كتبت – د. إيمان عبدالعظيم

مدرس العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة

انتشرت العديد من الروايات في الآونة الأخيرة حول صراع عالمي جديد يحدث الآن في أفريقيا، وتُظهر التوترات المتصاعدة مع روسيا، أن الدول الغربية تواجه مخاوف أوسع بكثير في أفريقيا من فقدان الميزة النسبية لها. وتمثل أفريقيا ساحة جذابة لروسيا، حيث أقر بوتين -في القمة الروسية الأفريقية في سوتشي2019- بالمصالح المتنافسة في قارة الفرص، وشدد على رغبة روسيا المشاركة في توزيع جديد لثروات القارة. ولهذا؛ تسعى هذه الورقة إلى تتبع التحركات الروسية في أفريقيا، من خلال تفسير أسباب اهتمام روسيا بأفريقيا، مرورًا بالتحركات الروسية في أفريقيا ثم رصد رد فعل فرنسا إزاء هذه التحركات. والنظر إلى الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو سبتمبر 2022، من منظور التنافس الروسي-الفرنسي، وانتهاء بمدى إمكانية نجاح روسيا في تكرار سيناريو مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وعمل حلف روسي في المعاقل التاريخية لفرنسا.

أولًا: تفسير أسباب اهتمام روسيا بأفريقيا

تعددت الأسباب المفسرة لاهتمام روسيا المتزايد بأفريقيا. تنبع أولها؛ من رغبة روسيا إحياء روابط الحقبة السوفيتية القديمة مع القارة بهدف استخراج الموارد مقابل الحصول على المساعدات الأمنية. وتعد هذه الاستراتيجية مفيدة للطرفين، حيث يمكن أن ينتج عنها المزيد من الحلفاء على المسرح الدولي. وجاءت ثانيها؛ من خلال رؤية روسيا لأفريقيا باعتبارها الحدود الثانية بعد أوروبا الشرقية بهدف تطويق أوروبا الغربية . وتستعين بعدة أدوات منها تصدير الأسلحة وتأجيج سياسات الهجرة. وفي هذا الصدد، تتمثل الاستراتيجية الكبرى لروسيا في الترويج لمقولات هامشية القارة بالنسبة للمصالح الغربية. وتأطير التدخلات الروسية في القارة على أنها عودة حليف قديم مناهض للاستعمار أو حصن قوي ضد التطرف[1].

أيًّا كان البديل الذي يفسر اهتمام روسيا بأفريقيا، فهناك أسباب مهمة وراء قدرتها على توسيع نفوذها في القارة بهذه السرعة. تتجلى في الاستراتيجية الروسية المتناسقة على مدى الـ10 سنوات الماضية، وتردد الغرب المتزايد في الالتزام بالمساعدات العسكرية خلال نفس الفترة. لا تستغل روسيا نقاط الضعف في القارة فحسب؛ بل تستغل أيضًا تراجع الثقة لدى بعض الدول الأفريقية في مدى جدوى الإصلاحات الديمقراطية الليبرالية، خاصة في ظل تحول اهتمام القادة الأفارقة نحو التركيز على التهديدات الأمنية المتصاعدة.

ويلاحظ وجود 3 أحداث محورية أدت إلى زيادة وتيرة الاهتمام الروسي بأفريقيا. يتمثل أولها؛ في عزلتها بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وهو ما ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمحاولات روسيا لتحدي الهيمنة الغربية والحوكمة العالمية والبحث عن أسواق بديلة للشركات الروسية. في حين تمثل ثانيها؛ في نوفمبر 2019 حينما استضافت روسيا أول قمة روسية أفريقية في سوتشي لتأمين الصفقات التجارية ومشاريع الطاقة والاتفاقيات العسكرية مع العديد من الدول الأفريقية. فعلى غرار دعم بوتين لبشار الأسد في سوريا، تنظر روسيا إلى أفريقيا باعتبارها فراغًا في السلطة يمكن استخدامه لتوسيع نفوذها من خلال استغلال الصراع وبيع الأسلحة لكسب صفقات لشركات الطاقة التي تديرها الدولة. وتسعى روسيا لتعزيز مكانتها في النظام العالمي وأصبحت أفريقيا موطئ قدم وهدف بالغ الأهمية بالنسبة لها. ولهذا؛ قامت روسيا بإلغاء ديون مستحقة للاتحاد السوفييتي بـ20 مليار دولار في أفريقيا؛ مما يرمز إلى علاقة متبادلة المنفعة بين روسيا وأفريقيا على مدى أكثر من 10 سنوات.

