إعداد –  د. جيهان عبد السلام عباس

مدرس الاقتصاد – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة.

 قبل عام 2020، كانت الدول الأفريقية من بين أسرع الدول نموًا في العالم، لتأتي الجائحة لتُهدر عقودًا من المكاسب الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت بشق الأنفس في القارة؛ فلأول مرة، ومنذ ما يقرب من ثلاثة عقود، يُدفع نحو 50 مليون أفريقي إلى براثن الفقر المدقع، ومع تعافي معدلات النمو الاقتصادي في نهاية عام 2021 لتصل إلى 4.5 %. سرعان ما ظهرت الحرب الروسية الأوكرانية لتطول تداعياتها جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أفريقيا[1]. وبدأت الحكومات والمؤسسات الأفريقية في التدافع لاحتواء تلك التداعيات الاقتصادية، خاصة بعد أن ضُربت أفريقيا بموجة ارتفاع كبيرة في معدلات التضخم اجتاحت أسعار الغذاء ومصادر الطاقة، وجاء ذلك مواكبًا لما تم من حظر لسلاسل التوريد وصعوبة وصول السلع الزراعية في المنطقة نتيجة للحرب.

 ومن هذا المنطلق، تستعرض تلك الدراسة مظاهر التضخم في أفريقيا مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والأسباب التي أدت إلى تصاعده، كذلك الانعكاسات المترتبة على ارتفاع الأسعار المتواصل، وجهود الحكومات الأفريقية لاحتوائه.

أولًا – مظاهر التضخم في أفريقيا جنوب الصحراء:

إن أحد أكثر الآثار الضارة للحرب في أوكرانيا هو ارتفاع الأسعار بشكل كبير، لتشمل مختلف أنواع الحبوب والسلع ومصادر الطاقة، والدول التي يشكل فيها النقل والغذاء حصة كبيرة من مؤشر أسعار المستهلك، هي الأكثر تأثرًا بارتفاع أسعار السلع الأساسية؛ فمثلا يمثل الغذاء والنقل حوالي 57٪ من مؤشر أسعار المستهلك في نيجيريا، و54٪ في غانا، وهي أحد الدول الأفريقية التي تعاني من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار.[2] ووفقًا لمؤشر أسعار الغذاء لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، فإن أسعار الحبوب وصلت إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق بين عامي 2019 ومارس 2022، وارتفعت بنسبة 48 و35 % على التوالي، ما يضر بشكل كبير بدول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي تواجه بالفعل تحديات ديموغرافية هائلة، خاصة في ظل الاعتماد المفرط على الواردات، والهشاشة الاقتصادية التي تعاني منها معظم دولها.[3] حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية في المنطقة التي تمثل حوالي 40 % من الإنفاق الاستهلاكي خاصة (القمح) الذي يتم استيراد 85 % منه من روسيا وأوكرانيا[4]. كما تعكس الزيادات في الأسعار لعام 2022 – وهي الأعلى على الإطلاق – نحو (248.6 نقطة) للزيوت النباتية، والحبوب (170.1 نقطة)، وقد بلغت معدلات الزيادة في تضخم أسعار المواد الغذائية لدول أفريقيا جنوب الصحراء أعلى من المتوسط العالمي بنسبة (12.6٪) خلال هذه الفترة[5]. وتزايدت توقعات التضخم الإجمالية للمنطقة لعام 2023 بمقدار 260 نقطة أساس إلى 11.6٪ بدلًا من 8.8٪.[6]

