كتب – تامر محمد سامي

الباحث المتخصص في دراسات الدفاع الاستراتيجي

تزامن انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة النسق الدولي مع بداية الصعود الصيني عملياً، حيث دخلت الصين عام 1991 قائمة أكبر عشرة اقتصاديات في العالم لأول مرة في تاريخها، واحتلت المركز العاشر في القائمة، وهو نفس العام الذي مثل انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وانتهاء الحرب الباردة عام 1991، وبداية حقبة من الهيمنة الأمريكية المنفردة.

ومنذ عام 1991، استمر الصعود الصيني، وحافظت الصين على معدلات نمو اقتصادي مرتفعة تتجاوز الـ 10% سنوياً حتى استطاعت في عام 2010 أن تكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، متجاوزة اليابان التي ظلت تحتل هذا المركز لأكثر من عقدين من الزمان، وسط توقعات بأن تكون الصين الأولى كأكبر اقتصاد في العالم قبل عام 2030 بناتج محلى إجمالي يتجاوز 65 تريليون دولار.

نظرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مؤشرات نمو الاقتصاد الصيني بعين الاعتبار، وأدركت أن استمرار نمو الاقتصاد الصيني بهذه الوتيرة المتسارعة سيعني حتماً منافسة الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم، وبالطبع تدرك الولايات المتحدة كقوة عظمى تبعات منافسة اقتصادية على هذا المنوال، فمن الثابت تاريخياً أن التفوق الاقتصادي يتبعه تفوق عسكري ونفوذ سياسي كبير، ما يعنى أن صراعاً مع الصين على الهيمنة على النسق الدولي على الأبواب، وتبنت الولايات المتحدة في هذا الإطار استراتيجية متعددة المستويات تهدف لعرقلة وتحجيم الصعود الصيني.

ومع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق مارك بومبيو في 2 فبراير 2023 بأن الصين هي أكبر تهديد يواجه الولايات المتحدة وما أثارته من ردود أفعال غاضبة في الصين، ومع حادث إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية للمنطاد الصيني في 4 فبراير 2023، والذي تؤكد الولايات المتحدة أنه كان مخصصًا لأغراض التجسس واعتراض الاتصالات الأمريكية، ومع التركيز الإعلامي الأمريكي المكثف للواقعة، تعود للواجهة من جديد التوترات الصينية الأمريكية المتكررة من وقت لآخر، وذلك على خلفية التنافس الكبير بين الدولتين على الهيمنة على النسق الدولي.

وتسعى الصين باستمرار لتجنب وقوع مواجهة مباشرة بينها وبين الولايات المتحدة، حيث ترى الصين أن الولايات المتحدة تسعى لجرها لمواجهات فرعية تستنزف قوتها بما يقود لعرقلة الصعود الصيني، وتنتهج الصين في هذا السياق استراتيجية متعددة المسارات، ويعد أحد أهم تلك المسارات، التمدد الصيني خارج مناطق النفوذ الأمريكي التقليدية، وأهمها أفريقيا، فقد ظلت أفريقيا بعيدة عن أولويات الاهتمامات الأمريكية، وانحصرت النظرة الأمريكية لأفريقيا في المنظور الأمني فقط لا غير، وعلى النقيض من ذلك، نجد الصين من أوائل القوى الدولية التي اهتمت بالحضور المكثف في أفريقيا في مجالات متعددة، فتم انعقاد (منتدى الصين – أفريقيا) للمرة الأولى عام 2000، لم يسبقها في ذلك سوى اليابان التي عقدت (ندوة طوكيو الدولية نحو التنمية في أفريقيا “تيكاد”) للمرة الأولى عام 1993، ثم تلا ذلك كل من القمة الهندية الأفريقية عام 2008 والقمة التركية الأفريقية في العام نفسه، القمة الأمريكية الأفريقية عام 2014 والقمة الروسية الأفريقية عام 2019.[1]

 وقد تعززت العلاقات التجارية والاستثمارية بين الصين والدول الأفريقية منذ ذلك الحين، فعلى الجانب التجاري، أصبحت الصين أکبر شريك تجاري مع أفريقيا ، حيث سجلت التجارة الصينية مع أفريقيا نمواً سريعاً منذ عام 2000 ، وارتفعت تجارة الصين مع أفريقيا بنسبة 14٪ على أساس سنوي، لتصل إلى 170 مليار دولار أمريكي عام 2017 ، واستمرت وتيرة النمو السريع، حتي بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين في عام 2020 نحو 187 مليار دولار رغم جائحة کورونا، کذلك الحال بالنسبة لمجال الاستثمار، حيث بلغ الاستثمار الصيني السنوي المباشر في أفريقيا نحو 4.2 مليار دولار في عام 2020 ، والتي شملت مجالات مثل التصنيع، والمجال الزراعي، والبنية التحتية، والخدمات المالية، والتنمية الخضراء، وتيسير التجارة والاستثمار، والحد من الفقر، والرفاهية العامة، والصحة العامة. [2]