وجاء ثالثها؛ ممثلًا في الصراع الروسي الأوكراني والنظر إلى أفريقيا على أنها كتلة تصويتية قوية يمكن أن تقوي الكرملين على المسرح الدولي. وقد تستمر الحرب في أوكرانيا، وستبدأ الموارد الروسية العسكرية والاقتصادية في الضغط. في هذا السيناريو، تصبح المعاملات الروسية والدولة في أفريقيا تأمينًا لسياسة بوتين، حيث من المحتمل أن تصبح القارة مصدرًا اقتصاديًّا وسياسيًّا منتظمًا للكرملين. كما يضع الصراع الروسي الأوكراني ضغوطًا أكبر على موسكو لتأمين المعاملات المربحة في أفريقيا من خلال رعاية حلفائها الجدد هناك. ولهذا، من المرجح أن يزداد الاهتمام الروسي بأفريقيا[2].

ثانيا: التحركات الروسية في منطقة الساحل الأفريقي

تتحرك روسيا في أفريقيا -بشكل عام، والساحل الأفريقي تحديدا- من خلال عدد من الأدوات. ترتكز على غياب الماضي الروسي الاستعماري في أفريقيا، والذي يعد حجر الزاوية في استراتيجية المعلومات الروسية. تتمتع روسيا بقدرة فائقة على تضخيم المعلومات حول نجاحاتها. وتوظف أيضا الجهات الفاعلة غير الحكومية كوكيل للدولة. تستخدم مجموعة فاجنر لتعزيز مصالحها بشكل غير رسمي وتأمين الموارد الطبيعية وتسهيل فراغات السلطة التي يمكن لروسيا زيادة نفوذها فيها[3].

نشرت روسيا الشركات العسكرية الخاصة في 21 دولة على الأقل منذ عام 2014، ومعظمها في أفريقيا. بين عامي 2014-2018 تضاعف نشاط الشركات العسكرية الخاصة الروسية في أفريقيا أكثر بمقدار 3 أضعاف في كل من السودان وليبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومالي حينما قلّصت فرنسا عمليات مكافحة الإرهاب في الأخيرة. في ديسمبر 2021 انتشرت فاجنر في مالي لدعم الحكومة العسكرية الانتقالية ومتابعة عقود الموارد الطبيعية في الدولة عقب انسحاب القوات الفرنسية المكلفة بمكافحة التمرد[4].

قبل 2015 جاءت مشاركة الضباط الروس في بعثات الأمم المتحدة محدودة مقارنة بإسهامات الدول الغربية أو الصين. وفيما بعد أظهرت روسيا عزمها تغيير هذا الوضع. فأبرمت روسيا اتفاقيات عسكرية مع 21 دولة أفريقية بدرجات مختلفة من التعاون. وتعد روسيا بالفعل موردًا رائدًا للأسلحة في أفريقيا[5]. ولهذا، تتواجد روسيا بشكل خاص في مالي وبوركينا فاسو من خلال التعاون العسكري وصفقات الأسلحة. وأصبح التواجد الروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى أكثر تقدما بفضل التواجد المنخفض لفرنسا في هذا البلد بعد انتهاء عملية حفظ السلام 2016[6].

جدول رقم (1): يوضح صادرات الأسلحة الروسية لأفريقيا بملايين الدولارات(2010-2021)

الدولةصادرات الأسلحة من روسيا بملايين الدولارات
الجزائر7924
مصر4366
أوغندا611
أنجولا501
السودان313
نيجيريا249
إثيوبيا123

Source: SIPRI Trend Indicator Values (TIVs(

رغم تواجد القوات الأوروبية في منطقة الساحل الأفريقي للسيطرة على تدفقات الهجرة إلى أوروبا. إلا أن السكان والسياسيين هناك يطالبون بزيادة التعاون مع الحكومة الروسية، فزادت روسيا تواجدها في الساحل الأفريقي ـ أُدرجت مالي وبوركينا فاسو على أنها شريك محتمل، بينما صُنفت جمهورية أفريقيا الوسطى كدولة من المستوى الخامس بأعلى درجة وفقا للمصالح والتعاون الروسي[7].

دعمت روسيا اتصالاتها مع جمهورية أفريقيا الوسطى بعد اجتماع وزراء خارجية البلدين عام 2017. وفرت روسيا الأسلحة والتدريب الأمني لبانجي بموافقة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. تحفّظ الداعمون التقليديون لبانجي لا سيما فرنسا والولايات المتحدة في تقديم المساعدة. فقامت روسيا بملء الفراغ والحضور المهيمن من خلال نشر أكثر من 1000 جندي من قوات فاجنر فضلًا عن معدات عسكرية ومدرعات ثقيلة إلى العاصمة بانجي عام 2018.

