كتبت – د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يعد التكوين الاجتماعي في المناطق الجغرافية الأكثر تخلفًا هو تكوين انقسامي يعتمد على القبيلة وتكون أساس الهيكل الاجتماعي المؤثر سياسيًّا وربما اقتصاديًّا أيضًا، هذا التكوين الانقسامي تتسم به أفريقيا وبعض المناطق في كل من آسيا وأمريكا اللاتينية، من هنا فإن التعارض بين تكوين الدولة وحالة القبيلة هو تعارض أساسي، حيث توفر مؤسسة الدولة الحديثة هيكلًا يتميز بالتضامن العضوي وتنقسم فيه المجتمعات خصوصًا الصناعية، كما يقول عالم الاجتماع الفرنسي دور كهايم طبقًا لحالة تقسيم العمل وتعدد المهن والاختصاصات، بينما توفر القبيلة حالة من التضامن الميكانيكي، وتنقسم فيه طبقًا لمعطيات دينية أو عرقية، من هنا تتميز بالانقسامية وتنتج مجتمعات متصارعة وهشة ضعيفة التماسك، ويتم تصنيفها على أنها مجتمعات ما قبل الدولة.

في الحالة السودانية نحن أمام محاولة لم تكتمل لبناء دولة حديثة، فوجود دولة السودان هو وجود حديث نسبيًّا، وينتمي إلى القرن 19، كما أن بروز التنظيمات القومية في السودان لم يظهر إلا في الربع الأول من القرن الـ20، وتبلور في طائفية دينية أفرزت في منتصف الأربعينات أحزابًا سياسية، وبهذا نرى أن هناك توظيفًا سياسيًّا لدور القبيلة يتم غالبًا طبقًا لحالة تماسك النظام السياسي، ومدى احتياجه للتأمين والاستمرار يعيد شرعية سياسية يساندها دعم جماهيري واسع، ونظام ديمقراطي مقبول.

وعلى صعيد موازٍ فإن ما يسمى بالقوى الحديثة في السودان -أي القوي السياسية والاجتماعية والثقافية التي تتطلع إلى التحديث وإنجاز مهمة الحداثة- تبدو غير مؤهلة للقيام بهذا الدور رغم عدة محاولات لازمت الثورات السودانية الـ3 في تاريخ السودان.

ويشكل ضعف مؤسسة الدولة السودانية بشكل عام منذ استقلالها عام ١٩٥٦، عاملًا ثالثًا لصعود القبيلة وأدوارها السياسية في السودان، حيث لم تثبت هذه المؤسسة جدارة في القيام بالوظائف المنوطة بها سواء على صعيد إدراك ومعرفة نخبة التحرر الوطني على وجه دقيق بالمكونات البشرية للسودان ومدى تنوعهم[1]، أو على صعيد القدرة على السيطرة على كامل التراب الوطني، وبالتالي حماية الحدود، أو القدرة على مواجهة الكوارث الطبيعية كطقس الفيضان السنوي.

بطبيعة الحال ساهمت كل العوامل السالفة الذكر بشكل مباشر في أمرين؛ الأول في السماح لهجرات قبلية للسودان أثرت على تكوينه الديمغرافي، وحاليًّا تساهم في عدم الاستقرار السياسي، أما الأمر الثاني فهو صعود دور القبيلة السياسي خصوصًا مع توظيف كل من الطوائف الدينية وتيارات وتنظيمات الإسلام السياسي، وكذلك السلطة الانتقالية الراهنة للقبيلة في السودان، وذلك في مراحل تاريخية متباينة لكل منهم.

من هنا فإن هذه الدراسة سوف تتعرض لمحورين الأول: تطور العلاقة بين الدولة والقبيلة في السودان. المحور الثاني: الدور السياسي للقبيلة في السودان خصوصًا في العقود الـ4 الماضية، وتأثيرها على قدرة الدولة على الاستمرار كمؤسسة، وفي الأخير أفق الصراع القبلي وطبيعة تأثيره على الأمن الإقليمي.

أولًا: الدولة والقبيلة في السودان

اتفقت الأدبيات السياسية -في معظمها- على أنه يوجد في السودان التاريخي -أي بحدود استقلاله عام ١٩٥٦- 570 قبيلة، تنقسم إلى 56 أو 57  فئة إثنية على أساس الخصائص اللغوية والثقافية والإثنوجرافية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، 50 منها في جنوب السودان. ويمكن تصنيف هذه القبائل جغرافيًّا حيث تعيش مجموعة القبائل النوبية في أقصى شمال السودان بينما القبائل العربية في الوسط والنيل الأبيض وجزء من الإقليم الشمالي، وتتمركز قبائل البجا في شرق السودان، وقبائل الفور في غرب السودان، وأيضا مجموعة قبائل المابات والانقاسنا جنوب النيل الأزرق، والقبائل النوباوية في النصف الأسفل لوسط السودان (تابعة إداريًّا لإقليم كردفان).

