كتبت – أسماء حمدي 

بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية، أغلقت المملكة المتحدة صفحة من تاريخها، وبدأت صفحة جديدة بعد أن أصبح الأمير تشارلز ملكًا بصفته الابن الأكبر، والتي قد تكون مليئة بالتحديات التي تتجلى بالفعل أمام تشارلز الثالث وهو يسعى لمواصلة عمل والدته، والتي من بينها إفريقيا، القارة التي بدأت منها رحلتها كملكة.

زيارات الملكة الراحلة 

تركت إليزابيث إرثًا استعماريًّا متفاوتا في القارة السمراء، بين قمع وحشي في كينيا وعلاقات مفيدة لكينيين وبريطانيين، وفي جنوب أفريقيا تباينت ردود الفعل على وفاة الملكة حيث اعتبر الرئيس سيريل رامابوزا الملكة بأنها شخصية استثنائية، بينما ترى المعارضة عكس ذلك، وتذكرت عقودًا من التمييز العنصري الذي كانت فيه بريطانيا، المستعمرة سابقًا، في معظم الأحيان سلبية.

كانت أشهر رحلات الملكة المتعددة إلى القارة، هي رحلتها إلى كينيا في فبراير 1952، وكانت في الـ25 من عمرها، وأمضت الليلة في فندق يحمل اسم تريتوبس في ريف كينيا، حيث الأشجار العالية التي تحيط بالمكان، وعند الفجر استيقظت لمشاهدة الحياة البرية قبل أن تعلم بوفاة والدها الملك جورج السادس وانضمامها إلى العرش لتصبح ملكة على بريطانيا.

في الأسبوع الماضي، نعى رئيس كينيا، أوهورو كينياتا، الملكة ووصفها بأنها «أيقونة للتفاني في خدمة الإنسانية ونكران الذات وشخصية مؤثرة ليس فقط في المملكة المتحدة، ولكن في العالم بأسره». 

من بين العديد من الرؤساء التاريخيين في إفريقيا، الذين عرفتهم الملكة شخصيًا كان والد أوهورو كينياتا، زعيم الاستقلال وأول رئيس لكينيا، جومو كينياتا.

يقول مراقبون: إن مثل هذه العلاقات، التي عززها شعور الملكة الغريزي بالدبلوماسية، ساعدت بريطانيا على التعامل مع نهاية مؤلمة محتملة للقوة الإمبريالية للأمة في معظم أنحاء القارة.

وفي حديثه لصحيفة الأوبزرفر البريطانية، قال مدير جمعية رويال أفريكا، نيكولاس وستكوت: إن جهود الملكة الشخصية كانت لا غنى عنها في استيعاب البريطانيين لفقدان إمبراطوريتهم وتمكين الدول المستقلة من الحفاظ على علاقة طيبة مع بريطانيا، لقد كان لها دور فعال في ضمان العلاقات السلسة قبل الاستقلال وبعده.

يضيف وستكوت: «كانت إحدى اللحظات الحاسمة هي رقصة الملكة مع رئيس غانا كوامي نكروما، في عام 1961، إذ بعث هذا برسالة قوية مناهضة للعنصرية، وتؤكد على أن الملكة ستعامل قادة الدول الجديدة على قدم المساواة، لقد كان رمزًا عميقًا ومميزًا تمامًا لمقاربتها».

ويشير إلى أن ذلك خدم أيضا المصالح الإستراتيجية البريطانية، إذ يعود الفضل للرقصة في غانا وهي الأولى من بين 14 مستعمرة بريطانية سابقة في إفريقيا تنال استقلالها خلال فترة حكمها، إلى توقف ميل نكروما نحو الاتحاد السوفيتي وخروج بلاده من الكومنولث، مما دفع الملكة للاهتمام بالكومنولث، والذي يعد مفتاح تأثير لندن المستمر في القارة.

يقول البعض: إن دبلوماسية الملكة تصرف الانتباه عن واقع مختلف، إذ أن بريطانيا تخلت عن مستعمراتها بتردد ووسط عنف كبير، حيث جاءت رحلتها الشهيرة إلى كينيا في الوقت الذي بدأت فيه حركة ماو ماو، التي كانت تهدف إلى استعادة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها والضغط من أجل إنهاء الحكم الاستعماري، في ازدياد، وأضر قمعها الوحشي بالعلاقات لعقود وأدى إلى دفع تعويضات بقيمة 19.9 مليون جنيه استرليني من قبل حكومة المملكة المتحدة قبل 3 سنوات.