تعد حزم دعم النظم إحدى أدوات روسيا أيضا. اكتسبت روسيا سمعة طيبة بين القادة الأفارقة كشريك عسكري ضد الإرهاب الإسلامي. بعد خروج روسيا من ساحات القتال في سوريا منتصرة، نجحت في خلق مكانة لها وسط الجهات الفاعلة العاملة في القارة. نمت سمعتها وعرضت الدعم للحكومات الأفريقية ما بين المساعدات العسكرية التقليدية إلى حملات الإعلام السياسي والاجتماعي التي تم إعدادها بعناية من خلال قدرات الأمن السيبراني في الكرملين. وحققت روسيا مكاسب من خلال الدخول في الفراغ الذي تركه الغرب وراءه وتردد الصين في ملء هذا الفراغ. بسبب مخاوفها بشأن حقوق الإنسان، انسحبت الولايات المتحدة من اتفاق الحكومة النيجيرية عام 2014، مما دفع روسيا إلى تزويد نيجيريا بشحن مروحيات هجومية. وخفّضت أيضًا المساعدات العسكرية والأسلحة إلى مصر منذ عام 2013، وهو ما ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام روسيا، لاستغلال ذلك[8].

لا تقتصر أدوات النفوذ الروسي في أفريقيا على الأدوات بمعناها المادي فحسب؛ بل كانت القوى الناعمة لروسيا حاضرة في أفريقيا. وتجسدت في المواقع الإخبارية التي ترعاها روسيا مثل RT France and Sputnik France باعتبارهما أدوات رئيسية للدبلوماسية العامة لروسيا ولشعبيتها في فرنسا وللجماهير الأفريقية الناطقة بالفرنسية. كما قامت بتقديم أكثر من 300 مليون جرعة من لقاح Sputnik V Covid-19 مباشرة إلى الاتحاد الأفريقي في محاولة منها للتأثير. وفي السنوات الأخيرة، صوّرت روسيا نفسها كلاعب رئيسي في مكافحة فيروس إيبولا. أتاحت جائحة كوفيد19 لروسيا فرصة أخرى لتقديم المساعدات الإنسانية إلى دول أخرى بما في ذلك تلك الموجودة في أفريقيا. استفادت روسيا من هذا الموقف من خلال covid-diplomacy، والتي تتضمن توصيل إمدادات الحماية الشخصية إلى دول مستهدفة في القارة[9].

تمارس روسيا نفوذها داخل الساحل الأفريقي. فتجري اتصالات مع نشطاء ومؤثرين أفارقة. ما نجم عنه انتشار مؤيدين لها في أفريقيا يميلون إلى نزع الشرعية عن الغرب لاسيما فرنسا، وتبني سردية مناهضة الاستعمار. وتعمل روسيا بمقتضاها على استبدال الغرب ببديل جذاب آخر عن طريق استخدام الشخصيات المؤثرة في البلاد . من ثَم، تعمل روسيا على تشكيل المشاعر الأفريقية بطريقتين: الأولى لصالح روسيا والثانية ضد الحكومات الغربية[10].

ثالثًا: رد فعل فرنسا إزاء التحركات الروسية في منطقة الساحل الأفريقي

منذ عام 2014 تقود فرنسا عملية برخان في الساحل الأفريقي بهدف محاربة الجهاديين وحماية استثمارات مجموعتي توتال في مالي وأريفا في النيجر. وتساهم في تعزيز الأمن الأوروبي من خلال تقليل ضغط الهجرة. ولهذا، يتم دعم القوات الفرنسية من قبل جيوش دولG5 (بوركينا فاسو، تشاد، مالي، موريتانيا، النيجر) بالإضافة إلى وحدات بريطانية وكندية وأستونية.

نظريا، تُظهر الأهداف الروسية والفرنسية في هذا الجزء من أفريقيا قدرًا كبيرًا من التشابه. فكلاهما تعلنان دعمهما للسلطات المحلية ومحاربة الإرهاب والتعاون الإنمائي. قد يكون العرض الروسي بديلًا مثيرًا للاهتمام بالنسبة للحكومات الأفريقية. والذي يركز على الاستقرار ووحدة القوة أكثر من التركيز على المصالحة بين الجماعات الإثنية. في حين يستند النهج الفرنسي على التحول الديمقراطي والانتخابات الدورية والتوافق. ويُنظر إلى فرنسا على عكس روسيا على أنها قوة استعمارية قمعية خاصة من قبل سكان مالي وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى. نتيجة الذاكرة الجماعية حول الماضي الاستعماري لفرنسا والمساعدة الدولية للاتحاد السوفيتي السابق، تُتهم القوات الفرنسية في منطقة الساحل بعدم الفعالية، ولا تهتم بما يكفي بأمن المدنيين في محيط العمليات. ومن ثَم، يعد إخماد الحملات المناهضة للفرنسيين في وسائل الإعلام الأفريقية بمثابة الثمن الذي يجب على فرنسا دفعه ردًّا على التحركات الروسية في الساحل الأفريقي[11].

