كتبت – مريم عبد الحي فراج

باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية

في الأشهر القليلة الماضية، تزايدت الدلالات على دخول العلاقة بين موريتانيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) طورًا جديدًا؛ فقد تجلَّى هذا التطور بوضوح من خلال سلسلة زيارات رسمية بارزة في مايو 2024. ففي الثالث من مايو، قام الأميرال بوب بوور، رئيس اللجنة العسكرية للناتو، بزيارة نواكشوط، ما عكس اعترافًا قويًا بالدور الاستراتيجي المتنامي لموريتانيا في منطقة الساحل والصحراء. تلتها زيارة وزير الدفاع الموريتاني، حننا ولد سيدي، إلى مقر الناتو في بروكسل في التاسع والعشرين من الشهر ذاته. هذه التحركات تُمثل نقطة تحول حاسمة في ترسيخ دور موريتانيا كشريك رئيسي للناتو في المنطقة.

محددات الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو

1 – الوضع الجيوسياسي لموريتانيا

تعد موريتانيا بموقعها الجغرافي الاستراتيجي نقطة التقاء حيوية بين شمال وغرب أفريقيا، مما يعزز أهميتها في المشهد الأمني الإقليمي؛ فبفضل موقعها المحوري بالقرب من المغرب وفي قلب منطقة الساحل، تلعب نواكشوط دورًا أساسيًا في جهود الأمن الإقليمي ومواجهة التحديات المشتركة التي تستحوذ على اهتمام كل من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الأفريقية. وبالرغم من الاضطرابات الأمنية التي تشهدها المنطقة، استطاعت موريتانيا الحفاظ على استقرارها الداخلي، إذ لم تشهد البلاد أي هجمات إرهابية منذ فترة طويلة، الأمر الذي يعزز مكانتها كواحة استقرار في منطقة مليئة بالتحديات.

هذا الاستقرار السياسي تجلى بوضوح في الانتقال السلمي للسلطة بعد انتخابات 2019، حيث تولي الرئيس محمد ولد الغزواني الحكم خلفًا لمحمد ولد عبد العزيز. وقد ساهم هذا المناخ المستقر في جذب اهتمام القوى الغربية، مما أدى إلى تعزيز التعاون العسكري بين الجيش الموريتاني والناتو. كما أبرمت نواكشوط اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي لمكافحة الهجرة غير الشرعية. وفي الوقت ذاته، حافظت موريتانيا على سياسة خارجية متوازنة مع مختلف الأطراف الدولية، ما يعزز من مكانتها كركيزة استراتيجية في توازن القوى الكبرى الساعية لتعزيز نفوذها في المنطقة[1].

2 – التحديات الأمنية العالمية القادمة من الشرق الأوسط

تأثرت الاستراتيجية العالمية لحلف الناتو بالتحديات الأمنية القادمة من منطقة الشرق الأوسط، التي أصبحت تمثل تهديدًا متزايدًا للأمن الغربي. وقد تجسدت هذه التحديات بشكل واضح في الحرب في غزة والحرب الأوكرانية، حيث أبرزت النزاعات الأخيرة نفوذ القوى الإقليمية وتأثيرها المباشر على الاستقرار العالمي. ففي الحرب الأوكرانية، لعبت الطائرات المسيّرة الإيرانية دورًا حيويًا في دعم روسيا، ما أثر على الدفاعات الأوكرانية والأهداف الاستراتيجية. أما في سياق الحرب في غزة، فقد تسببت النزاعات في تهديد مسارات التجارة العالمية والتحكم في موارد الطاقة، عبر الهجمات على السفن في البحر الأحمر[2].

في هذا الإطار، تُمثل موريتانيا نقطة ارتكاز استراتيجية للناتو، بفضل موقعها الجغرافي وأمنها النسبي، مما يعزز دورها كشريك رئيسي في مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية.