وفي الوقت الذي انتشرت فيه جائحة “کوفيد-19” في جميع أنحاء العالم، دعمت الصين أفريقيا في مواجهة الوباء، ووصلت إمدادات طبية هائلة تبرعت بها الحكومة الصينية وشرکات صينية إلى حوالي 50 دولة ومنطقة أفريقية، وقد ساعدت تلك التبرعات التي وصلت في الوقت المناسب، في التخفيف من حدة نقص الإمدادات الطبية في القارة لمواجهة الوباء، کما تدفقت من الصين مساعدات بقيمة 280 مليون دولار لدعم دول القارة في ظل جائحة كورونا، وجاء کثير من هذه الأموال من القطاع الخاص ومن رجال أعمال صينيين، وذلك في الوقت الذي انسحبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة الصحة العالمية تاركة العالم يواجه الجائحة دون النهوض بمسؤولياتها كدولة قائدة للنسق الدولي.[3]

 وقد شهدت العلاقات الصينية – الأفريقية قفزة كبيره، يغذيها الانفتاح المتزايد للصين المصحوبِ بدعم تنموي واجتماعي للقارة السمراء، كما يُغذيها من جهة أخرى تطلع الجانب الأفريقي للبحث عن شراکة مربحة بعيداً عن الدول الغربية ذات الطابع الاستعماري القديم، حيث تعد العلاقات الصينية الأفريقية من العلاقات المتميزة ويتَّضح ذلك من أوجه التعاون المختلفة بين الصين والقارة الأفريقية في مجالات متعددة، حيث تم تعميق الصداقة بين الصين وأفريقيا لتصل إلى مرحلة “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، بحيث أصبح التعاون بين الصين وأفريقيا نموذجًا للنهوض الآسيوي والأفريقي والتعاون بين الجنوب والجنوب.[4]

وفي هذا السياق، تلقي الدراسة الضوء على أحد أنماط التمدد الصيني والمتمثل في (الموانئ الصينية في أفريقيا)، وذلك من منظور استراتيجي / جيوستراتيجي، ارتباطاً بالتنافس الدولي بين الصين والولايات المتحدة على الهيمنة على النسق الدولي، ومن هذا المنطلق، تم تقسيم الدراسة إلى أربعة محاور كالتالي:

أولاً: نظرة عامة على المشروعات الصينية لتطوير الموانئ البحرية في أفريقيا.

ثانياً: المنظور الصيني لتنمية الموانئ البحرية.

ثالثاً: النموذج الصيني في جيبوتي وغينيا الاستوائية.

رابعاً: رؤية تحليلية وخاتمة.

أولاً: نظرة عامة على المشروعات الصينية لتطوير الموانئ البحرية في أفريقيا:

اهتمت الصين بالموانئ البحرية بشكل عام والموانئ الأفريقية بشكل خاص، وعملت على تطويرها من منظور اقتصادي / جيوستراتيجي، فمن ناحية، تقوم الصين بتطوير الموانئ الأفريقية كجزء من مبادرة الحزام والطريق، وبما يخدم الاستثمارات وتنشيط التجارة الصينية، ومن ناحية أخرى، ووفقاً للمنظور الأمريكي، فإن الصين تقوم بتجهيز تلك الموانئ بأعماق وأطوال أرصفة بحرية تتوافق مع مواصفات حاملات الطائرات الصينية، وليس فقط السفن التجارية، كما لو كانت الصين تعمل على تجهيز مسرح العمليات المنتظر بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية في حالة نشوب أي نزاع بينهما فيما يعرف باسم (حروب الهيمنة). ووفقاً للمنظور الأمريكي أيضاً، فإن الصين تعمد إلى ما تسمية الولايات المتحدة (سياسة الديون الصينية) والتي تعني أن الصين تنفذ تلك الاستثمارات في صورة قروض ميسرة للدول المستفيدة، ومع كثرة الاستثمارات الصينية بهذا الشكل، تعجز الدول عن سداد أقساط تلك القروض ما يجعل الصين تضع يدها على تلك الموانئ بالكامل وفاءً لحق الديون المستحقة، وذلك على غرار ميناء (هامبانتوتا) في سيريلانكا ومطار عنتيبي في أوغندا، بما يعني أن الشركات الصينية تطور الموانئ الأفريقية كمنصات للوجود السياسي والاقتصادي والعسكري المتكامل للصين في كل منطقة من المناطق الفرعية في أفريقيا، في إطار التنافس علي الهيمنة على النسق الدولي مع الولايات المتحدة الأمريكية. [5]