شهدت استجابة فرنسا لتحركات روسيا في الساحل الأفريقي تغيرات متباينة. سعت فرنسا في بداية الأمر إلى تهدئة التوترات مع روسيا الناجمة عن ضم شبه جزيرة القرم. وتجسدت أولوية ماكرون في استعادة مكانة فرنسا القديمة باعتبارها قوة موازية وتحقيق التوازن بين الصين وروسيا والولايات المتحدة. ورغم تعرض مصالحها للخطر بسبب التوسع الروسي في أفريقيا، حاولت فرنسا تجنب التأكيد على ذلك. واتجهت نحو تكثيف مشاركتها الاقتصادية الاجتماعية من خلال تقديم نموذج تعاون مثمرـ في الوقت نفسه يتفق المحللون الفرنسيون على أن روسيا كثفت مشاركتها في أفريقيا نتيجة العقوبات الغربية.

ثم تطورت استجابة فرنسا لتحركات روسيا في مناطق نفوذها فيما بعد. وكانت السلطات الفرنسية مقتضبة في تعليقاتها على الإجراءات الروسية. ففي أوائل 2019، انتقدت فرنسا المساعدات العسكرية الروسية لبانجي. في نوفمبر 2019 أعلن ماكرون تكثيف المساعدات التنموية والمشاركة الفرنسية في بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية في جمهورية أفريقيا الوسطى. في قمة فرنسا G5 يناير 2020 أصدر ماكرون تحذيرًا من تدخل دول أخرى في أفريقيا من خلال المرتزقة في إشارة إلى روسيا خوفًا من انهيار الوضع في منطقة الساحل وجمهورية أفريقيا الوسطى وتكرار السيناريو السوري الليبي[12].

رابعًا: الانقلاب العسكري في بوركينا فاسو من منظور التنافس الروسي الفرنسي

تسعى القوى الأجنبية إلى التأثير الاستراتيجي في أفريقيا بأدوات متباينة من بينها الانقلابات العسكرية. ويؤدي زيادة التنافس الخارجي والنفوذ الأجنبي إلى زيادة احتمالية حدوث الانقلابات العسكرية. ففي العقود الـ4 الأولى من الاستقلال، اندلعت انقلابات ضد سياسات الحرب الباردة. وبان جليًّا التأثيرات الخارجية للانقلابات الأخيرة في غرب أفريقيا (2020-2022) في مالي وغينيا كوناكري وبوركينا فاسو[13].

شهدت بوركينا فاسو انقلابًا عسكريًّا جديدًا في 30 سبتمبر 2022 أطاح برئيس المجلس العسكري الحاكم للبلاد بول هنري داميبا . والذي أطاح قبل 8 أشهر في 24 يناير 2022 بالرئيس مارك كابوري. وتعكس هذه الحالات، الطابع العسكري للسياسة الأفريقية. وتركيز علم السياسة الأفريقي مرة أخرى في دراسته للفاعلين على المستويات العليا، خاصة هؤلاء الفاعلين أصحاب القرار على المستوى العسكري، ما يعد مؤشرًا على تدهور الوضع السياسي والاجتماعي في أفريقيا[14]. وهناك العديد من العوامل المؤثرة في الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو، كالتالي:

فيما يتعلق بالعوامل الداخلية: تتمثل في عجز المقدم داميبا عن استعادة الأمن في البلاد، وفشله في وضع استراتيجية للتصدي للجماعات المسلحة، واتهامه بعدم العدالة في منح المناصب العسكرية بالإضافة إلى سخط قوات وحدة الكوبرا الخاصة، فضلًا عن استمرار حبس ومحاكمة المقدم إيمانويل زونجرانا، والسماح بعودة الرئيس الأسبق بليز كومباوري للبلاد، وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد خاصة في ظل وجود مناخ أفريقي ودولي متراخٍ بصدد التدخل في أمور الانقلابات العسكرية وموقفهم السلبي من التغييرات غير الدستورية للحكومات الأفريقية التي جعلت تدخل الجيش في السياسة الأفريقية أمرًا لا مفر منه بعد تأييد قادة الاتحاد الأفريقي وجماعة الإيكواس.