دوافع جوهرية

1 – تنامي النفوذ الروسي في منطقة الساحل

يمكن تفسير التحركات المتزايدة لحلف شمال الأطلسي نحو تعزيز التعاون العسكري والتنسيق مع موريتانيا في سبيل تحقيق مجموعة من العوامل المتعددة، يتمثل أبرزها فيما يلي:

أحد الدوافع الرئيسية وراء التحركات المتسارعة لحلف شمال الأطلسي لتعزيز التنسيق والتعاون العسكري مع نواكشوط يتمثل في الفراغ الاستراتيجي الذي أعقب سلسلة الانقلابات العسكرية في دول الساحل، لا سيما في (مالي، النيجر، وبوركينا فاسو). هذه الانقلابات أسفرت عن فك الارتباط بين هذه الدول والأنظمة الغربية، وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة، في مقابل تنامي النفوذ الروسي عبر تعزيز وجود قوات فاغنر، خصوصًا في مالي وبوركينا فاسو. وقد تطورت هذه الآلية لاحقًا لتفضي إلى تأسيس “الفيلق الأفريقي-الروسي”، الذي برز دوره بشكل ملحوظ مع مطلع عام 2024 في عدة دول أفريقية، من بينها تشاد، مالي، النيجر، ليبيا، والسودان. هذا التمدد الروسي أثار مخاوف جدية لدى دول جنوب الأطلسي، خاصة في الجانب الأوروبي، إزاء احتمال تطويق مصالحها في العمق الأفريقي في ظل الحرب المفتوحة والصراعات الممتدة بين روسيا والناتو[3].

2 – البحث عن شركاء جدد  

وفي هذا الصدد، لم تكن موريتانيا بمنأى عن محاولات موسكو لتعزيز حضورها العسكري في المنطقة، فقد وقَّعت الدولتان اتفاق تعاون عسكري خلال مؤتمر موسكو للأمن الدولي في يونيو 2021. وفي ذلك الوقت، ترددت مزاعم حول نية روسيا بناء قاعدة بحرية شمال موريتانيا لتعزيز نشاطها في كل من شمال أفريقيا وجنوب أوروبا. غير أن الشراكة الجديدة بين “الناتو” وموريتانيا تهدف بالأساس إلى التصدي للتوسع الروسي المتزايد في منطقة الساحل. هذا التوجه جاء متزامنًا مع خطوات مشابهة تم اتخاذها تجاه الجزائر، بهدف الحد من النفوذ الروسي التاريخي هناك، حيث لعبت كل من “فرنسا وإيطاليا” دورًا دبلوماسيًا محوريًا في تحقيق هذا الهدف.

3 – التصدي لمزاحمة الوجود الصيني

في ضوء التنافس الجيوسياسي المتزايد بين الجزائر والمغرب ضمن معادلة القوى الإقليمية في شمال أفريقيا، ومع انشغال البلدين بصراع بارد ممتد، تحولت أنظار حلف الناتو نحو بناء شراكات جديدة تعزز مصالحه الاستراتيجية. وبرزت موريتانيا كبديل حيوي لهذه الشراكات، مدعومة بعدة عوامل. أولها: نجاحاتها المتتالية في مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة. ثانيًا: اتباعها سياسة خارجية متوازنة بين القوى الإقليمية والدولية، مما أبعدها عن الانخراط في التحالفات المتصارعة. ثالثًا: موقعها الجغرافي الاستراتيجي، كونها بوابة الغرب الأفريقي الجنوبية، مما يجعلها خط الدفاع الأول ضد التهديدات العابرة للحدود كالإرهاب والهجرة غير النظامية. رابعًا: اكتشافاتها المتزايدة في مجال الغاز، خاصة في حقل “آحميم” المشترك مع السنغال، ما عزز من أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية. هذه المقومات دفعت الناتو لتعزيز تعاونه مع نواكشوط، متجاوزًا بعض المساحات التقليدية للتنافس بين الجزائر والمغرب[4].

