كتبت – أماني ربيع

من السماء تبدو منطقة (شابيلا) التي تقع في جنوب شرق الصومال مثل مقبرة كبيرة، صحراء قاحلة، حُرمت من مياه الأمطار لعامين كاملين، وهو ما أنهك الأرض، وقتل الماشية مصدر الرزق الوحيد، وهربًا من شبح الجوع نزح آلاف الصوماليين من بيوتهم المتهالكة إلى العاصمة مقديشيو مع أمل يحدوهم بغد أفضل إلا أنهم وجدوا أنفسهم فريسة للعراء في مخيمات ليست أفضل حالًا من مقبرة.

عرضت قناة القاهرة الإخبارية الفيلم الوثائقي “شابيلا” من كتابة وإخراج الإعلامي الدكتور محمد سعيد محفوظ، والذي رصد الواقع المؤلم الذي يعيشه الصوماليون في حصار بين الجوع والإرهاب، ووثقت المشاهد تفاصيل الأزمة الإنسانية التي يعيشها آلاف المواطنين في معسكرات النزوح.

ما يُميز فيلم “شابيلا” أنه يستعرض أزمة الصومال كجزء من الأزمة العالمية، فالتغيرات المناخية التي تجاهلها العالم طويلًا، واستمراره في استنزاف موارد الطبيعة، فرض واقعًا قاسيًا على بلاد لم تسهم أصلًا في تلوث البيئة، بقدر ما فعلت الدول الكبرى.

 وهكذا وجد أهل شابيلا، إحدى مناطق الصومال الجنوبية التي اشتغل أهلها في الماضي بالزراعة والرعي قبل الجفاف وندرة هطول المطر، أراضيهم جدباء وبطونهم خاوية وأصبحوا على شفا المجاعة، هذا بخلاف أزمة النازحين، والإرهاب الذي يضاعف المأساة ويقوض أية جهود لحلها.

معسكر القبور

على أطراف العاصمة مقديشيو، صنع النازحون في معسكر القبور بيوتهم الجديدة بأغصان الأشجار الجافة، وبعض الأقمشة المهترئة، وبالصفيح بنوا فصلًا دراسيًّا وكُتابًا لتعليم القرآن، يحتمون بإيمانهم من الجنون، الجوع والعطش يضيقان الخناق حتى إن الحديث عن الجهل يعد رفاهية، فهنا تسكن الأمراض بلا دواء والجوع بلا غذاء والقصص الحزينة بلا أمل.

جلست خديجة مادو، الأم الشابة لتروي حكايتها بثبات وكأنها تروي معاناة شخص آخر، لقد وضعها الجوع وجهًا لوجه أمام الموت، ودفنت بسبب المجاعة والحمى 3 من أبنائها في عمر السابعة والخامسة والثانية، لا تستطيع خديجة نسيان لحظة موتهم بين ذراعيها ودفنهم بيديها في التراب، لكن لا وقت للحزن فهناك 3 أطفال ما زالوا على قيد الحياة بحاجة إلى قوتها، وطفل رابع في الطريق.

في الماضي كانت لديها مزرعة ومواش، لكن بعد الجفاف اضطرت للنزوح إلى هذا المعسكر الذي تفترش فيه الأرض مع أطفالها ولم تخرج منه يومًا، وتجلس بانتظار ما يجود به أهل الخير من الصدقات، خاصة وأن المساعدات لا تصلهم على الإطلاق.

في “كمد”

من معسكر القبور انطلق فريق العمل في ظل أجواء غير آمنة، بسبب عدم الاستقرار الأمني واندلاع التفجيرات الإرهابية التي جعلت التحرك في الشوارع مغامرة حقيقية، لذا ذهبوا إلى معسكر آخر في سيارة مضادة للرصاص، ووقع اختيارهم على “كمد” الذي لا يختلف كثيرًا عن المعسكر السابق.

كان حسن حسين عبد القادر، حكايته، من سكان “كمد” يعيش في بلدة كندواري يمارس الزراعة ويكافح لتأمين لقمة العيش لأسرته، لكن الجفاف والحاجة لمواتير المياه مع الفقر دفعاه لجمع الحطب.

لكن محاولات حسن للتحايل على ظروفه وتجاوزها لم تجدِ حتى بعدما عمل “شيالا”، فالظروف تتدهور باستمرار، لذا اتخذ قراره أخيرًا بالنزوح وقطع مع أسرته آلاف الأميال سيرًا على الأقدام وبدون أحذية ليعثر على هذا المخيم ويعيش فيه على مساعدات المحسنين، وغذاؤهم هنا من الدقيق والماء والزيت، وجبة لا تسد الجوع كثيرًا، لكنها تظل أفضل من لا شيء.