وفي سياق متصل، وبعد افتتاح القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي عام 2017، والتي تعتبر رسمياً القاعدة العسكرية الصينية الوحيدة خارج الصين، ومع التأكيدات الأمريكية بشأن الترتيبات الصينية مع حكومة غينيا الاستوائية لاستغلال تطوير الشركات الصينية لميناء (باتا) من أجل تحويله لقاعدة عسكرية صينية لتكون أول وجود عسكري للصين على المحيط الأطلنطي، فحتى لو لم توافق غينيا الاستوائية في النهاية على استضافة قاعدة عسكرية صينية ، فإن بعض الدول أو الدول الأفريقية الأخرى ستفعل ذلك في النهاية، وذلك مع تكرار المحاولات والاتصالات الصينية في ذلك الشأن؛ فمن المؤكد أن الصين أجرت اتصالات متعددة مع دول غرب أفريقيا بذات الشأن ومنها موريتانيا والسنغال، ومع الضغوط الأمريكية، لم توافق أي من تلك الدول على المطلب الصيني، وبشكل عام لن يغير عدد قليل من القواعد العسكرية الصينية التوازن البحري في المحيط الأطلنطي ولن يغير بشكل جذري الديناميكيات الأمنية الأساسية في أفريقيا، ولكنه سيغير التصورات عن أهداف الصين طويلة الأجل ويُصعِّد المنافسة مع الولايات المتحدة.[6]

وعلى نحو متزايد، تسعى الشركات الصينية باستمرار إلى امتلاك حقوق تشغيل الموانئ التي تقوم بإنشائها أو تطويرها، وليس فقط عقود إنشائية لمرة واحدة، لكن حصص ملكية وسيطرة تشغيلية على الموانئ، وهي نفس الطريقة التي أنشأت بها الصين قاعدتها العسكرية في جيبوتي.

وتستغل الصين في تمددها في مجال الموانئ في أفريقيا العجز الكبير في البنية التحتية للنقل في أفريقيا، بالإضافة للمواصفات الاقتصادية المثالية لأفريقيا بشكل عام، مثل الاحتياطات الهائلة من المعادن والنفط والغاز، إلى جانب ثروة الموارد، والأسواق الحضرية الناشئة، وقاعدة المستهلكين الكبيرة والشبابية.[7]

وتعمل الشركات الصينية على تطوير منافذ حاويات آلية مصممة لسرعة إعادة الشحن، وكذلك الموانئ المعدنية السائبة التي يتم تغذيتها بالسكك الحديدية من مناجم النحاس والبوكسيت وخام الحديد الداخلية، والمحطات المتخصصة للبترول والثروة الحيوانية والحبوب والصيد الصناعي، وبنظرة سريعة على أين تقع هذه الموانئ، وأنواع البضائع التي تنقلها، سنجد أن الصين تنتقي أماكن الموانئ التي تقوم بإنشائها وتطويرها بعناية شديدة؛ فنجد أن الشركات الصينية قامت ببناء أو تمويل أو تشغيل 62 محطة بحرية في 30 دولة أفريقية، هذا يترك فقط ثماني دول أفريقية ساحلية
أو جزرية ليس للصين موانئ فيها، بالإضافة إلى ست عشرة دولة أفريقية أخرى غير ساحلية وبالتالي فهي غير مؤهلة لموانئ أعماق البحار ولكنها استفادت بشكل آخر،  عن طريق سهولة الوصول إلى أسواقها ومواردها من خلال الموانئ الجديدة والبنية التحتية للنقل في المناطق الداخلية.[8]

إن مشاركة الصين في 62 محطة بحرية من إجمالي ما يقدر بـ 231 ميناء تجاريًا في أفريقيا، يؤسس وجودًا صينيًا في أكثر من 25% من الموانئ البحرية في أفريقيا، وهي نسبة أعلى بكثير من أي منطقة أخرى في العالم، 33 ميناء منها تقع على المحيط الأطلنطي، في شكل محطات لتصدير المعادن الأكثر انتشارًا في هذه المنطقة مثل البوكسيت والكوبالت والنحاس وغيرها من المدخلات المعدنية الهامة.