تُمثِّل الصين إحدى أبرز القوى التي تُثير قلق حلف الناتو والدول الغربية في منطقة الساحل، حيث تسعى لتعزيز وجودها في موريتانيا كجزء من استراتيجيتها الإقليمية الرامية لزيادة نفوذها. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الصين تُعتبر قوة اقتصادية متنامية تسعى إلى توسيع دائرة تأثيرها في القارة الأفريقية. وقد تجلَّت هذه المساعي بوضوح خلال الاجتماع الذي جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ بنظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في يوليو الماضي بمدينة تشنغدو. يُعتبر هذا اللقاء الثاني بين القائدين خلال فترة لا تتجاوز ثمانية أشهر، إذ سبق أن التقيا في قمة مشتركة للصين والدول العربية في السعودية في ديسمبر 2022[5].

وعلاوةً على ذلك، أسفرت الزيارة الأخيرة للرئيس الموريتاني إلى الصين عن إعفاء بكين لموريتانيا من ديون تصل إلى 150 مليون يوان صيني (حوالي 20 مليون دولار أمريكي)، فضلًا عن توجيه الشركات الصينية للاستثمار داخل البلاد وتوقيع اتفاق إطار للتعاون في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. كما تسعى الصين أيضًا إلى تأكيد مكانتها كقوة عظمى على المستوى الأفريقي، خاصة في خضم الحرب الباردة الجديدة مع الغرب، وذلك لضمان وصولها غير المقيد إلى المعادن الثمينة والموارد الطبيعية الحيوية للاقتصاد والمصالح العسكرية الصينية[6].

نتيجة لذلك، يُعتبر النشاط التجاري المتزايد للصين مصدر قلق كبير للناتو، الذي يعتبر أن التوسع الاقتصادي لبكين قد يُسهم بشكل مباشر في تعزيز نفوذها داخل القارة الأفريقية.

4 – مجابهة مساعي إيران لبسط نفوذها في غرب أفريقيا

 في ظل التحولات الجيوسياسية المعقدة التي يشهدها الساحل الأفريقي، تسعى إيران بشكل متسارع إلى استغلال الفراغ الأمني القائم لتعزيز وجودها. ومن خلال تقديم نفسها كقوة دينية وسياسية، تتحرك طهران بخطوات محسوبة نحو بسط نفوذها في المنطقة. وقد تجلّت هذه الجهود في زيارات رفيعة المستوى لمسؤولين إيرانيين، مثل زيارة وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، محمد مهدي إسماعيلي، الذي التقى وزير الشؤون الإسلامية الموريتاني لبحث سبل التعاون بين البلدين. كما قام وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، بزيارة نواكشوط في يناير 2023، حيث ناقش تعزيز العلاقات الثنائية في مجالات مختلفة، بما في ذلك مواجهة الإرهاب في غرب أفريقيا وتعزيز التعاون الاقتصادي. وتأتي هذه التحركات في إطار مساعي إيران لموازنة النفوذ المتنامي لحلف الناتو في المنطقة، ومحاولة تأمين موقع استراتيجي لها في غرب أفريقيا، خاصة في ظل تزايد التوترات حول الملف النووي. من هنا، يدرك الناتو تمامًا ضرورة مواجهة تلك المساعي الإيرانية التي تهدد مصالحه الإقليمية وتوازن القوى في منطقة الساحل والصحراء[7].