 ومن أمثلة الدول الأفريقية التي شهدت ارتفاع ملحوظ في معدلات التضخم، إثيوبيا وغانا ونيجيريا ومالاوى، كما هو موضح في الشكل رقم (1)؛ حيث شهدت غانا ارتفاع معدل التضخم إلى 15.7 % وسط ارتفاع في أسعار الوقود وخسارة تقارب 16 % في قيمة عملتها مقابل الدولار هذا العام. كذلك الحال في نيجيريا، ارتفع سعر وقود الديزل بنسبة 190 %، حيث تعتمد البلاد على الواردات رغم كونها أكبر منتج للنفط في القارة. (نيجيريا لديها عدد قليل من المصافي التي تعمل بطاقتها الإنتاجية، لذلك فهي تصدر النفط الخام وتستورد تقريبًا كل البترول المكرر، بما في ذلك البنزين والديزل). وفي إثيوبيا، التي تواجه مزيجًا من التحديات بما في ذلك الضغوط التضخمية وندرة العملة الأجنبية، والتي تفاقمت بسبب الحرب في تيغراي، ارتفع سعر الأسمدة بنسبة 200٪، وهذا يضاف إلى النقص في المنتجات المستوردة مثل الأدوية وحليب الأطفال التي ارتفعت أسعارها بنسبة 32 %، وانخفضت قيمة البر الإثيوبي إلى حوالي 82 مقابل الدولار في السوق غير الرسمية، انخفاضًا من 60 في أوائل يونيو[7]. كما شهدت دول مثل تنزانيا التي ارتفع فيها معدل التضخم الإجمالي بنسبة 34٪ بين فبراير وأبريل فقط من عام 2022. وفي ناميبيا، ارتفعت تكاليف النقل بنسبة 20 % بين مارس وأبريل. أما الكاميرون فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 26 % بين فبراير ومارس فقط من العام ذاته[8]. وفي السودان، ارتفع متوسط تكلفة سلة الغذاء بنسبة 700 % في العامين الماضيين 2021، و2022[9]. وفى زيمبابوي ، تواجه مشاكل أسوأ بكثير وأوسع نطاقًا من ذي قبل، خاصة في ظل الانخفاض الحاد في مستويات الحبوب التي يمكن استيرادها، حيث تعتمد زيمبابوي على روسيا وأوكرانيا في استيراد القمح. إضافة إلى ذلك، أدى تغير المناخ إلى تأجيج أزمة الغذاء في زيمبابوي، ونتج عن الجفاف إعاقة الزراعة في أجزاء عديدة من البلاد.[10]

شكل رقم (1) تطور معدلات التضخم (الرقم القياسي لأسعار المستهلكين) لبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء خلال عام 2022

Source : Financial Times, “Global inflation pushes millions of Africans back into poverty” , Oct.2022 , available at :
https://www.ft.com/content/21566b53-37f2-448c-a172-afdd2b3bd7ab

ثانيًا- الأسباب الاقتصادية وراء ارتفاع التضخم في أفريقيا :

  • صعوبة الحصول على الواردات الهامة وارتفاع أسعارها: تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا تهديدًا للأمن الغذائي للملايين في دول العالم المختلفة؛ حيث أدت الحرب إلى تقليص الصادرات الغذائية من أوكرانيا وروسيا، وخاصة القمح والذرة وزيت عباد الشمس، ما أدى إلى تراجع المعروض من تلك السلع وارتفاع أسعارها، وزيادة الطلب على المنتجات البديلة، كذلك خفض صادرات الأسمدة من البحر الأسود، أدى إلى تغيير في كمية وطبيعة المحاصيل المنتجة. بالإضافة إلى ذلك فرضت عشرون دولة حظرًا على تصدير المواد الغذائية في محاولة للحد من تأثير ارتفاع أسعار المواد الغذائية على السكان المحليين، مع تقليل الإمدادات في الأسواق العالمية، ما أدى إلى ضغط تصاعدي في أسعار المواد الغذائية والأسمدة؛ إذ وصل (مؤشر الفاو لأسعار الغذاء) إلى أعلى مستوى له منذ خمسين عامًا في مارس كما هو موضح بالشكل رقم (2) 2022، وذلك يأتي أيضا بعد عامين من الزيادات المطردة في الأسعار بسبب جائحة Covid-19.[11].