ويأتي شرق أفريقيا وساحل المحيط الهندي في المركز الثاني من حيث تركيز الموانئ الصينية بإجمالي 17 ميناء، أغلبها في القرن الأفريقي، والتي تتكامل مع مشروعات التنمية الصناعية والسكك الحديدية الرئيسية عبر الدول الساحلية وغير الساحلية (على سبيل المثال، خط السكك الحديدية “جيبوتي- أديس أبابا” الذي يمثل شريان الحياه لإثيوبيا وينقُل لها 80% من تجارتها)، أما شمال أفريقيا وساحل البحر المتوسط فهي ثالث أكثر المواقع من حيث الموانئ الصينية بعدد 9 موانئ، 4 منها تقع في مصر وتركز على تجارة الحاويات العابرة لقناة السويس، وفي المركز الرابع والأخير الجنوب الأفريقي مع 3 موانئ فقط (2 في ناميبيا و1 في جنوب أفريقيا).[9]

وتُقدر الحصة السوقية للشركات الصينية العاملة في مجال تطوير وإنشاء الموانئ البحرية بنسبة 61٪ من إجمالي حجم الشركات العاملة في ذات المجال في أفريقيا، كانت أبرزهم شركة تشييد الاتصالات الصينية (CCCC) حيث فازت بعقود في 38 ميناء على الأقل، وهي مجموعة مركزية مملوكة للدولة تتكون من مجموعة من الشركات التابعة التي تتخصص في جوانب مختلفة لتصميم البنية التحتية والإنشاءات والعمليات، وقد نفذت موانئ في 46 دولة أفريقية، وأبرز الشركات التابعة لمجموعة CCCC شركة  China Harbor Engineering Corporation (CHEC)حيث شاركت في 30 من 38 مشروعًا من مشاريع CCCC ، هذا وتمتلك الشركات الصينية حقوق الملكية في 28 من أصل 62 مشروع ميناء في أفريقيا، بالإضافة لحق الإدارة في 18 ميناء من الـ 28، بالإضافة إلى امتيازات تشغيل أو إيجارات في 17 من 62 موقعًا.[10]

وتقدم المؤسسات المالية في الصين قروضًا تجارية أو امتيازات مالية في 25 ميناء من الـ 62 ميناء نفذتهم الشركات الصينية في أفريقيا، ويُعد بنك التصدير والاستيراد الصيني (EXIM BANK) هو البنك الصيني الأكثر نشاطًا في تمويل مشروعات الموانئ الأفريقية، حيث موَّل 16 مشروعًا من الـ 25 مشروعًا، يليه بنك (CDB) حيث مول 4 مشروعات في غرب أفريقيا. [11]

وبالنظر لدوافع الشركات الصينية للاهتمام بالموانئ الأفريقية نجد أنه من المفهوم أن الشركات الصينية تسعى لتحقيق مكاسب تجارية، لكن كذلك من الواضح أيضًا أنه تم تحفيزها لمواءمة خططها التجارية مع أهداف بكين الاقتصادية والسياسية وأولوياتها الاستراتيجية، إذ تُخصص الصين حوافز مالية ضخمة للشركات الصينية العاملة في تطوير الموانئ الأفريقية، ومن ناحية المكاسب التجارية، يُقدِّر بنك التنمية الأفريقي أن تأخير شحن البضائع وسوء الإدارة يرفعان تكاليف المناولة في الموانئ الأفريقية بمعدل 50٪ عن المعدلات العالمية بالإضافة إلى أن التأخير في الموانئ الأفريقية يضيف 10٪ إضافية لتكاليف النقل، وباعتبارها أكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ عام 2009، وتهتم الصين بخفض تكاليف النقل على تجارتها الضخمة والمتنامية مع أفريقيا؛ فوفقاً لبنك التنمية الأفريقي، تكسب الصين ما يصل إلى 13 دولارًا في مقابل كل دولار واحد تستثمره في الموانئ الأفريقية، وذلك باعتبار أن تجارة الصين مع أفريقيا هي تجارة بحرية بالأساس.[12]

وبشكل عام، تنظر الصين إلى أفريقيا على أنها سوق موانئ رئيسية، ذات تركيبة سكانية جذابة، وتوزيع جغرافي واسع، يعيبها البنية التحتية المنخفضة، حيث يصف باحثو CHEC  أفريقيا بأنها نموذج محتمل لنهجها الاقتصادي الشامل في العالم النامي، كما يأخذ مهندسو CCCC وجهة نظر أكثر تحديدًا حول مكان الطلب في القارة، مشيرين إلى أن الظروف الاقتصادية للمناطق النائية للموانئ، والهياكل الاقتصادية الوطنية، والظروف الجغرافية والهيدروغرافية هي عوامل بالغة الأهمية لتحديد الموانئ أو مواقع الموانئ، وبشكل إجمالي، فإن أفريقيا تتمتع بأدنى حصة في العالم من التجارة البحرية وأكبر مخازن للمواد الطبيعية غير المستغلة، في الوقت الذي تتمتع فيه الصين بمزايا ضخمة، وطلب لا يشبع على الموارد الأفريقية، وآلة تصدير تسعى دائمًا إلى النمو في أسواق استهلاكية جديدة.[13]