وفيما يتعلق بالعوامل الخارجية: تزعم الورقة أن العوامل الحاكمة للانقلاب العسكري في بوركينا فاسو تنبع -في معظمها- من التنافس الروسي الفرنسي في المنطقة، واستمرار مطامع القوى الدولية في الاستيلاء على ثروات وموارد البلاد واستغلال موقعها الاستراتيجي. تعد أفريقيا من أشد مناطق العالم تأثرًا سلبًا وإيجابًا بالصراع الدولي الدائر بين معسكري الشرق والغرب، وبخاصة بعد الصراع الروسي الأوكراني. يعد إقليم الساحل شمال غرب أفريقيا من أكثر المناطق تأثرًا بحرب النفوذ التي تخوضها روسيا ضمن مناطق النفوذ الفرنسية التقليدية، وقد طالت حرب النفوذ بوركينا فاسو، وتجلى ذلك في دعم فرنسا لانقلاب يناير داميبا، وروسيا في انقلاب سبتمبر (تراوري) في إطار حرب النفوذ المذكورة مع الأخذ في الاعتبار وجود روايات أخرى تدعم فكرة وقوف فرنسا وراء الانقلاب الأخير[15].

خامسًا: مدى إمكانية نجاح روسيا في تكرار سيناريو مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى

تجري المنافسة الفرنسية الروسية بشكل أساسي في منطقة الساحل الأفريقي، التي تعاني ضعف القوة المركزية رغم ثرائها بالموارد الطبيعية. يعود هذا الضعف إلى وجود الجماعات السلفية في المناطق الحدودية لبوركينا فاسو ومالي والنيجر[16].

على غرار الوضع في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، يقدم انقلاب واجادوجو مثالًا آخر على التنافس بين روسيا وفرنسا في منطقة الساحل. ويشمل هذا التنافس مجالات أنظمة الطاقة في البلدين. عقبت انقلاب يناير 2022، أشادت مجموعة فاجنر الروسية باستيلاء داميبا على السلطة مؤكدة أنه بداية لموجة جديدة من إنهاء الاستعمار. ولكن، لا يزال من الصعب تحديد تأثير مجموعة فاجنر في بوركينا فاسو. ففي هذه المرحلة التاريخية المضطربة غالبًا ما تكون الحدود بين التهديد الحقيقي وتصوره غير واضحة. ولكن قبل انقلاب يناير 2022، حاول داميبا دون جدوى إقناع الرئيس المعزول كابوري بقبول مساعدة المدربين الروس لمواجهة التمرد في المناطق الشمالية. وفي أعقاب انقلاب تراوري سبتمبر 2022 خرجت احتجاجات ضد فرنسا وظهرت الأعلام الروسية بين المتظاهرين، ما يعني أن تراوري قد يقيم علاقات وثيقة مع موسكو.

أيًّا ما تكن الأمور قبل الانقلاب، فإن روسيا الآن حريصة على استغلال تقارب العوامل المختلفة، والأخطاء التي ارتكبتها فرنسا فيما يقرب من 10 سنوات من التمرد والسخط الشعبي تجاه الأنظمة الديمقراطية وتدهور الوضع الأمني، فضلًا عن عدم الرضا -على نطاق واسع- عن المساعدات المقدمة من الاتحاد الأوروبي والشركاء الرئيسيين الآخرين. ولهذا، تقدم موسكو خدمات ومبادرات لقادة دول الساحل الأفريقي والتي تتضمن بيع الأسلحة والتدريب وتوفير الموارد الهامة التي عادة ما تستغرق الحكومات الغربية وقتًا أطول لتوفيرها[17].

في هذا السياق، أصبح من الصعب على باريس فرض خططها كما فعلت في الماضي (مالي مثالا)، وهو ما يتضح في جمود العلاقات بين فرنسا ودول المنطقة. ومن ناحية أخرى، لن تتمكن الحكومات المحلية في بوركينا فاسو من التعامل مع تفاقم الأزمة الأمنية في حالة انسحاب القوات الفرنسية من أراضيها. ولكن على الجانب الآخر، تستمر المشاعر المعادية للفرنسيين في النمو، وتثيرها القيادات العسكرية المختلفة المستعدة لتنوع الشراكات، ما يعيق إلى حد كبير التعاون مع فرنسا. رغم ذلك، مٌقدر لفرنسا ودول الساحل أن تظل مقيدة على الأقل في المدى الزمني القصير. ولكن قد يؤثر ذلك سلبًا على وجود الاتحاد الأوروبي في منطقة الساحل بما في ذلك عملية تاكوبا. وُضع الاتحاد الأوروبي تحت الضغط جراء العداء لفرنسا والاتحاد الأوروبي الذي أثارته الحكومات الانقلابية ووجود المتعاقدين الروس إلى جانب الحملات الإعلامية. ورغم وجود انفصال كبير في الوقت الحالي بين الممارسات التنافسية في منطقة الساحل وتلك الموجودة في أوكرانيا، إلا أن الوجود الروسي المتزايد في المنطقة قد يؤدي إلى انتقام غير مباشر من أوروبا كردّ فعل على التوترات المتصاعدة في أوكرانيا، ما يدعم سيناريو وقف فرنسا خلف الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو سبتمبر 2022. وفى سياق سياسي غير مستقر يتميز بانتشار الانقلابات وتغلغل روسيا كقوة منافسة في المنطقة، فهناك سيناريوهان محتملان لحسم المسألة موضع البحث كالتالي:-