أما القبائل النيلية والزنجية فهي في جنوب السودان، الذي استقل عام ٢٠١١ عن السودان التاريخي، ويملك نفس السمات وطبيعة الصراعات القبلية كما في الشمال.

ويمكن التأريخ لمولد السودان الدولة حين تم الإطاحة بمملكة سنار السلطنة الزرقاء عام 1821م التي قامت في الجزء الأوسط من السودان وسقطت عاصمتها سنار على يد محمد علي وعلى مدى نصف قرن استمر التوسع بضم الجنوب أولًا ثم الاستيلاء على سلطنة دارفور بحيث لم يحل عام 1874 حتى أخذت حدود الدولة الجديدة تتشكل، ونشأت للحكومة مراكز ومكاتب حكمتها نظم وقوانين ولوائح جديدة، تتسق مع مفهوم الدولة في القرن 19، أي الدولة المركزية التي تجبي الضرائب وتحمي الأمن وتفتح الطرق للنقل والتجارة وتدير شؤون البلاد.

وقد ورثت الدولة المهدية ما توفر من مكونات الدولة الحديثة للعهد التركي المصري عام 1885 حينما استطاعت أن تجلي الاستعمار وتكون جهازها الحكومي، وظل ذلك الجهاز يدير السودان 15 عامًا إلى أن سقط آخر عام 1898 بتدخل بريطاني مصري مشترك[2]. وباعتماد أساسي على القبائل الدارفورية التي شكلت قوام هذه الدولة، وتسبب في وجود صراعات داخلية في بنية الدولة أسفرت عن انهيارها السريع[3].

 1- العوامل الداخلية في الصعود القبلي:

يمكن القول إن بروز الطوائف الدينية في السودان (الختمية والأنصار) في عشرينات القرن الماضي على أسس دينية وتكوينهما لأحزاب سياسية في منتصف أربعينات القرن الماضي حزبي الأمة والاتحادي على التوالي قد لعب دورًا أساسيًّا في أمرين؛ الأول صعود دور القبيلة السياسي، والثاني الصراع بين الطائفية والحداثة داخل الحزب الواحد، وهو ما يفسر لنا حالة التحالفات الطائفية القبلية التي مارسها الحزبين تاريخيًّا في إطار التنافس السياسي بينهما، خصوصًا في منطقتي جنوب وغرب السودان. كما يفسر لنا الصراع بين الزعيم إسماعيل الأزهري القطب الاتحادي العتيد وبين رئيس الطائفة الختمية علي الميرغني، كما يفسر لنا سيطرة أسرة الإمام الصادق المهدي على حزب الأمة تاريخيًّا، خصوصًا وأن الإمام قد جمع بين القيادة الروحية لطائفة الأنصار والقيادة الزمنية لحزب الأمة فترة طويلة من حياته.

وقد لعب عامل عدم استقرار النظام السياسي السوداني منذ استقلال الدولة عام 1956 دورًا أساسيًّا في هشاشة المؤسسة، وعدم القدرة على قيامها بوظائفها الأساسية خصوصًا ما يتعلق بالسيطرة على كامل التراب الوطني، حيث برزت الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان منذ منتصف الخمسينات، وهي الحرب التي بلورت اتجاه الحكومات في المركز (الخرطوم) للتحالف مع القبائل على أسس عرقية أحيانًا وأسس التنافس السياسي في أحيان أخرى، الأمر الذي أسفر مثلًا عن وجود ما يسمى بالأمن العنصري، في أجهزة الأمن السودانية الذي ابتدعه نظام البشير، وأسفر عن أن يتم التصنيف قبليًّا للمواطنين السودانيين في الأوراق الثبوتية الرسمية[4].

كما تلعب حالة الأحزاب والقوي السياسية دورًا في هشاشة الدولة، وذلك من حيث عدم القدرة على بلورة توافق سياسي بشأن حالة النظام السياسي السوداني ومكوناته وكيفية ومناهج عبوره نحو دولة ديمقراطية، وهو هدف أساسي كان ولا يزال على الأجندة السياسية للقوى السياسية السودانية منذ الاستقلال[5]، ولكنها لم تستطع تحقيقه ليس فقط لضغوط النظم العسكرية الديكتاتورية ولكن أيضًا لأسباب داخلية لهذه الأحزاب والقوى السياسية، حيث إن أحد مشاكل التفاعلات الحزبية السودانية هي العلاقة الثأرية بين قوى الإسلام السياسي واليسار من ناحية، والأحزاب الطائفية والحزب الشيوعي السوداني من جهة أخرى، وهو الأمر الذي يقسم الخريطة السياسية السودانية بين ما يسمى بالقوى الحديثة وما يسمى بالقوي التقليدية أو الطائفية.

