كتبت – أماني ربيع

بعد نحو مائة عام من فك شفرة رموز حجر رشيد على يد العالم الفرنسي شامبليون، ونشأة علم المصريات، شكل خروج كنوز مقبرة توت عنخ آمون إلى النور في  4 نوفمبر 1922، حدثًا استثنائيًا أثار شهية العالم لمعرفة المزيد عن الحضارة المصرية القديمة، وأصبح اسم الملك توت في صدارة العناوين الرئيسية للصحف العالمية في عشرينيات القرن العشرين.

كان ثراء الاكتشاف مذهلا، آلاف المقتنيات الثمينة من الذهب الخالص كشفت عن حجم قوة الدولة المصرية القديمة ومدى استقرارها ورفاهيتها الاقتصادية، خاصة وأن كل ممتلكات المقابر المكتشفة سابقًا في منطقة وادي الملوك كانت قد سُرقت أكملها وعُثر عليها خالية.

استعادة مصر للمصريين

يقول الدكتور مجدي شاكر كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار، إن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون جاء في فترة مشحونة من تاريخ مصر الحديث، كانت أعوام قليلة مرت على ثورة 1919 التي شكلت الوعي بالهوية المصرية، ثم أصبحت مصر دولة مستقلة بعد تخلصها من الحماية البريطانية وصدور دستور عام 1923، هذه الفترة الثرية بأحداثها شهدت حالة من التنوير الثقافي والفني والوعي السياسي مع الاعتزاز بالهوية المصرية والتنديد بالاحتلال وهو ما ساهم في بلورة الشخصية المصرية، وانشتار مفهوم استعادة مصر للمصريين في ربوع البلاد.

بحسب شاكر، بدأت أعمال التنقيب عن مقبرة توت عنخ آون عام 1912 واستمرت لعشرة أعوام على نفقة اللورد كارنارفون، الذي وقع صفقة حصرية مع صحيفة التايمز البريطانية لجمع الأموال لدفع تكاليف عملية التنقيب الباهظة ثم فهرسة محتويات المقبرة، وكان للصحيفة وحدها حقوق تزويد الصحافة العالمية بالأخبار والصور، وهو ما أغضب العديد من الصحف المصرية التي اعتبرت توجهها لصحيفة أجنبية من أجل الحصول عن معلومات عن مقبرة ملك مصري إهانة.

الشارع المصري يغضب لأجل توت

 فور اكتشاف المقبرة خرجت بعض القطع في صورة إهداءات للأصدقاء والزوجات والصحفيين، لكن وزارة سعد باشا زغلول، وفقا لكبير الأثريين، لم تقف ساكنة وأرسلت قوة بوليس لمنع دخول الصحفيين للمقبرة إلا بموافقة الحكومة المصرية الذي اشتعل بينها وبين اللورد كارنارفون وهوارد كارتر صراعا كبيرا حول ملكية كنوز المقبرة، وهو ما أشعل بدوره غضبا شعبيا في الشارع المصري، وبدأت الصحافة المصرية في توعية الشارع بقضية الملك المصري توت الذي صارة على لسان كل المصريين باعتباره جزءا أصيلا من هويتهم.

ويضيف أن المحتجين ضد الاحتلال البريطاني خرجوا في المظاهرات هاتفين: “توت توت”، وبدأ توفيق أفندي الشهير بمقالاته الساخرة في مهاجمة الاحتلال البريطاني في جريدة اللطائف عن طريق الملك توت في صورة تلغراف أرسله توت عنخ آمون إلى سعد زغلول بعد انتهاء اعتقاله، وجاء في المقال: “من وادي الملوك إلى معسكر الأسرى العظام، من المسجون في قبر إلى المسجون في قصر، من فرعون مصر إلى رجل مصر، من توت عنخ آمون إلى الزعيم الذي يحبه شعبي، 30 جيلا تنتظرك يا سعد، وأنا الآن أحمل على أجنحة الأيام تحيات كل هذه الأجيال وأرفعها لك”.

ويوضح شاكر، أن وزارة سعد زغلول ممثلة في وزير الأشغال المصري مرقص حنا باشا، الذي سُمي بـ “وزير توت”، حالت بقوة وبين نهب كنوز المقبرة وسيطرت على موقع الحفر، وكانت شجاعة كبيرة تسببت في خوف المحتل الانجليزي من اشتعال ثورة جديدة بسبب توت عنخ آمون، وانتهى الأمر بحصول مصر على الملكية الكاملة لكل محتويات المقبرة، ولم تسمح بخروج أي قطعة آثار مصرية خارج البلاد.