أ) الاتجاه الأول يدعم فكرة عدم قدرة روسيا تهديد فرنسا أو تكرار السيناريو في مالي

رغم إنجازات قمة سوتشي التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، لا تزال روسيا لاعبًا ثانويا في أفريقيا، ويجب الاعتراف بذلك عند تحليل عمليات روسيا في القارة. بسبب وضعها الاقتصادي والعسكري الحالي، فإن روسيا غير قادرة على تخصيص موارد كبيرة لأفريقيا؛ فهي شريك اقتصادي ثانوي[18].

يضاف إلى ذلك احتياج بوركينا فاسو إلى التعامل مع الشريك الأوروبي خاصة في تقديم الدعم المالي لبوركينا فاسو لاسيما أن حالة عدم اليقين الناجمة عن الانقلاب تضع البلاد تحت خطر اقتصادي. فالعقوبات التي أقرتها الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا ضد مالي أضرت بجزء كبير من التجارة الخارجية لبوركينا فاسوـ كما مثل الإطاحة بكابوري تهديدًا لخطة التنمية الوطنية التي قدمتها الحكومة المخلوعة للفترة من 2021-2025، والتي لا يمكن تنفيذها دون دعم المانحين الدوليين والشركاء مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، تُعرّض حالة عدم اليقين التي تميز التحول الحالي في بوركينافاسو عائدات قطاع التعدين (الذهب تحديدًا) للخطر والتي تلعب دورًا أساسيًّا في اقتصاد البلاد. يمكن أن تكون كل هذه الديناميات الاقتصادية بمثابة نقطة ارتكاز لمفاوضات أوروبية (فرنسية تحديدًا) مع الحكومة الجديدة، عبر تطبيق شروط على إنفاق الأموال. ويمكن تنفيذ استراتيجية تعاونية مع الحكام الجدد للبلاد، والاستفادة من المرونة التي أظهرتها شركات التعدين في البلاد، مثل التصريحات الأخيرة الصادرة عن الإدارة العليا لشركةRed R-ock Resources and Endeavor Mining التي توضح كيفية تكيفها مع التغيرات السياسية.

وفي السيناريو الحالي، لا يقتصر الدعم على المستوى المالي البحت فحسب؛ بل على المستوى الأمني أيضًا. ويظل التعافي الاقتصادي والنمو أفضل الأدوات المتاحة لمنع التطرف، خاصة في ضوء الجذور الاجتماعية للانقلاب. ويدرك النظام الجديد في بوركينا فاسو أن التقارب مع روسيا لن يضمن نفس النوع من الموارد التي يمكن للشركاء الآخرين توجيهها، وسيؤدي بالبلاد إلى العزلة الدبلوماسية. في هذا السياق، يصبح الدعم الاقتصادي لبوركينا فاسو عنصرًا ليس فقط لمواصلة الحوار مع السلطات، ولكن أيضًا لإعادة انتقال الديمقراطية إلى المسار الصحيح[19].

ب) الاتجاه الآخر يرى قدرة روسيا تكرار سيناريو مالي: تعد بوركينا فاسو الدولة الثانية في منطقة الساحل التي تعلق العمليات الفرنسية في البلاد بعد مالي. وتعتبر روسيا الشريك المثالي في محاربة الحركات الجهادية. يرغب مواطنو بوركينا فاسو، أن تحذو بلادهم حذو عاصمي جوتيه قائد الانقلاب العسكري في مالي. وبعد الانقلاب في بوركينا فاسو يتوقع البوركينيون تعزيزًا بين باماكو وواجادوجو في الحرب ضد الجهادين بدعم من روسيا. بعد التعاون مع روسيا تحسنت المعدات واللوجستيات للدولة في مالي. تؤثر هذه الأمور على الوعي الجمعي لبوركينافاسو وأفريقيا الآن، ويُرى عاصمي جوتية في مالي كشخصية ثورية جديدة تقاتل من أجل التحرر من المستعمر الفرنسي وقطع الحبل السري مع القوى الاستعمارية القديمة التي لم يعد يوثق بها، حيث تواجه فرنسا مستوى متزايدًا من عدم الشعبية في أفريقيا