شكل رقم (2) تطور مؤشر الفاو لأسعار الغذاء خلال الفترة (1962-2022)

Source: Food & Agriculture Organization , FAO Food Price Index, 2023 , available at :

https://www.fao.org/worldfoodsituation/foodpricesindex/en/

وعلى الرغم من أن مستوى التجارة بين القارة الأفريقية ككل وروسيا وأوكرانيا ضئيل نسبيًا، إلا أن تجارة الحبوب بينهما مرتفع إلى حد كبير؛ حيث تمثل واردات القمح ما يقرب من نصف تجارة أفريقيا مع أوكرانيا البالغة 4.5 مليار دولار لعام 2021، ونحو 90 % من تجارة القارة مع روسيا البالغة 4 مليارات دولار، وذلك وفقًا لبيانات بنك التنمية الأفريقي. كما أن بعض الدول الأفريقية تعتمد بشكل كبير على هذين البلدين للحصول على بعض الواردات الهامة، وخاصة القمح والأسمدة والصلب، خاصة في ظل أن الدولتين مصدر لنحو 30-35% من الحبوب عالميًا. ويؤثر انقطاع هذه الواردات سلبًا على البلدان الأفريقية؛ حيث أثر انقطاع الإمدادات من القمح والحبوب عقب الحرب الروسية، ثم ارتفاع أسعاره بشكل كبير على إمكانية حصول الدول الأفريقية عليه، وارتفاع فاتورة استيراده. كما عززت هيمنة الغذاء والوقود في سلة المستهلكين الإجمالية لأفريقيا جنوب الصحراء من الانتقال بأسعار الغذاء والوقود إلى التضخم الكلي. وتمثل الأغذية والحبوب أعلى نسبة من سلة المستهلك في أفريقيا جنوب الصحراء، تليها تكاليف الوقود والمرافق. وقد أدى الارتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية إلى زيادة الطلب على واردات الوقود المكرر في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى نظرًا لنقص قدرة التكرير المحلية وعدم كفايتها.

  فعلى سبيل المثال، تستورد كينيا ما يقرب من 30 % من قمحها من روسيا وأوكرانيا، ومع ارتفاع أسعار القمح والحبوب عالميًا، أثر ذلك سلبًا على إنتاج الخبز في كينيا، الذي هو ثالث أكثر المواد الغذائية استهلاكًا في ذلك البلد. كما استوردت الكاميرون 44 % من الأسمدة من روسيا في عام 2021، ومع ارتفاع أسعار الأسمدة ارتفعت أيضًا فاتورة استيرادها. وفي غرب أفريقيا، هناك دول مثل الكونغو وتنزانيا والسنغال وجمهورية الكونغو الديمقراطية، لديها جميعًا أكثر من 50٪ من إجمالي وارداتها من القمح تأتي من روسيا. كما يأتي أكثر من 65٪ من واردات القمح السنغالي من روسيا وأوكرانيا. في الوقت نفسه وبالمثل، فإن 60 % من واردات خام الحديد والصلب في غانا تأتي من أوكرانيا. نتيجة للحرب، من المرجح أن تواجه صناعة البناء في غانا تحديات كبيرة. وكل ذلك يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع التي تستوردها القارة ما يرفع من أسعار بيعها للمستهلك المحلي؛ وبالتالي دفع معدلات التضخم نحو الارتفاع[12].

