بقلم – د. نرمين توفيق

الفكرة دائما تولد في عقولنا، ثم يتحدد ما إن كانت سترى النور وتستمر أو ستزول وتموت على مدى إيمان الأشخاص بها، واتخاذهم الخطوات التي تنقلها من عالم الخيال إلى الحقيقة، وهذا ما حدث مع مجموعة من شباب أفريقيا الطامحين، الذين آمنوا بضرورة تحرير دولهم من يد المحتلين،  ليس هذا فحسب بل تكوين منطمة وحدوية تجمع كل الدول الأفريقية تحت غطائها.  

فعندما نقرأ هذه العبارة الخالدة والتي قالها الرئيس الغانى «كوامى نيكروما»، أحد أبرز الداعين للوحدة الأفريقية بين أبناء القارة.. وهي «إليكم عنا، فهذه بلادنا، ونحن أصحابها، ونحن جديرون أن نتولاها، لقد ولدنا اليوم، ولكننا ولدنا أقوياء». نرى أنها تعكس نضال الشعوب الأفريقية وما عانته من ظلم دول الاستعمار الغربية.

وحدة أفريقيا قبل نصف قرن كانت بمثابة حلم صعب المنال، لكنه بات واقعا الآن بجهود الآباء الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم تحرير دولهم من الاستعمار والحفاظ على سيادتها، ثم فكروا بعد ذلك بتكوين كيان لجمع دول القارة، يستطيعون من خلاله تحقيق التكامل والاندماج.

شهد عام 1958 أولى محاولات لم شمل الدول الأفريقية من خلال اجتماع أكرا (غانا) فى أبريل من نفس العام، بعقد مؤتمر أفريقى وحضرته الدول المستقلة وقتها، منها مصر، وإثيوبيا، وليبيا، والمغرب، وتونس، والسودان، وليبيريا، وكان الغرض من المؤتمر وضع سياسة مشتركة للشئون الخارجية والثقافية والاقتصادية.

وتحقق الحلم بتأسيس «منظمة الوحدة الأفريقية» التى عقدت مؤتمرها الأول فى أديس أبابا عام 1963، حيث اجتمع رؤساء 30 دولة أفريقية وتم إعلان إنشاء المنظمة والاتفاق على فتح عضويتها للدول الأفريقية المستقلة ذات السيادة، كما برز دور مصر فى الحفاظ على روح ميثاق المنظمة منذ أول قمة أفريقية استضافتها على أرضها بعد التأسيس عام 1964.

وفى 2002 تحولت «منظمة الوحدة الأفريقية» إلى «الاتحاد الأفريقى» بشكله الحالي، وارتفع الأعضاء من 30 دولة فى 1963 إلى 53 دولة عام 2002..

وهذا كله يؤكد أهمية الدور الذى لعبه رموز النضال الأفريقى الذين آمنوا بوحدة القارة وبذلوا جهودهم وفنوا أعمارهم كى يروها واقعا، وهم:

«كوامى نيكروما» (1909 ـ 1972)

ترجع فكرة الوحدة الأفريقية إلى الرئيس «كوامى نيكروما» رئيس غانا الذى بدأ ممارسة نشاطه على الصعيد الدولى والسعى لتحقيق حلمه فى الوحدة الأفريقية والعمل على مكافحة الاستعمار ومساندة حركات التحرر.

وكان «نيكروما» قد دعا لعقد «مؤتمر أكرا 1958»، وكان اللبنة الأولى لوحدة القارة، وبعدها دعم بقوة تأسيس «منظمة الوحدة الأفريقية»، كما رفض بشدة سياسة «التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا»، ومن أقواله الشهيرة فى مقاومة الاستعمار: «سوف يكون استقلالنا ناقصاً إذا لم يرتبط بتحرير البلاد الأفريقية كلها».

وجدير بالذكر أن «نيكروما» ربطته صداقة قوية بـ «جمال عبد الناصر»، ويقال أن ناصر تدخل لإتمام زواج «نيكروما» من الشابة المصرية «فتحية رزق» التى أصبحت «فتحية نيكروما» وحظت بشعبية كبيرة فى غانا بعد ذلك، وتيمنا باسم جمال عبدالناصر أطلقوا على أول أبنائهما اسم جمال وهو «جمال نيكروما»، ومُنح الزعيم «نيكروما» الدكتوراة الفخرية من جامعة القاهرة عام 1958.

جمال عبدالناصر (1918 ـ 1970)

كانت الدائرة الأفريقية الثانية بعد الدائرة العربية فى السياسة الخارجية التى تبناها الرئيس جمال عبدالناصر، وفقا لكتابه «فلسفة الثورة»، حيث ذكر أن السياسة المصرية الخارجية لها ثلاث دوائر الدائرة العربية والأفريقية والإسلامية، فكان توجهه نحو القارة الأفريقية قويا للغاية وكان يصفها دائما «بالقارة النابضة بالثورة»، وآمن بفكرة الوحدة بين دولها، ودعم اجتماع أكرا 1958، كما احتضنت مصر حركات التحرر فى الدول الأفريقية، وكان لها دور كبير فى نجاح نضالها فى أكثر من دولة؛ لذلك يعتز كثير من الأفارقة إلى الآن بالرئيس «جمال عبدالناصر» وما قدمه لقارته. وحينما مات نعاه الرئيس الكينى «جومو كينياتا» بقوله: «أنا واحد من أمّة كبيرة فُجعت فى «الوالد العظيم» حين فقدت رجلها الأول وقائدها. سنظل نذكر عبد الناصر دائما.. إن مساندته لحركة التحرر الأفريقية لم تكل أو تتوقف.. إن مأساتنا بفقد الرجل الكبير جمال عبد الناصر كبيرة.. لقد مضى القائد البطل فى سبيل أمته شهيدا.. لكنه خط الطريق».