وظهرت انقسامات داخل الجيش في بوركينا فاسو حول ما إذا كان ينبغي طلب المساعدة من شركاء دوليين آخرين لمحاربة المسلحين. وذكر الجنود الذين أطاحوا بدميبا إن الزعيم السابق الذي ساعدوه في الاستيلاء على السلطة يناير 2022 نكث خطة البحث عن شركاء آخرين، ولم تُذكر أسماء الشركاء، ولكن يريد الجنود شراكة أوثق مع روسيا، كما حدث في مالي المجاورة أغسطس 2020.

وأظهر تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة مارس 2022 مدى النفوذ الروسي في أفريقيا[20]. يعتمد قادة مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والسودان كليًّا على روسيا وفاجنر للاحتفاظ بسلطتهم، في حين نمت علاقات الآخرين -الذين امتنعوا عن التصويت أو لم يصوتوا مع روسيا من خلال الأسلحة الروسية من أجل حزم دعم النظم التي يقدمها الكرملين. وهناك الآخرون المدفوعون بقيم عدم الانحياز القوية أو الرغبة في الحفاظ على الحياد، وتعتزم الحفاظ على علاقاتها مع روسيا؛ لأنها لن تتداخل مع التزامها بالسلام والأمن[21].

جدول رقم (2): نتائج الدول الأفريقية لقرار الاعتداءات الروسية ضد أوكرانيا

عدد الدولموقف الدولة من قرار الاعتداءات ضد أوكرانيا
28مؤيد
17ممتنع
8غائب
1ضد

Source:United Nation

خاتمة:

رغم تنوع وجهات النظر التي تكشف عن حجم التنافس الروسي الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، وتشكل الوجود طويل الأمد لروسيا في أفريقيا، إلا أنه يمكن إيراد بعض الملاحظات:

1- اكتسبت روسيا سمعة طيبة في أفريقيا؛ لاعتمادها أدوات رسمية وغير رسمية تشمل فاجنر وتكنولوجيا المعلومات. وتمنح هذه الأدوات -ذات التكلفة المنخفضة نسبيًّا- روسيا الإنكار المعقول وهو سيناريو مربح لها.

2- تسعى روسيا إلى تحقيق أهداف استراتيجية ضيقة في أفريقيا. تهدف إلى اكتساب النفوذ وتوسيع حضورها الجيوسياسي لمواجهة الغرب وإقامة مصدر للموارد الطبيعية والنهوض بنظام دولي ما بعد الليبرالي. توفر ظروف عدم الاستقرار والاضطرابات الأمنية الفرصة لروسيا للانطلاق نحو تقوية علاقاتها مع القادة الأفارقة من خلال حزم دعم النظم مما يؤدي إلى مزيد من انعدام الأمن وترسيخ الفساد وتكاثر الديون على المدى الطويل في أفريقيا.

3- توسيع النفوذ الروسي في أفريقيا يهدد استقرار أوروبا. يعتبر عدم الاستقرار في أفريقيا سوق متنامية للأسلحة، ما يعزز الموقف الروسي في مواجهة عقوبات الغرب. أكدت روسيا نفوذها في منطقتين رئيسيتين للصراع في القارة: ليبيا والساحل الأفريقي. إن وجود روسيا المتزايد في السودان ونفوذها غير المقيد في ليبيا يمنحها موقفًا أقوى، ما يؤدي إلى تعطيل التحركات البحرية لحلف الناتو في أوقات الأزمات. تتمتع روسيا بإمكانية الوصول إلى منطقة الساحل الأفريقي وبإمكانية الوصول إلى طريقين رئيسين للهجرة والاتجار بالبشر في أفريقيا، ما يضع روسيا في موقف أقوى لإثارة أزمات إنسانية وسياسية لأوروبا خلال أوقات الصراع.

4- تسعى روسيا وراء رؤية نظام عالمي ما بعد ليبرالي في أفريقيا. وهو ما يعنى تقويض القواعد المستند عليها النظام الدولي ومبادئ الإصلاح الديمقراطي لصالح السلاح مقابل الموارد وقيادة غير خاضعة للمساءلة. تشتبك روسيا مع القيادة الأفريقية في تحدي ركائز الديمقراطية. اكتسبت روسيا جمهورًا متقبلًا بين القيادات الأفريقية؛ لأنها تستغل مخاوف حقيقية نابعة من انعدام الأمن. بالنسبة لبعض النخب السياسية الأفريقية أصبحت الديمقراطية والإصلاح مرادفًا لعدم الاستقرار والاضطراب.