  • تراجع الإيرادات الحكومية للموزانات الأفريقية: أدى مزيج من الوباء والحرب في أوكرانيا إلى خفض عائدات التجارة والضرائب للحكومات في جميع أنحاء أفريقيا، كما زادت المديونية العامة في جميع أنحاء أفريقيا، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار الفائدة على الديون، وقد أدت تلك الظروف إلى خفض التصنيف الائتماني وزيادة تكاليف الاقتراض بالنسبة للبلدان الأفريقية؛ حيث أكد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن التصنيفات الائتمانية لنحو ست دول أفريقية قد تراجع منذ اندلاع الحرب الروسية، وقد كلف ذلك تلك الدول نحو 13 مليار دولار من مدفوعات أسعار الفائدة الإضافية [13]. وقد أثر كل ذلك على الإنفاق الحكومي، ورفع من أسعار مختلف الخدمات التي تقدمها الدول الأفريقية لمواطنيها، ما دفع بالتضخم نحو الارتفاع.
  • تقلبات أسعار الصرف للعملات الأفريقية: تراجعت معظم أسعار صرف العملات في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مقابل العملات الأجنبية وخاصة الدولار الأمريكي، خاصة في الربع الثاني من عام 2022. وأدت مخاوف الديون السيادية وظروف السوق غير المواتية إلى تأخير الخطط النقدية لبعض الدول، فمثلًا كينيا ونيجيريا أجلت خطط لإصدار سندات دولية خلال الربع الثاني من عام 2022. وأدى نقص العملة الصعبة إلى إدخال ضوابط على رأس المال في كينيا. كما خفضت ملاوي قيمة عملتها بنسبة 25٪، ورغم ذلك استمر انخفاض إجمالي احتياطي النقد الأجنبي بما لا يسمح بتغظية أقل من شهرين من غطاء الواردات. وقد ضاعفت العملات هزيلة القيمة من ضغوط تكلفة استيراد المدخلات العالمية، ما يدفع التضخم نحو الارتفاع.
  • التغيرات المناخية: ألحقت الظواهر المناخية المتطرفة الناجمة عن تغير المناخ أضرارًا بحصاد بعض المحاصيل؛ حيث تسبب تغير المناخ في تراجع إنتاجية أهم المحاصيل في أفريقيا مثل (القمح والأرز والذرة)، وترتب على هذا التراجع في العرض ارتفاع أسعارهم بشكل ملحوظ، فقد تراجع إنتاج الأرز بنسبة تصل إلى 23% مع ارتفاع سعره إلى 89 %. كذلك تراجعت إنتاجية القمح والذرة بنسب تصل إلى 13%، و12%، مع ارتفاع أسعارهما بنسب بلغت نحو 75%، و90% على التوالي، وذلك وفقًا لآخر بيانات متاحة لعام [14]2018.

ثالثًا – انعكاسات التضخم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أفريقيا:

يمثل التأثير الأكثر وضوحًا للتضخم في حالة عدم الاستقرار المالي التي تشهدها الدول الأفريقية وخاصة الأكثر فقرًا فهم الأكثر تضررًا؛ حيث إن نسبة كبيرة من إنفاقهم الاستهلاكي ينفق على الغذاء ووسائل النقل. ومن المرجح أن يستمر انعدام الأمن الغذائي في ظل ارتفاع أسعار الغذاء، وأن يكون له تأثير سلبي على جميع جوانب التنمية البشرية من الدخل إلى الصحة والتعليم. وتتنبأ مجموعة الاستجابة للأزمات العالمية التابعة للأمم المتحدة والمعنية بالغذاء والطاقة والتمويل، بأزمة تكاليف معيشية عالمية تنتقل من خلال ارتفاع أسعار المواد الغذائية وارتفاع أسعار الطاقة وتشديد الأوضاع المالية[15].

  كما ينذر ارتفاع التضخم وما تلاه من ارتفاع في أسعار الفائدة، بإيجابية أقل لتوقعات النمو في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، خاصة في ظل استمرار مخاوف الركود العالمي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وستحدد شدة الركود العالمي ومدته ما إذا كانت منطقة أفريقيا جنوب الصحراء ستسجل انكماشًا في الناتج المحلي الإجمالي في 2022-2023.[16] كما أكدت وكالة الطاقة الدولية، على أنه بحلول نهاية هذا العام 2023، قد لا يتمكن ما يصل إلى 30 مليون أفريقي من تحمل تكلفة وقود البترول المسال لطهي الطعام الذي يأكلونه. مثل هذا التطور من شأنه أن يمثل تراجعًا اقتصاديًا، وقد أكد عليه البنك الدولي أنه قد يرفع العدد الإجمالي للأفارقة الذين يعيشون في فقر مدقع من 424 مليون قبل الوباء في 2019 إلى 463 مليون لعام 2023.[17] كما أن ارتفاع أسعار الطاقة والأغذية والأسمدة سيكون له أكبر الخسائر في المناطق الريفية الأفريقية، ليس فقط على المستهلكين، ولكن أيضًا على المنتجين؛ حيث يقدر البنك الدولي أن الأسر الفقيرة في أفريقيا جنوب الصحراء تنفق ما يقرب من 75٪ من دخلها على الغذاء. هذا بالمقارنة مع 10.8٪ من متوسط دخل الأسرة في الدول المتقدمة[18]. كما أن مستويات الدين الخارجي في أفريقيا جنوب الصحراء هي الآن أعلى بكثير مما كانت عليه نتيجة التضخم وارتفاع أسعار الفائدة؛ حيث تم تصنيف أكثر من 50٪ من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء في سلسلة درجات المخاطر السيادية متوسطة الأجل للديون.[19]