تريند توت عنخ آمون

تحول توت عنخ آمون تحول إلى “تريند” داخل مصر وخارجها، بحسب الدكتور مجدي شاكر، ففي مصر نظم له أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدة بينما تحمست له سلطانة الطرب في العشرينيات منيرة المهدية، وارتدت زيًا فرعونيا لتنشد من كلمات يونس القاضي وألحان القصبجي:

ما يجيش زيي إن لف الكون

وإحنا أبونا توت عنخ آمون

اسأل من التاريخ ينبيك

عن مجدنا وبعدين أماشيك

ثم قالت مخاطبة الإنجليز:

وليه تزيد أنت عليا

وبلادي مهد الحرية

ومصر أم المدنية

وإحنا أبونا توت عنخ آمون

يشرح شاكر، كيف جلبت بعثة التنقيب المصور هاري بيرتون من متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك لتصوير أعمال المقبرة، وكان لأعماله أثرا كبيرا في توثيق كل مراحل وتفاصيل أعمال الحفر والمقتنيات، وبخلاف الأثاث والحلي الثمينة، كانت هناك قمصان من الكتان والشالات والأقمشة أصبحت ملهمة فيما بعد لصناع الموضة والأزياء، مشيرا إلى أن هذا الاكتشاف غذى حالة من الـ “إيجيبتومانيا” أو الهوس بالحضارة المصرية خاصة مع انتشار الراديو والصحف وفن السينما.

ملك أنصفه الموت

ويلفت إلى أن العديد من صور التماثيل والجواهر الذهبية والصناديق وتفاصيل الحياة اليومية من أرغفة خبز ووجبات لحم وسلال البقوليات والحمص والعدس والتمر وأكاليل الزهور التي جابت العالم، قدمت تصورا حالما حول الحياة الباذخة لملوك مصر القديمة.

ويوضح الدكتور مجدي شاكر أنه رغم مقتنيات مقبرة توت عنخ آمون التي لا تقدر بثمن، إلا أنها كانت مقبرة متواضعة بحجمها الصغير وتصميمها البسيط مقارنة بمقابر باقي الملوك في وادي الملوك، ويعطي ما تم اكتشافه فيها صورة تخيلية حول حجم ما كان بالإمكان اكتشافه من كنوز في مقابرهم التي سرقت بالكامل.

 وأشار إلى أن الملك الشاب قد أنصفه الموت واكتشاف مقبرته بعد حياة قصيرة البائسة، فقد عاش سنوات طفولته بعيدا عن والده إخناتون في منف، وبعد وفاة إخناتون، أخذوه إلى طيبة ليصبح دمية في يد كبير الكهنة والوزير حور محب، وزوجوه من أخته، وتم محو اسم إخناتون من على جدران المعابد، وعاد الكهنة للهتاف باسم أمون، وانتهت عبادة أتون، وظل توت ملكا بلا ملك حتى توفي وهو يناهز 19 عامًا، وإذا لم يكن ملكا مهما في زمنه، فإن مقبرته جعلته أشهر ملوك مصر القديمة على الإطلاق، وأصبح مرادفا لاسم مصر حول العالم.

مصدر إلهام

يشير كبير الأثريين إلى أن مقبرة توت عنخ آمون قدمت للعالم مصدر إلهام ثقافي في الفن التشكيلي والأزياء والديكور وأصبحت الزخارف والموتيفات المصرية القديمة من وحدات طيور وزهور اللوتس موضة في مجال الأزياء، وبدأ تراث مصر القديمة من التصاميم والزخارف إلى النسيج الرقيق الذي استخدمه المصريون في ملابسهم لتسهيل الحركة وترطيب الجسم، يغازل مخيلة العالم، أصبح مدخلاا جديدا لتطويع الخامات في عالم الأزياء.

لم يتوقف حجم التأثير على عقد العشرينيات في القرن العشرين، ولازالت الحضارة المصرية القديمة مصدر إلهام للعديد من عروض الأزياء، وفي عام 2018، قدم مصمم دار أزياء شانيل الراحل كارل لاجرفيلد عرضَا أسطوريا في متحف المتروبوليتان، قدم خلاله عشرات الإطلالات المستوحاة من الحضارة المصرية القديمة برموزها المختلفة من أهرامات ومفتاح الحياة وغيرها.

وبخلاف الأزياء، بدأ الناس حول العالم يقبلون على أي منتجات تشير من قريب أو بعيد إلى عالم توت عنخ آمون، وتحولت قصة شعر كليوبترا إلى موضة بين النساء، وكذلك أحمر الشفاه ومساحيق التجميل وكريمات الوجه التي تم التسويق لها تحت أسماء تنتنمي للحضارة المصرية القديمة مثل منتجات Nile Queen التي كانت تصنعها شركة أمريكية في شيكاغو يتم التسوبق لها كمنتجات مستوحاة من مصر القديمة.

في عالم السينما، قدم الملك توت الإلهام لكاتب سيناريو واحد من أشهرأفلام الرعب في تاريخ السينما، وهو الصحفي جون بالديسترون الذي كان أول صحفي رأى وجه مومياء الملك الشاب،  ومن وحي هذا اللقاء كتب سيناريو فيلم الرعب الشهير “المومياء” الذي صدر عام 1932، كذلك قدمت صور هنري بيرتون لهوارد كارتر وكارنارفون مع الكنوز، سببا في خلق هالة كبيرة لعلماء الآثار والمنقبين عنها باعتبارهم شخصيات بطولية وجريئة، واستوحى كتاب الرواية والأفلام من عالمهم شخصيات مثل أنديانا جونز، وغازية القبور لارا كروفت.