ويشير مراقبون إلى أن السياسة الأفريقية في السنوات اللاحقة لم تقدم أي شيء سوى الإبحار الهادئ، حتى في يخت بريتانيا الملكي.

عندما أعلن أنصار التفوق البيض الروديسيين من جانب واحد استقلالهم في عام 1965، كانت الملكة مصرة على أنها لن تقبل دور رئيس الدولة في نظام المتمردين، وعندما رفضت رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر، في ذلك الوقت، فرض عقوبات على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في ثمانينيات القرن الماضي، تم الإبلاغ عن استياء الملك في الصفحة الأولى من صحيفة صنداي تايمز، وهو أقرب ما وصلت إليه في نزاع عام مع سياسي منتخب.

عزيزتي إليزابيث

كان للملكة طرق أخرى للتعبير عن آرائها، إذ كانت أول زيارة رسمية لها لجنوب إفريقيا جاءت بعد عام واحد فقط من أول انتخابات حرة في عام 1994، عندما أصبح نيلسون مانديلا، أول رئيس ديمقراطي، وأصبحت العلاقة بينهما علاقة طيبة، كما كان يناديها باسمها الأول وأيضا يناديها «عزيزتي إليزابيث».

ويربط إليزابيث تاريخ طويل مع جنوب أفريقيا، حيث كانت في رحلة عندما احتفلت بعيد ميلادها الـ21، وقد كان ذلك في عام 1947.

 وفي خطاب إذاعي من كيب تاون، كرست إليزابيث الثانية حياتها لخدمة الكومنولث قائلة إنها تشعر في جنوب أفريقيا كما لو كانت في بيتها، وكأنها كانت تعيش هناك عمرها كله، كما أثنت على ما أحرزه الشعب الجنوب أفريقي قائلة: «لقد أصبحتم أمة واحدة لها روح من المصالحة باتت مضرب المثل حول العالم».

في الأسبوع الماضي، قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، إن التزام الملكة وتفانيها يظل مثالًا نبيلًا وفاضلاً للعالم بأسره، لكن آخرون في جنوب إفريقيا، يتخذون وجهة نظر مختلفة، حيث أظهرت حركة مقاتلي الحرية الاقتصادية المعارضة رفضا وتذكرت عقودا من التمييز العنصري حتى عندما أرسلوا تعازيهم القلبية لشعب المملكة المتحدة بأسرها.

قال زعيم حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية اليساري المتطرف، جوليوس ماليما، لأتباعه: أي شخص يعلن الحداد على الملكة يعتبر وكأنه يحتفل بالاستعمار، داعيًا إلى تعويضات من المملكة المتحدة، كما خرجت دعوات تطالب بإعادة الماس الثمين المستخرج من القارة الموجود بين جواهر التاج. 

إرث استعماري 

سعت العائلة المالكة مؤخرًا إلى معالجة الإرث الاستعماري لبريطانيا، وغالبًا ما كانت تبدو جيدة على أنها متقدمة على داونينج ستريت في معالجة القضايا الصعبة، كأمير، ألقى تشارلز خطابًا تصالحيًّا في بربادوس العام الماضي، أشار فيه إلى فظائع العبودية المروعة التي لطخت إلى الأبد التاريخ البريطاني.

ولكن رغم أنه سافر على نطاق واسع في القارة ، فقد لا يزال الملك الجديد يكافح لمضاهاة مزيج والدته الراحلة من السحر والمعرفة، إذ زارت إليزابيث أفريقيا، بدءًا من كيب تاون إلى الجزائر العاصمة وصولًا إلى كمبالا، في الأعوام 1947 و1980 و2007 على التوالي، وحظيت الملكة باحترام الحكام ورحب بها مئات الملايين من الناس.

يقول عامل البريد المتقاعد فنسنت رووسير (84 عامًا) في حديثه لـ«رويترز»: «عندما زارت الملكة أوغندا في عام 1954، كنت في المدرسة الابتدائية، وهي كانت شابة وصغيرة وتبدو متواضعة للغاية، كانت رائعة ومبتسمة».

وأضاف رووسير عبر الهاتف من مبارارا، غرب أوغندا: «لم نستطع أن نصدق أن مثل هذه الشابة يمكن أن يكون لها الكثير من القوة»

يقول مراقبون: إن الروابط بين الدول والشعوب الأفريقية والنظام الملكي البريطاني ستتطور الآن بطرق جديدة، ويرى مدير جمعية رويال أفريكا، أن الجيل القادم هو الذي سيحدد ما يجب أن تكون عليه العلاقة الجديدة.