مطرقة الإرهاب

ينتقل بنا الفيلم إلى بعد آخر لقضية الجفاف في الصومال، وهو الإرهاب المتمثل في حركة شباب المجاهدين الصومالية الإرهابية، حيث لا يهرب الصوماليون فقط من الجفاف، ولكن أيضًا من قهر الحركة التي تحتل القرى التي طالها الجفاف ويُخضِع أفرادُها سكانها وينتهكون حرماتها، ويمنعون الأبناء من التعليم، بينما يتزوجون البنات بالإجبار.

وأوضح المبعوث الخاص للشؤون الإنسانية عبد الرحمن عبد الشكور، أن الحركة تفرض إتاوات كبيرة على المزارعين وأصحاب المواشي ويبتزون الحكومة ويعيقون إيصال المساعدات، وهو ما يخلق تحديًا كبيرًا حتى للحكومة.

لا يقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فعناصر الحركة يختبئون حتى في معسكرات النزوح للسيطرة على المساعدات، لدرجة أن فريق عمل “شابيلا” لم يتمكنوا من زيارة معسكرات الضواحي الأخرى بسبب تحذيرات أمنية من وجودهم بها، لذا وقع اختيارهم لمعسكر داخل العاصمة تصله وجبة واحدة يوميًّا من إحدى المنظمات الإنسانية، وفيه جلست منيرة آدم علي لتتحدث عن صعوبات الحياة وحجم البؤس الذي يعيشونه، وبسخرية أوضحت أن الحكومة نفسها لا تستطيع مساعدتهم فحالتها صعبة، والمسكين لا يراه إلا الله.

بيوت الصفيح

ينتقل بنا فيلم “شابيلا” إلى طبقة أخرى من النازحين في معسكر المحاربين القدماء، الذي يعيش حياة بائسة لكنها أفضل حالًا حيث يعيشون في بيوت من الصفيح، تعد بمثابة حلم لساكني باقي المعسكرات، لجأ سكان هذا المعسكر إليه هربًا من الجفاف مثل الباقين، لكنهم انخرطوا في الحياة بالعاصمة، وعملوا ببعض المهن البسيطة في البناء وحمل الأمتعة في الميناء، لينتقلوا من حياة الخيم إلى حياة الصفيح.

دور الحكومة هنا، يكاد يغيب عن الأزمة، لأن مواردها أصلًا ضعيفة، ولا تكفي لسد احتياجات الجميع، وتعيش على المساعدات الدولية، لذا فالحكومة وحدها لن تتمكن من حل الأزمة، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي أضافت بعدًا جديدًا للأزمة في الصومال، وأدت لتفاقم أزمة الغذاء وخفض نسب المساعدات، بجانب ارتفاع الأسعار الذي أسهم في خلق ظروف شديدة القسوة ليصبح الصوماليون تحت حصار الإرهاب والمجاعة وندرة المساعدات.

لكن برغم كل شيء، وكما جاء على لسان المسؤولين في الحكومة وأساتذة السياسة والعاملين بالمجال الإنساني في الصومال، فإن البلاد في طريقها للتعافي مع تضاؤل سيطرة حركة الشباب وتحرر العديد من المناطق، وفرض الحكومة لسيطرتها تدريجيًّا على البلاد، وهو ما يستدعي وقوف المجتمع الإقليمي والدولي بجوار الصومال لمساعدة جهودها في حربها ضد إرهاب حركة شباب الصومال.

حلول

لم يكتف فيلم “شابيلا” بعرض الأزمة فقط، وحاول المساعدة في طرح حلول، أولها أهمية تدخل الحكومة بشكل أكبر لتوفير بنية تحتية تستوعب عدد المواطنين الذين يهربون إلى المدن الكبيرة، وتوفير الحد الأدنى من أساسيات الحياة لهم، حتى لا يتحول الأمر إلى حلقة مفرغة لا تنتهي.

ومن ضمن الحلول المطروحة أيضًا، بناء قدرات المواطن الصومالي وتمكينه من التكيف مع التغيرات المناخية، وإقامة المشروعات الاستثمارية التي تُسهم في بناء هذه القدرات، لأن الاستمرار في الاعتماد على المساعدات وحدها ليس حلًّا، لأن أزمة المناخ لن تنتهي، وإن غاب الجفاف، فالأمطار أحيانًا تتحول إلى فيضانات.

استعرض فيلم “شابيلا” أيضًا، الدور المصري لحل الأزمة في الصومال، في إطار تبني مصر للقضايا الأفريقية الملحة، وسعيها الحثيث لبناء قدرة الدول الأفريقية على الاكتفاء الذاتي وبدء المساعي للتنمية الشاملة في القارة، وكذلك تثمين المسؤولين في الصومال لهذا الدور.