ثانياً: المنظور الصيني لتنمية الموانئ البحرية:

تؤمن الصين بالموانئ البحرية المتصلة بالطرق والسكك الحديدية، كما يعطي التخطيط الاقتصادي الصيني الأولوية للموانئ باعتبارها أساسًا “لبناء دولة نقل قوية”، كما تم التأكيد عليه في الخطة الخمسية الرابعة عشرة (2021-2025) ووثائقها الرسمية الداعمة المختلفة، كما يروج القادة الصينيون للموانئ في خطط التنمية الدولية الخاصة بهم، وتقدم هذه الأولوية الواضحة مجموعة من الدوافع الناشئة داخل السلطات الرسمية في الصين والتي تدفع بدورها بنشاط الشركات المحلية لبناء ومراقبة الموانئ في الخارج، ومن جانب آخر، تتمتع الشركات الصينية – خاصة المجموعات المملوكة للدولة بوضع فريد لتصدير خدماتها الهندسية والإنشائية وقدراتها الصناعية لأفريقيا، وذلك بسبب السياسات المحلية التي اتُّخذت على مدى عقود تراكمت فيها خبرات كبيرة من خلال عملها في توسيع وتحديث الطرق المحلية والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب والمطارات والموانئ البحرية على مدى عصر الإصلاح، دعم هذه الجهود نموذج نمو يقوده التصدير ما جعل الصين أكبر دولة تجارية في العالم وجعل موانئها والنقل البحري فيها نقطة قوة كبيرة، فبنظرة سريعة نجد أن 31 من أفضل 50 ميناء في العالم من حيث إجمالي الشحنات و7 من أعلى 10 منافذ للحاويات، يقعون جميعهم داخل الصين، مع الوضع في الاعتبار أن ميناء شنغهاي وحده يمثل أكثر من 30٪ من حجم حاويات الشحن في الموانئ الأفريقية مجتمعة.[14]

وكان توجه الصين في أواخر التسعينيات لما يُسمى بـ (استراتيجية الخروج) جزءًا من استراتيجية الصين لتشجيع الشركات الصينية سياسياً وتحفيزها مالياً للبحث عن أسواق أجنبية لتنمية الصادرات الصينية، وتمت هذه العملية بكثافة خاصة في أفريقيا باعتبارها سوق واعدة وبيئة اقتصادية ناشئة، وباعتبار حجم التجارة الصينية الكبير مع أفريقيا، وأعادت مبادرة الحزام والطريق التأكيد على توجيه الشركات الصينية للمشاركة في بناء وتشغيل الموانئ مقابل مجموعة من الحوافز السياسية والاقتصادية للشركات لتركيز مواردها في المناطق والقطاعات ذات الأولوية – ومن أهمها أفريقيا-  وتروج شركات الموانئ الصينية لأنفسها على أنها قادرة على تحقيق الأولويات السياسية والاقتصادية المتنوعة التي حددتها الدولة في الصين، وتسعى الشركات إلى دمج مشاريع الموانئ الخاصة بها بشركات أخرى لبناء اتصالات عمودية بداخل الدولة المقام بها الميناء، وذلك في مجالات النقل والخدمات والصناعات أو الشحن والتجارة الخارجية.

وقد شجعت الخطة الخمسية الثالثة عشرة للصين (2016-2021) والمخطط الاقتصادي الرسمي للدولة في الصين الشركات على أن “تعمل بنشاط لبناء نقاط القوة الاستراتيجية البحرية على طول طريق الحرير البحري، والمشاركة في بناء وتشغيل الموانئ الرئيسية على طول الطريق، وتعزيز التطوير المشترك للتجمعات الصناعية حول هذه الموانئ لضمان طرق التجارة البحرية واضحة وحرة التدفق، على أن تكون نقاط القوة الاستراتيجية عاملَ تمكين رئيسيًّا للدولة الصينية، ولا يتم تصور نقاط القوة الاستراتيجية كمشاريع قائمة بذاتها بل كمنصات لبناء واستدامة وجود صيني متكامل”.[15]