5 – تعزيز أمن الطاقة الأوروبي

في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها خريطة الطاقة العالمية، تبرز موريتانيا كلاعب رئيسي بعد اكتشافات حقل غاز “السلحفاة أحميم الكبير” في عام 2023، والذي يحتوي على احتياطيات تتجاوز 100 تريليون متر مكعب، حسبما أفاد وزير البترول والطاقة الموريتاني. هذا الاكتشاف ليس مجرد خطوة اقتصادية، بل يمثل تحوّلًا استراتيجيًا يمكّن البلاد من الارتقاء إلى مصافّ الدول الكبرى المصدِّرة للطاقة، في وقت يتسم بتعقيدات العلاقات بين الجزائر وروسيا وبتذبذبات العلاقات الجزائرية-الأوروبية.[8]

وفي هذا الصدد، يسعى حلف الناتو إلى تعزيز شراكته مع موريتانيا، حيث يركز على توسيع التعاون في قطاع الطاقة المتجددة، لا سيما في مجال الهيدروجين الأخضر. وقد تم في أكتوبر 2023 توقيع اتفاقية بين الاتحاد الأوروبي وبنك الاستثمار الأوروبي، بمشاركة فرنسا وإسبانيا وألمانيا، لدعم تحول قطاع الطاقة وتطوير اقتصاد الهيدروجين الأخضر، بهدف تصديره إلى أوروبا مستقبلًا[9].

تفتح هذه الديناميكيات آفاقًا جديدة لتوريد الطاقة، مما يجعل استغلال موارد الغاز الموريتانية خطوة حيوية لتعويض النقص الناتج عن وقف صادرات الغاز الروسية والجزائرية، وتعكس الأهمية المتزايدة لموريتانيا في مشهد الطاقة العالمي.

وفي الختام، تبرز أهمية موريتانيا كحليف استراتيجي لحلف شمال الأطلسي في إطار الصراع الجيوسياسي المعاصر. إذ تُعزز الشراكة المحتملة بين نواكشوط والحلف آفاق التعاون العسكري والأمني. ورغم وجود احتمالات لتعزيز الوجود الأطلسي عبر قواعد عسكرية، فإن التعاون سيتجلى بشكل أساسي في مجالات الدعم المؤسسي والتكوين العسكري والاستشارات الاستخباراتية. هذه الديناميكيات تعكس إدراك الحلف للتحديات الأمنية المتزايدة في المنطقة، مما يمهد الطريق أمام شراكة راسخة تسهم في تحقيق الاستقرار وتعزيز الأمن الإقليمي، مع وضع موريتانيا في قلب هذه التحولات الاستراتيجية.


[1] أحمد شياخ، الحضور الروسي في منطقة الساحل الأفريقي.. بين الواقع والمأمول، مركز الدراسات العربية الأوراسية، مايو ٢٠٢٤.  https://n9.cl/e00w4

[2] شيماء عبد الحميد، مكتب للناتو في الأردن.. السياق والدلالات،مركز شاف، يوليو 2024. https://shafcenter.org/
[3] عبدالمنعم علي، تقاربٌ متنامٍ: الناتو وموريتانيا ومعادلة الأمن الإقليمي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أغسطس ٢٠٢٤.  https://ecss.com.eg/47259/

[4] عبد المنعم علي، بديل استراتيجي: هل تكون موريتانيا مدخلا جديدا لحلف الناتو إلى الساحل الأفريقي؟ المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، اغسطس 2022. https://ecss.com.eg/20683/

[5] ريهام محمد، آفاق الشراكة بين الناتو وموريتانيا: المظاهر والدوافع، مركز شاف، أغسطس 2024.  https://shafcenter.org/

[6] أقريني أمينوه، موريتانيا “شريكة الناتو” تشق طريقها نحو الصين وروسيا، إندبندنت عربية، أغسطس ٢٠٢٣. https://www.independentarabia.com/node/479631/  
[7] إيران تراهن على موريتانيا والجزائر لتقوية النفوذ في شمال أفريقيا والساحل، هسبريس، أبريل ٢٠٢٣. https://n9.cl/w3uig

[8]  ريهام محمد، مرجع سبق ذكره

[9] عبدالرحمن عمار، خاص: موريتانيا في قلب التنافس بين الغرب وروسيا والصين، i24 نيوز، مايو ٢٠٢٤.

https://www.i24news.tv/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AA/artc-e9364254