العنصر الثالث الذي يساهم في هشاشة مؤسسة الدولة السودانية هو الفشل في إدارة تنوعها العرقي والثقافي، وبالتالي عدم التوافق على هويتها، وربما تشكل معركة جمال عبدالناصر لضم السودان للجامعة العربية أحد مظاهر هذه الأزمة تاريخيًّا، بينما جاء تصريح وزير العدل السوداني نصر الدين عبدالباري المنحدر من دارفور بشأن العلاقة بإسرائيل عام2021  وإشارته إلى أن الموقف من إسرائيل لم يكن محل إجماع قومي سوداني، وكذلك حالة التنابذ العرقي بين قوي اتفاق جوبا وباقي الأحزاب السودانية قبيل توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس2019  كلها مؤشرات على حالة التشظي بشأن ماهية الهوية القومية السودانية.

وهكذا يشكل الصراع الأيديولوجي وعدم القدرة على التوافق بين النخب السياسية، السودانية، وطبيعة التنافس السياسي على حيازة السلطة أحد أهم عوامل بروز الدور السياسي للقبيلة بالسودان

ثانيًا: ملامح الدور السياسي للقبيلة

ربما يكون نظام حكم الرئيس المخلوع عمر البشير هو من أكثر النظم السياسية السودانية التي اعتمدت على القبيلة كآلية إسناد سياسي، سواء كان ذلك قبل المفاصلة بين البشير والترابي أو بعدها، حيث لعب انتماء النظام للإسلام السياسي دورًا في ربط الإسلام بالعروبة في الهوية السودانية على نحو غير مسبوق في التاريخ السياسي السوداني، وبالتالي تم توظيف القبائل العربية ضد القبائل ذات الأصول الأفريقية في جميع أنحاء السودان، وفي كل الصراعات المشهودة في هذا البلد، كما تعمد البشير في أي تشكيل حكومي أو تغيير وزاري مراعاة التوازنات القبلية على حساب مستوى الكفاءة المطلوبة ومتطلبات الوظيفة المطروحة، وذلك إلى حد أن وفدًا قبليًّا وصل إلى الخرطوم للمطالبة بتمثيلهم في الحكومة.

ويبدو أن هذه السياسة ما زالت قائمة في السودان، وذلك إلى حد ممارسة رموز المجلس السيادي التحالفات السياسية على أساس قبلي، ولعل حالة محمد حمدان دقلو ومالك عقار حالتين ممثلتين لما ذهبنا إليه، بلغ الأمر أن أسس نظام البشير ميلشيا كاملة التسليح تنحدر من قبيلة محددة. بالمقابل نشأت الحركات المسلحة المناهضة على أساس قبلي محض، وإن كانت جماهير هذه الحركات تضم قبائل متعددة، إلا أن القيادة والفاعلية والتأثير داخل هذه الكيانات تنحصر في قبيلة بعينها، وفي بعض الأحيان في بيوت محددة داخل القبيلة[6].

ويمكن رصد طبيعة الدور السياسي للقبيلة في السودان ومدى مساهمته في حالة عدم الاستقرار السياسي في كل أقاليم السودان تقريبا طبقًا للتالي:

أ- شرق السودان

اضطر رئيس الوزراء المستقيل، عبدالله حمدوك، إلى إعفاء والي ولاية كسلا، وذلك تحت وطأة صراع قبلي بين قبيلتي “البني عامر” و”الهدندوة”. حيث لم يستطع الوالي الجديد تنفيذ قرار تعيينه، وبقي في الخرطوم قرابة 4 أشهر حتى صدر قرار إعفائه جراء التحشيد القبلي الذي قاده أحد نُظار القبائل، وانتهى الأمر باشتباكات بين الطرفين راح ضحيتها قتلى وجرحى، وانتقلت الاشتباكات لتشمل مدنًا أخرى بشرق السودان الذي تلعب فيه القبلية دورًا مؤثرًا. ولم يكن هناك سبب لرفض الوالي الجديد سوى أنه ينحدر من قبيلة محددة. واستمرت هذه الأحداث القبلية لشهور، حتى انتصر الزعيم القبلي، وعلى مستوى موازٍ تم توظيف نظارة البجا في الصراع الدائر بين المكونين المدني والعسكري في السلطة الانتقالية السودانية الأمر الذي أسفر عن إغلاق ميناء بورتسودان أكثر من مرة، وكذلك إغلاق الطرق الرابطة بين الميناء والعاصمة القومية خلال 2020، الأمر الذي أسفر عن خسارة هائلة للاقتصاد السوداني، وفقدان سمعة الميناء على المستوى الدولي، فضلًا عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية في ضوء استيراد السودان لجل احتياجاته من الخارج.