ويقوم المسؤولون الصينيون بالتنسيق مع الشركات لجعل الأهداف التجارية للشركات تتطابق مع الأهداف السياسية والاقتصادية والاستراتيجية للدولة، مع الوضع في الاعتبار أن الشركات الصينية التي تشارك في بناء الموانئ الخارجية تنتمي إلى الشركات المملوكة للدولة والتي بدورها لديها درجة عالية من الاتساق مع الأهداف الاستراتيجية الخارجية للحكومة الصينية، والتي تتلخص في تلبية مصالح الشركات واحتياجات البلدان المستهدفة، وكذلك توسيع النفوذ السياسي للصين من خلال التنسيق بين الحكومة والشركات، وكذلك التنسيق الحكومي مع الدولة المضيفة لتحديد المواقع ذات الأولوية للموانئ على طول مبادرة الحزام والطريق وتعزيز التحالف الداخلي للشركات ذات التمويل الصيني لتشكيل قوة مشتركة مع تجنب المنافسة في العطاءات وتعزيز المزايا التكميلية مع الدولة التي تعمل على التنسيق وفك تضارب الداخلين إلى السوق الأفريقية والشركات الصينية.[16]

ثالثاً: النموذج الصيني في جيبوتي وغينيا الاستوائية:

بالنظر إلى نموذج التعاون الصيني في جيبوتي، نجد أن المشروع الرئيسي في هذه الحالة هو ميناء دوراليه متعدد الأغراض، وهو أحد أصول المشروع المشترك بين شركة تابعة لمجموعة التجارة الصينية المملوكة للدولة (CMG) وهيئة موانئ جيبوتي وهيئة المناطق الحرة في جيبوتي، وبالرغم من أن (CMG) هي مساهم أقلية بنسبة 24% من أسهم المشروع، إلا أنها عملت كلاعب مركزي ومنسق لتمويل المشروع الذي يشمل بناء وتشغيل العديد من مرافق الميناء، ومجموعة كبيرة من المشاريع،  مثل منطقة التجارة الحرة الدولية لتجهيز الصادرات والخدمات اللوجستية، وخط سكة حديد رئيسي إلى أديس أبابا، وكابل ألياف ضوئية تحت سطح البحر من صنع Huawei ؛ ومطار دولي، وخطوط أنابيب الغاز الطبيعي ومجموعة من مشاريع البنية التحتية والخدمات الأخرى، مع تخصيص مساحة على أرصفة الميناء للسفن الحربية الصينية، وهذه النقطة الأخيرة تحديداً كانت النواه التي أدت في النهاية لإنشاء القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي.[17]

نموذج آخر من نماذج مشروعات الموانئ التي تنفذها شركات صينية هو غينيا الاستوائية؛ حيث لعبت الجهود المنسقة للشركات الصينية في الموانئ وما حولها من مشروعات تكاملية دورًا فعالًا في تعميق علاقة الصين مع غينيا الاستوائية الصغيرة الغنية بالنفط، وسط تأكيدات أمريكية أنه تم التوصل لاتفاق بين غينيا الاستوائية والصين لإنشاء قاعدة عسكرية صينية داخل منشآت ميناء (باتا) الذي مولته وبنته الشركات الصينية، وسط صمت وعدم تأكيد ذلك من الطرفين، وسواء أكانت قاعدة عسكرية صينية موجودة أم لا في نهاية المطاف في غينيا الاستوائية، تسلط القضية الضوء على الفرص الاستراتيجية التي اكتسبتها الصين من خلال تطوير البنية التحتية الحيوية للموانئ في أفريقيا.

فقد اقترضت غينيا الاستوائية على نطاق واسع من المقرضين الصينيين، وتعاقدت في عام 2007 على بناء ميناء (باتا) بعقد تبلغ قيمته ما يقرب من 20 مليار دولار ما يجعله أكبر مشروع في البلاد، وذلك بتمويل من EXIM BANK الصيني، ومرة أخرى تظهر شركة  CCCC كلاعب رئيسي في تطوير الموانئ في غينيا الاستوائية ولكن هذه المرة من خلال شركة China Road and Bridge Corp (CRBC) التابعة لها، ويشمل المشروع أيضاً مطارًا دوليًّا، طرقًا مختلفة، شبكات كهرباء، شبكات اتصالات، فندقًا، ومجموعة من المشاريع الأخرى، بما في ذلك الثكنات العسكرية. ومن جانب آخر، وعلى العكس من الحال في جيبوتي، لا تمتلك الشركات الصينية حقوق ملكية أو إدارة للميناء، لكن الدولة المضيفة تعتمد على الصينيين من حيث رأس المال والخبرة لاستخدام وتطوير الميناء.[18]

وفي عام 2015، التقى كل من الرئيس الصيني شي مع نظيره الغيني أوبيانغ حيث تم الإعلان عن شراكة ثنائية شاملة، تهدف إلى دفع العلاقات الثنائية إلى ما وراء مشروعات البنية التحتية وصادرات النفط، وذلك في مجالات تعزيز الدفاع والتعاون الأمني، وتقوية التعاون في مكافحة الإرهاب والاستخبارات ومساعدة الجيش الصيني نظيره الغيني في التدريبات على مكافحة القرصنة البحرية في خليج غينيا؛ حيث إنه في عام 2018، تم اعتبار خليج غينيا أخطر منطقة بحرية في العالم، وبدأت حينها القوات البحرية الصينية في إجراء تدريبات قتالية مع دول المنطقة، وليس فقط غينيا الاستوائية.

