد، وبررت الشرطة وفاته في ذلك الوقت لسقوطه من أعلي درج السلم متجاهلة كسر ضلعين وأكثر من 27 كدمة متفرقة في أنحاء الجسم.

وشكلت ملابسات وفاة هارون في ذلك الوقت صدمة في الأوساط العالمية التي سرعان ما نددت بالفصل العنصري، وأصبح عبد الله هارون أول مسلم يتم تأبينه في كاتدرائية القديس بولس في لندن تخليدا لدوره النضالي. 

نصب تذكاري  تخليدا لذكراه

مؤخرا أقدم الفنان الجنوب  أفريقي  هارون جان سالي Haroon Gunn-Salie على إنشاء نصب تذكاري في مدينة كيب تاون تخليدا لذكري حياته، النصب التذكاري عبارة عن مقبرة رمزية تضم 118 قبر  لا يحملوا أية شواهد تخليدا لذكر ي من راحوا ضحية التعذيب أثناء الاحتجاز في سجون الفصل العنصري وعلى رأسهم الإمام هارون، والنصب التذكاري يهدف إلي ضرورة فتح التحقيق في تلك الأحداث من جديد وعدم دفن الماضي. 

توجهات هارون السياسية والفكرية

يعد هارون من أصغر الأئمة الذين تم تعيينهم في عام 1955 في أحد  مساجد كيب تاون « the Stegman Road Mosque» ليكون مشرفا على الجماعة الإسلامية في المدينة، وخلال إمامته للمسجد عمل هارون علي تشجيع المجتمع المسلم في الكيب للالتحاق بالمسجد للصلاة وتلقي العلوم الدينية والقيم الأخلاقية ومشجعا علي ارتياد الأطفال للمساجد.

بالإضافة إلي الدور الروحي لمسجد ستيجمان في توعية المسلمين بأمور دينهم كان أيضا ملتقي سياسي للنقابين والسياسيين وأعضاء الحركات الليبرالية في جنوب أفريقيا لمناقشة ما يحدث في البلاد من تطورات، وفي هذا السياق أوضح الكاتب الصحفي وعضو الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي «عنيز سالي» في تصريحه لبي بي سي أن هارون لم يكن كعادة أئمة المساجد في جنوب أفريقيا حيث كان أكثر تقدميا وانفتاحاً.

لم تقتصر دعوى هارون الرافضة للتمييز العنصري على المساجد فقط بل كان للإمام جولات وصولات خارج المسجد منددا بمساؤى الفصل العنصري حيث كان دائم التردد علي  المجتمعات السوداء في بلدات لانجا وغوغوليثو ونيانجا، واستغل هارون عمله الإضافي كمندوب لشركة حلويات في التنقل بين المدن والقري لنشر دعوته بين المجتمعات السوداء.

علاقات وثيقة

أدت تحركات هارون السياسية  خاصة بعد مشاركته في أحد المؤتمرات المنددة بنظام البانتوستانات  وقوانين الاجتياز عام 1961 إلي قيام السلطات الأمنية بملاحقته المستمرة وإجبار عائلته على ترك منزلها كعقوبة علي تحركات هارون، وذلك علي عكس باقي الأئمة الذين آثروا السلامة والبعد عن العمل السياسي العام، كما احتفظ هارون بعلاقات وثيقة مع المؤتمر الوطني الأفريقي والعديد من التنظيمات الأخري الذين كانوا يخوضون نضالا سريا ضد نظام الفصل العنصري .

مرونة فقهية

لم يكن هارون إماما متزمتا هكذا يصفه أولاده محمد وفاطمة اللذان عاصرا والدهما في طفولتهم، فيؤكدان أن والهما كان صواما يصوم يومي الإثنين والخميس محتفظا بزيه التقليدي ( الكوفية) المعبرة عن المرجعية الإسلامية، وفي ذات الوقت كان مهتم بمتابعة المباريات الخاصة برياضتي الركبي والكريكيت فضلا عن ولعه المستمر بالسينما العالمية خاصة أفلام جيمس بوند وكانت ساحة منزله بمثابة دار سينما صغيرة للأصدقاء يتم فيها عرض الأفلام العالمية يومي الجمعة والسبت.

سطور النهاية

لم تقتصر تحركات عبد الله هارون المناهضة للفصل العنصري في داخل جنوب أفريقيا فمنذ عام 1966 عمل علي حشد المساعدات الدولية لقضية بلاده، فخلال الفترة من عام 1966 وحتي 1968 سافر إلي السعودية ومصر  لمقابلة السياسيين المنفيين وترويج قضية بلاده في الأوساط الإسلامية، كما توجه إلي لندن والتقي بالقس الأنجليكاني  كنسون جون كولينز من كاتدرائية القديس بولس وعمل الطرفين على جمع الأموال اللازمة لمساعدة عائلات المتضررين من الفصل العنصري، إلا أنه فور عودته إلي البلاد عام 1969 طاردته القوي الأمنية حتي ألقت القبض عليه في مايو 1969 وظل في الحبس الانفرادي إلى أن فاضت روحه في نهاية سبتمبر 1969، لتنعيه كافة التيارات السياسية في جنوب أفريقيا من الليبرالية إلي الماركسية.