أحمد سيكوتورى (1922- 1984)

يعد «أحمد سيكوتورى» من أبرز الوجوه التحررية الوحدوية فى القارة السمراء، وناضل كثيرا ضد الاستعمار الفرنسى لبلاده، وهو من مؤسسى منظمة الوحدة الأفريقية.

اتفق «سيكوتورى» مع «نيكروما» بعد اجتماع أكرا 1958 على إنشاء إتحاد غانا1959 على أمل ان يكون هذا الاتحاد نواة لوحدة أكبر، لكن الاقتراح لم يحظ بتأييد فقد فضلت الدول الأفريقية صيغة منظمة الوحدة الأفريقية، وبالفعل وجه جهوده لدعم المنظمة الوليدة.

ربطته علاقات قوية بالرئيس «جمال عبد الناصر» الذى سميت باسمه أكبر جامعة فى غينيا «جامعة جمال عبدالناصر» فى «كوناكرى»، ومنحه ناصر «قلادة النيل» أثناء زيارته مصر فى 1961، وحصل على الدكتوراه الفخرية فى التاريخ الإسلامى من جامعة «الأزهر الشريف» تقديرا لدوره وكفاحه ضد المستعمر فى القارة الأفريقية وتوفى سيكوتورى مارس 1984 إثر نوبة قلبية.ومن أقواله «هناك اختلاف تام بين الحضارة الأفريقية الأصيلة والحضارة الغربية، وأى محاولة لإيجاد مجتمع مصطنع التركيب عن طريق المزج بينهما ليس سوى محاولة تتعارض مع الواقع».

الرئيس السنغالى سنجور ( 1906 ـ 2001)

كان «ليوبولد سيدار سنجور» أحد الذين تلقوا تعليمهم فى فرنسا، وخطط فى البداية ليكون راهبا كاثوليكيا لكن الشعر خطفه، واستغرقته السياسة، ولبراعته فى اللغة الفرنسية أكمل تعليمه فى جامعة السوربون، وكان أول أفريقى (جنوب الصحراء) يتخرج منها ويحصل على درجة «الاجريجاسيون» التى تفوق الدكتوراه فى النحو الفرنسى، وكذلك أول أفريقى يتم تعيينه فى المعاهد الفرنسية للتدريس.لقب بـ (حكيم أفريقيا ) وأثر فى مفكرين كبار وأدباء مثل سارتر الفرنسى، وأصبح رئيسا للسنغال عام 1960 فى دولة الأغلبية العظمى بها مسلمون وحظى بشعبية كبيرة للغاية بين أبناء دولته، وبعد عشرين عاما من الحكم تنازل عن الرئاسة لصالح رئيس وزرائه «عبده ضيوف«.

وحلم سنجور بأفريقيا موحدة رغم ميله لفرنسا، وكان من المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية. وقال فى إحدى قصائده:

غداً.. فى الطريق إلى أوروبا.. أمضى سفيراً

والحنين لبلدى الأسود يغمرنى.

جوليوس نيريرى (1922 ـ 1999)

يعتبر «نيريرى» أحد أكبر رموز وحدة أفريقيا منذ 1963، وكان ينادى دائمًا بشعار الوحدة الإفريقية، وتبنى قضايا القارة ودافع عنها فى كل مختلف المحافل الدولية.

درس فى بريطانيا، وآمن بالدور القوى للتعليم فى تحرير الشعب؛ وبعد عودته لبلاده عمل بالتدريس وسعى لمحو أمية مواطنيه قبل أن ينخرط فى العمل السياسي. ولشدة معاناة بلاده من ويلات الاستعمار البريطانى، قاد «نيريرى» النضال فى وطنه حتى استطاع بدعم شعبه التخلص من الاستعمار، وأصبح أول رئيس لـ «تنزانيا» (تنجانيقا وزنجبار) عام 1964، وظل فى الحكم حتى عام 1985م حيث تخلى طواعية عن منصب الرئاسة. وصفه الرئيس جمال عبدالناصر فى خطاب جمع الزعيمين فى مصر بأنه «تلميذ شعبه ومعلمه»، وأحد الأفريقيين العظام فى زمنه. وهناك آخرون كان لهم دور مهم فى تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية مثل الإمبراطور الإثيوبى «هيلا سيلاسى»، والرئيس المالى «مودبو كيتا»، ورئيس الكاميرون الرئيس «أحمدو أهيجو».

والآن. بعد عقود من جهود الآباء نرى أن وحدة القارة لم تكتمل بشكل نهائى بعد، فالصعوبات التى تواجه الاتحاد الأفريقى حاليا كثيرة، وبات لزاما على الأبناء والأحفاد استكمال طريق الآباء المؤسسين، فالعالم يتجه إلى التكتل والدول القطرية لا تستطيع أن تفعل بمفردها شيئا، لأن الطريق طويل والتحديات أمام التكامل الكلى ليست بالشئ الهين، والأمر يحتاج لإرادة قوية من زعماء القارة لتحقيقه.