وعلى غرار سياق إنشاء الصين لقاعدتها العسكرية في جيبوتي يبدو أن الصين ستتبع نفس الأسلوب؛ حيث كان الغرض الظاهري للقاعدة الصينية في جيبوتي أيضًا هو دعم بعثة مكافحة القرصنة على الساحل الصومالي، حيث يقع كلا الميناءين في منطقة بحرية معرضة للخطر وعلى مسار طرق إمداد الطاقة، علاوة على ذلك، ففي الحالتين كان وجود الصين يبدأ بميناء تجاري، ثم قروض صينية كبيرة، وتعامل مكثف مع رئيس الدولة، ثم متطلبات رسمية “لحماية المصالح الخارجية”، وبشكل عام، فإن امتلاك الصين “موطئ قدم عسكري” في شرق أفريقيا
يجعل من الطبيعي تمامًا أن الصين يجب أن “تبحث عن فرص إنشاء قاعدة لوجستية ثانية على الساحل الغربي لأفريقيا”، وفي ظل عدم نفي المسؤولين الصينيين بعد أنه تم التوصل إلى ترتيب قاعدة في غينيا الاستوائية، فإن الدور المحتمل لـ (باتا) كمنصة للقوات البحرية الصينية في المحيط الأطلنطي يبقى محتملاً جدًا.[19]

رابعاً: رؤية تحليلية وخاتمة:

بشكل عام، سعت الشركات الصينية إلى استخدام الموانئ البحرية كمحرك رئيسي للاقتصاد الصيني والحراك الدبلوماسي والوجود العسكري في جميع أنحاء أفريقيا، واستطاعت الشركات الصينية المملوكة للدولة وبنوك التمويل الصينية أن تصبح لاعباً أساسياً في قطاع النقل البحري المتنامي في أفريقيا، ما يضع بكين في مكانة التأثير على التدفقات الحيوية للتجارة والاستثمار والبيانات ورؤوس الأموال العالمية. ويضاف إلى كل ذلك، الشركات الصينية لبناء السفن التجارية وشركات الشحن البحري التي تحقق أيضاً سيطرة صينية أكبر على قطاع النقل البحري، فعلى سبيل المثال، فإن خطوط الشحن الصينية منتشرة في كل مكان في أفريقيا، ولا سيما تلك التابعة لشركة النقل العملاقة   COSCO Shipping.[20] فمن الناحية التجارية، تعد الصين هي اللاعب المهيمن من حيث البناء المادي للموانئ الأفريقية، مع الوضع في الاعتبار أن الشركات الصينية تعمل بنسب أكبر وبوتيرة أسرع في الدول الأفريقية عنها في الدول العربية.

أما من وجهة نظر سياسية عسكرية، لا تزال الصين متأخرة كثيراً عن الولايات المتحدة والدول الأوربية، فالولايات المتحدة والدول الأوروبية لها وجود عسكري ونفوذ سياسي كبير داخل أفريقيا، وذلك كونه مستمداً من الحقبة الاستعمارية، إلا أن المحاولات الصينية لاكتساب النفوذ السياسي وإيجاد موطئ قدم عسكري في غرب أفريقيا، حتى وإن كان نشر قوة قتالية متطورة في غرب أفريقيا تحت دعاوى مثل مكافحة القرصنة، لهي محاولات جديرة بالدراسة والتحليل، كما أنها تمثل رأس جسر للمشاركة الصينية على نطاق أوسع في أفريقيا.

ومن جانب آخر، توفر التحركات الصينية في أفريقيا في مجال الموانئ والنقل البحري رؤية سياسية واضحة ونقطة عملية من الناحية الاستراتيجية لمزيد من الوصول للشركات الصين والجهات الفاعلة الرسمية، لكي تكون موانئ الصين في أفريقيا عناصر أساسية في الجهد الصيني المستمر “لجعل أفريقيا الخط الخارجي الاستراتيجي للصين لاحتواء الولايات المتحدة جيوسياسيًا.

ويؤكد قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا (AFRICOMM)، الجنرال ستيفن تاونسند، عندما أدلى بشهادته أمام لجنة الدفاع والأمن القومي في مجلس النواب الأمريكي، أن “الشيء الذي أعتقد أنني أكثر قلقًا بشأنه هو هذه القاعدة العسكرية الصينية على ساحل المحيط الأطلنطي”.