  ومن المرجح أن تستمر آثار الحرب الروسية في أوكرانيا على الأمن الغذائي حتى عام 2023 على الأقل؛ حيث أكدت وزارة الزراعة الأمريكية في أحدث تقرير لها عن العرض والطلب على الزراعة في العالم، قدمت وزارة الزراعة أول توقع لها لتأثير الحرب على محصول القمح القادم في أوكرانيا (2022-2023)، وخفضت الصادرات المتوقعة بمقدار 11.5 مليون طن متري، أي أقل بنسبة 35 % من 2021-2022. بغض النظر عن طول الحرب، ستؤثر الأزمة بالفعل على صحة ورفاهية الأجيال القادمة وما يحصلون عليه من الغذاء؛ فعندما ترتفع أسعار المواد الغذائية، يتحول الاستهلاك من الأطعمة الأغلى ثمنًا التي تحتوي على عناصر غذائية إلى أغذية أقل تكلفة وذات قيمة غذائية أقل، ما يؤدي إلى زيادة حالات سوء التغذية. وفي غياب المساعدة التغذوية المستهدفة، سيزداد سوء التغذية بين الأطفال والنساء، مع آثار مدى الحياة على النمو البشري والاقتصادي. كما أشار مجتمع الاستخبارات الأمريكية إلى أن “الإمدادات الكبيرة القابلة للتصدير من المكونات الرئيسية لإنتاج الغذاء – مثل الفوسفات والبوتاس وزيت الوقود – تأتي من الدول التي يمكن أن يتسبب فيها الصراع أو الإجراءات الحكومية في سلسلة التوريد، إلى الاضطرابات التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار[20] “.

  كما أن البلدان التي لديها أعلى معدل لتضخم أسعار المواد الغذائية هي أيضًا اقتصادات معرضة للصراعات في كثير من الأحيان خاصة في الدول التي تعاني بالفعل من اضطرابات اجتماعية، فمثلا ًفي دول غرب أفريقيا، سيؤدي الواقع القاسي المتمثل في ارتفاع تكاليف المعيشة وارتفاع أسعار الفائدة إلى تكثيف مخاطر الاضطرابات الداخلية، والتي تمثل بالفعل إشكالية بسبب سلسلة من الانقلابات والحكومات غير المستقرة وأحداث تغير المناخ المعاكسة التي تشهدها المنطقة.

رابعا- السياسات الاقتصادية الأفريقية لمواجهة التضخم:

  اتجهت الدول الأفريقية إلى استخدام أدوات السياسة المالية والنقدية في محاولة الحد من التضخم ومواجهته، وكانت أدوات السياسة النقدية هي الأكثر استخدامًا نظرًا لسرعة تأثيرها في المتغيرات الاقتصادية المختلفة؛ حيث اتخذت البنوك المركزية إجراءات أكثر تقييدًا للسياسة النقدية كوسيلة مواجهة التضخم والحد منه وسحب سيولة نقدية من الاقتصاد؛ حيث ارتفعت أسعار الفائدة في الشهور الأخيرة من عام 2022 لبلدان عديدة مثل بوتسوانا وغانا وكينيا وملاوي ونيجيريا وجنوب أفريقيا وأوغندا، والدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا مثل: بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو. حيث قام البنك المركزي لدول غرب أفريقيا برفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في مايو 2022، في حين أن زيادة أخرى توقعها البنك بمقدار 75 نقطة أساس يُفترض خلال الفترة 2022-23.