وفي الأخير، لا يمكن لأي كيان -يهدف إلى التأثير على الشئون العالمية في العقود القادمة- أن يحمل استراتيجية سلبية تجاه أفريقيا. وهذا ما وصفته مجلة الإيكونوميست بـ”التدافع والتنافس الجديد على أفريقيا”. وترى كثير من الدول أنه من الحكمة تعميق العلاقات مع أفريقيا. وذلك للعديد من الاعتبارات المتمثلة في القوة التصويتية لأفريقيا البالغة 54 دولة، فضلًا عن أن رأس المال البشري سيصبح أهم ميزة في الصورة العالمية لأفريقيا؛ لأن ربع سكان العالم من الأفارقة والتي تتمثل في القوى العاملة الشابة والمتنامية في القارة في المقابل شيخوخة السكان في مناطق أخرى في العالم، بالإضافة إلى أفريقيا الموارد الطبيعية كوبالت ومعادن وأهميتها لمستقبل البشرية الذي تحركه التكنولوجيا.


[1] Emman Elbadawy, Sandun Munasinghe, Beatrice Bianhi, Security ,Soft Power and Regime Support: Spheres of Russian influence in Africa(Tony Blair Institute for Global Change , Mars. 2022),pp.7-11

[2] Ibid.,pp.18-20

[3]Karel Svoboda , Tomass Pildegovičs, Kristina VanSant, Monika Hanley, Russia’s Activities in Africa’s Information Environment: Case studies: Mali and Central African Republic (NATO  Strategic Communications Center of Excellence ,2021(  

[4] Emmanuel Dreyfus, Moscow’s Limited Prospects in Sub-Saharan Africa )Wilson Center , Kennan Institute , No.47,Feb. 2020),pp.45-52

[5] Emman Elbadawy , Sandun Munasinghe , Beatrice Bianhi, Security ,Soft Power and Regime…,op.cit.,pp.23-29

[6] Karel Svoboda , Tomass Pildegovičs, Kristina VanSant, Monika Hanley, Russia’s Activities in Africa’s ..,op.cit., p.65

[7] Emman Elbadawy , Sandun Munasinghe , Beatrice Bianhi, Security ,Soft Power …..,op.cit.,pp.30-35

[8] Michelle D. Gavin ,Discussion Paper Series on Managing Global Disorder(New York, Major Power Rivalry in Africa The Council on Foreign Relations (CFR),No. 5, May 2021)

[9]Le Monde Coup d’Etat au Burkina Faso: le parrain du groupe Wagner salue une “nouvelle ère de   décolonisation” (2022) https://bit.ly/3grEjtE

[10] Luciano Pollichieni,The coup, Russian influence, popular support: why has the military taken over Burkina Faso? ,Feb.2022, https://bit.ly/3VQSzMH

[11]Paul Melly, Why France faces so much anger in West Africa,
Africa analyst, 5 December 2021, https://www.bbc.com/news/world-africa-59517501

[12]Jeune Afrique Coup d’État au Burkina: la Cedeao suspend le pays, mais ne le sanctionne pas (encore) (2022). https://bit.ly/3TI2Mcn

[13] Bloomberg Landlock Mali Turns to Neighbors to Sidestep Trade Sanctions (2022) https://bloom.bg/3z6oMpI

[14] إيمان عبدالعظيم سيد أحمد، قراءة في دوافع انقلاب غينيا كوناكري، سبتمبر 2021

http://www.siyassa.org.eg/News/18114.aspx

[15]Luciano Pollichieni ,The coup, Russian influence, popular support: why has the military taken over Burkina Faso? ,feb.2022 , https://bit.ly/3TMOxmz

[16] France 24 Mali demands Denmark ‘immediately’ withdraw its special forces (2022) https://bit.ly/3z6p9R8

[17]https://www.reuters.com/world/africa/burkina-fasos-self-declared-military-leader-says-situation-is-under-control-2022-10-02/

[18] Tiga Cheick Sawadogo ,Russia: Burkinabe people’s ideal ally against jihadism,2022, https://bit.ly/3Dkgi0w

[19]  Karel Svoboda , Tomass Pildegovičs, Kristina VanSant, Monika Hanley, Russia’s Activities in Africa’s…,op.cit., pp.76-86

[20]– Slawomir Debski, Patrycja Sasnal , others, France and the Russian Presence in Africa,In Bulletin (PISM, No. 47 ,1477, March 2020)

https://bit.ly/3VNCyXT

[21] Luciano Pollichieni,The coup, Russian influence, popular support: why has the military taken over Burkina Faso? ,Feb.2022, https://bit.ly/3sge8ZF