فامتلاك الصين لقاعدة عسكرية صينية على المحيط الأطلنطي يمثل تحديًا عملياتيًّا ذا مغزى للجيش الأمريكي، ومع ذلك، فإن الفرصة المتاحة للصين لاغتنام مثل هذه الخطوة لهي مبادرة متقدمة نحو المنافسة المباشرة مع الولايات المتحدة في أفريقيا، والتي هي الآن كامنة في شبكة الموانئ التي بنتها وتمولها وتملكها وتشغلها الشركات الصينية، ولعل تركيز الصين على امتلاك وإدارة وتشغيل موانئ بحرية على الساحل الغربي لأفريقيا (33 ميناءً من إجمالي 62 ميناءً بنسبة 53%) لهو مؤشر واضح على التوجه الجيوستراتيجي للصين في الوجود بكثافة على ساحل المحيط الأطلنطي في ضوء التنافس الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.[21]

قائمة المراجع

  1. Thomas P. Sheely, 10 things you need to know about the US-Rivalry in Africa, United States Institution of Peace, Washington DC,
    December 2022.
  2. جيهان عبد السلام عباس، العلاقات الاقتصادية الصينية الأفريقية: دراسة تحليلية،
    مجلة كلية السياسة والاقتصاد، المجلد 16، العدد 15، جامعة بني سويف، يوليو 2022.
  3. Linda Calabrese, China’s Role in Promoting Innovation and Productivity in Africa, Journal of Chinese Economic and Business Studies, Vol.18, No.4, African Center for Economic Transformation, Accra, Ghana,
    June 2020.
  4. Liu Qingjian, The Leading Role of China-Africa Development Cooperation and the Belt and Road Initiative, Contemporary World,
    No. 6, November 2018.
  5. نجلاء عبد النبي، دبلوماسية فخ الديون: كيف تستحوذ الصين على موانئ ومطارات أفريقيا، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة تونس، سبتمبر 2021.
  6. بول نانتوليا، اعتبارات لقاعدة بحرية جديدة للصين في أفريقيا، المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، واشنطن، أغسطس 2022.
  7. Filip Kaczmarek, African Dimension of The Belt and Road Initiative, Przeglad Strategiczny, Issue No.12, Poznan University of Economics and Business, Poland, January 2019.
  8. Zye Min Che, China and Africa in the New Era, The State Council Information Office of the People’s Republic of China, Beijing, China, November, 2021.
  9. Bingqi Zhou, Cooperation Between China and Africa Under the One Belt One Road Initiative: China’s Benefits and Problems, Chinese Studies, Vol.8, No.2, Sino-French Institute, Renmin University of China, Suzhou, China, May 2019.
  10. لويد ثرال، توسع العلاقات الصينية الأفريقية وأثرها على الأمن القومي الأمريكي،
    مؤسسة راند للأبحاث، كاليفورنيا، ديسمبر 2020.
  11. Abdoulkadre Ado, What China is Learning From West African Managerial Practices, Carnegie Endowment for International Peace, Washington DC, October 2022.
  12. Scott McDonald, China in Africa: Opportunities, Challenges, and Options, Africa Center for Strategic Studies, National Defense University, Washington DC, March 2019.
  13. Teshome Toga Chanaka, China-Africa Cooperation: A Model for South-South Cooperation, Center for China and Globalization, China,
    March 2022.
  14. Dai Bing, China – Africa Cooperation: At the Forefront of International Cooperation with Africa, Chinese People Institute of Foreign Affairs, Beijing, China, April 2020.
  15. Paul Nantulya, China’s Deepening Ties to Africa in Xi Jinping’s Third Term, Africa Center for Strategic Studies, Washington DC,
    November 2022.
  16. Ricardo Reboredo, From Debt Diplomacy to Donorship: China’s Role in Global Development, Bristol University Press, August 2022.
  17. أحمد أبو دوح، استراتيجية قيد التطوير: طموح الصين البحري المتصاعد في الشرق الأوسط،
    مركز الإمارات للسياسات، أبو ظبي، سبتمبر 2022.
  18. Michael Tanchum, China’s New Military Base in Africa: What it Means for Europe and America, European Council for Foreign Relations, Berlin, December 2021. 
  19. Alex Vines, The Response to Debt Distress in Africa and the Role of China, The Royal Institute of International Affairs, Chatham House, London, UK, December 2022.
  20. Lee Jones and Shahar Hameiri, Debunking the Myth of ‘Debt-trap Diplomacy’ How Recipient Countries Shape China’s Belt and Road Initiative, Chatham House, London, August 2020.
  21. يربان الحسين الخراشي، موريتانيا وصراع الموانئ على ساحل المحيط الأطلنطي،
    المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الاستراتيجية، نواكشوط، مايو 2021.