  كما رفع بنك غانا أسعار الفائدة الأساسية للمرة الثانية منذ نوفمبر 2021، كما اتجهت غانا نحو سياسة مالية انكماشية أيضا من خلال خفض بنسبة 50 % للوقود المدعوم اعتبارًا من أبريل 2022. كما تم تقليص رواتب الوزراء بنسبة 30 % في ديسمبر2022، إلى جانب وقف السفر إلى الخارج للمسؤولين دون موافقة مسبقة، وتدابير بقيمة ملياري دولار يتم ضخها في الاقتصاد لوقف تراجع العملة الغانية [21]. وفي نيجيريا، التي شهدت انهيار سعر النيرة الحقيقي بنسبة 25 % مقابل الدولار منذ بداية عام 2022، رفع البنك المركزي النيجيري أسعار الفائدة بمقدار 250 نقطة أساس منذ مايو من العام ذاته.

شكل رقم (3) نسب الارتفاع في أسعار الفائدة لبعض دول أفريقيا جنوب الصحراء خلال عام 2022

Source : Nosmot Gbadamosi,” Will Inflation Spark Protests in Africa? ” , Foreign Policy Magazine , MARCH 30, 2022 , available at :
https://foreignpolicy.com/2022/03/30/inflation-prices-ghana-protests-ukraine-war/

خاتمة :

   أظهرت تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على دول العالم ومنها دول أفريقيا جنوب الصحراء، أن الاعتماد المفرط والانكشاف على العالم الخارجي يكلف كثيرا، فهاهي الدول الأفريقية تدفع فاتورة غلاء لم تكن من صنع اقتصاداتها، بل كان كما يسميه الاقتصاديون (التضخم المستورد)، والذي أظهر أيضًا ضرورة التركيز على الحلول طويلة المدى وليست القصيرة فحسب، فالاستجابة الحالية لمواجهة التضخم قد لا تكون الحلول الجذرية له، فالاعتماد المكثف على دول العالم الخارجي في الحصول على الغذاء وغيره من المنتجات الناجم يثبت مع مرور الوقت تعاظم آثاره السلبية. خاصة أن العديد من البلدان الأفريقية لديها طاقة فائضة وأراض خصبة وإمكانات تؤهلها بشكل كبير للزراعة وإنتاج الغذاء. فما زالت دول القارة بحاجة إلى سياسات زراعية فعالة تهدف إلى رفع مستوى الاكتفاء الذاتي خاصة للسلع الاستراتيجية الهامة كالحبوب.

  كما أن الاعتماد المفرط على أدوات السياسة النقدية بما في ذلك رفع أسعار الفائدة، قد يكون لها آثار سلبية على جانب الإنتاج ويثبط الرغبة لدى المستثمرين خاصة مع صعوبة الحصول على مدخلات الإنتاج المستوردة وتصاعد أسعارها، لذا لا بد من استخدام أدوات السياسة النقدية في أفريقيا بحكمة[22]. وإذا كانت السياسة النقدية تمتلك الأدوات اللازمة لخفض التضخم، فإن السياسة المالية يمكنها أيضًا وضع الاقتصاد على مسار أسلم في المدى الطويل من خلال الاستثمار في البنية التحتية والرعاية الطبية والتعليم؛ والتوزيع العادل للدخول والفرص عن طريق نظام عادل للضرائب والتحويلات؛ وتوفير الخدمات العامة الأساسية. غير أن رصيد المالية العامة الكلي يؤثر في الطلب على السلع والخدمات وعلى الضغوط التضخمية. وتخفيض العجز من شأنه تهدئة الطلب الكلي والتضخم، ومن ثم لا يحتاج البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة كثيرًا للوصول إلى هذه النتيجة. وبالإضافة إلى ذلك، فمع الأوضاع المالية العالمية التي تفرض قيودا على الميزانيات، ونِسَب الدين العام التي تجاوزت مستويات ما قبل الجائحة، فإن تخفيض العجز يعالج أيضًا مواطن الضعف المتعلقة بالديون.

  فضلا عن ضرورة إعطاء الأولوية للتحول نحو التكامل الإقليمي في ظل منطقة التجارة الحرة الأفريقية التي دخلت حيز النفاذ في يناير 2021، والتي يمكنها أن ترفع حجم التجارة البينية الأفريقية بنسب تتراوح ما بين 40 إلى 60%، الأمر الذي يقلل نسبيًا حجم الاعتماد التجاري على دول العالم الخارجي. كما أنها تساعد في تعبئة الموارد لسد الفجوات الحرجة في التكنولوجيا والمهارات والبنية التحتية.

قائمة مراجع الدراسة


[1] ) Ashish Kumar Sen , ” Russia’s War in Ukraine Is Taking a Toll on Africa ” , United States , Institute of Peace , June 15, 2022, available at :
https://www.usip.org/publications/2022/06/russias-war-ukraine-taking-toll-africa
[2]) David Whitehouse , ” Russia-Ukraine transport, food inflation pressures mean heavy bill for Africa”  , The Africa Report , March 2022,  available at :
https://www.theafricareport.com/181698/russia-ukraine-transport-food-inflation-pressures-mean-heavy-bill-for-africa/
[3]) TERESA NOGUEIRA PINTO , ” Russia’s war exacerbates turmoil in fragile sub-Saharan Africa” ,  Geopolitical Intelligence Services , JUNE 20, 2022 , available at :

[4]) Abebe Aemro SelassiePeter Kovacs , “Africa Faces New Shocks As War Raises Food & Fuel Costs” , International Monetary Fund , April 28, 2022, available at :

https://www.imf.org/en/Blogs/Articles/2022/04/28/blog-africa-faces-new-shock-as-war-raises-food-fuel-costs
[5] ) Lotanna Emediegwe , ” How is the war in Ukraine affecting global food prices?” , Economic & Social Research Council , 2022 , available at :
https://www.economicsobservatory.com/how-is-the-war-in-ukraine-affecting-global-food-prices
[6]) Thea Fourie ,” Sub-Saharan Africa feels inflationary heat from Russia-Ukraine war”  , S & P Global Market Intelligence,  11 July 2022  , available at :
https://www.spglobal.com/marketintelligence/en/mi/research-analysis/subsaharan-africa-feels-inflationary-heat-russiaukraine-war.html
[7]) Financial Times, “Global inflation pushes millions of Africans back into poverty” , Oct.2022 , available at :
https://www.ft.com/content/21566b53-37f2-448c-a172-afdd2b3bd7ab
[8]) Ashish Kumar Sen, Op.cit.  
[9]) Nosmot Gbadamosi,” Will Inflation Spark Protests in Africa? ” , Foreign Policy Magazine , MARCH 30, 2022 , available at :
https://foreignpolicy.com/2022/03/30/inflation-prices-ghana-protests-ukraine-war/
[10]( Don Nyagudi ,  & Ariel Siton , ” Impact of Russia-Ukraine war inflation on struggling economies”,   October 5, 2022 , available at :
[11] ) Caitlen Welsh , “The Impact of Russias  Invasion of Ukraine In Middle East and North Africa ” , Center For Strategic International  Studies , May 18, 2022 , available at :
https://www.csis.org/analysis/impact-russias-invasion-ukraine-middle-east-and-north-africa
[12] ) Will Mcbain , ” Africa braces for food price inflation as Russia-Ukraine war continues”  , African Business , March 28th, 2022  , available at :
https://african.business/2022/03/energy-resources/africa-braces-for-food-price-inflation-as-russia-ukraine-war-continues/

[13]) Ashish Kumar Sen , Op.cit.

[14] ( Mindy Hauman ,& Tallat Hussain , ” Africa Focus: Spring 2018 , Green finance in Africa”  , 7 FEB 2018 , Available at :-
https://www.whitecase.com/publications/insight/green-finance-africa
[15]) Angela Lusigi “, Africa and the Russia-Ukraine conflict: Seizing the opportunity in the crisis” , Africa Renewal , 30 June 2022,  Available at :-
https://www.un.org/africarenewal/magazine/africa-and-russia-ukraine-conflict-seizing-opportunity-crisis

 

[16]. )Thea Fourie,Op.cit.

[17]) Financial Times,Op.cit.

[18]) LotannaEmediegwe , Op.cit.

[19]) TheaFourie,Op.cit.   

[20])  CaitlenWelsh ,Op.cit.

[21]) Nosmot Gbadamosi , Op.cit.

[22]) Angela Lusigi , Op.cit.