ب- النيل الأزرق:

شكّل نزوع مالك عقار عضو المجلس السيادي السوداني إلى تجهيز قاعدة قبلية تسانده في الانتخابات المرتقبة قاعدة للمواجهات المسلحة في إقليم النيل الأزرق، وذلك بين المنحدرين من قبيلة الهوسا ذات الأصل النيجيري والذين يمارسون الرعي أساسًا ولا يملكون أراضي (حواكير) وبين هؤلاء الذين يملكون الحواكير وشرعية سياسية في الإدارة الأهلية من قبائل الفونج، حيث تسببت المواجهات القبلية في مدينتي “الروصيرص” و”الدمازين” في ولاية النيل الأزرق، جنوب شرق السودان، في الفترة ما بين 14 إلى 17  يوليو 2022، في وقوع عشرات القتلى والجرحى(105 قتلى و291 جريحًا)، حيث امتدت تداعيات هذه الصراعات حتى ولاية كسلا، وأدت إلى حرق وتدمير مقرات إدارية لحكومة الولاية وممتلكاتها، وتطورت إلى مسيرات هادرة في ولاية الخرطوم، وفي القضارف والجزيرة.

وقد اتسعت دائرة القتال داخل الإقليم بعد الانقسام الداخلي الذي شهدته “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال” في مطلع عام 2017، بعد صراع بين رئيس الحركة “مالك عقار” ونائبه “عبدالعزيز الحلو”، ليصبح هناك 3 أطراف متصارعة داخل الولاية.

 وقد دفعت الصراعات داخل إقليم النيل الأزرق الذي يغلب عليه الطابع القبلي، كل طرف من الأطراف إلى إيجاد ظهير شعبي له، من خلال تعزيز علاقاته مع القبائل عبر وعود بمزيد من الحقوق السياسية والامتيازات الاقتصادية، الأمر الذي لجأت إليه القوى السياسية السودانية في إطار الصراع بين المكون العسكري والمكون المدني في أعقاب الثورة السـودانية، وانعكس بشكل مباشر على البنية المجتمعية، وعمّق الاستقطاب بين المكونات القبـلية المختلفة، ما ساهم مع عوامل أخرى في تعزيز بيئة مناسبة لتجدد الصراعات القبلية في عدة مناطق داخل السودان.

في هذا السياق جاءت المطالب القبلية، حيث طالبت قبيلة الهوسا بإدراجهم في الإدارة الأهلية في إقليم النيل الأزرق، عبر اختيارهم أمير يمثل قيادة أهلية لإدارة شؤون الهوسا في شهر أبريل الماضي، الأمر الذي رفضته باقي قبائل النيل الأزرق (الفونج والبرتا والأنقسنا) بزعم أن الهوسا من القبائل الوافدة من غرب أفريقيا، وليست من القبائل الأصلية التي لها حق المشاركة في الحكم الأهلي للإقليم.

وربما تجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية القبائل في السودان بنظامها القديم المنخرط فيما يسمى بـ”نظام الإدارة الأهلية”، والذي يتمتع بمزايا مدونة في دواوين الحكم الاتحادي مع وجود نظام قضاء عرفي معترف به في بعض الحالات بالتوازي مع القضاء الرسمي. وفي هذا السياق تجد مجموعات قبلـية مثل الهوسا نفسها بمعزل عن “نظام الإدارة الأهلية” رغم وجود رموز وممثلين لهم في كل ولاية. وفي ظل انحسار ظل الدولة وضعف منظومتها الأمنية والشعور باستعداد السلطة لتقديم تنازلات مقابل الحفاظ على الوضع الراهن، وجد قطاع من هذه القبائل الظروف مهيأة لتمكينهم ضمن النظام الأهلي وإدارته العرفية، ومن ثم تصاعدت الدعوة داخل الهوسا إلى تشكيل نظام تراتبية قبلـية عندهم يماثل نظام القبائل الموجودة تاريخيا بإقليم النيل الأزرق.

في المقابل فإن القبائل التاريخية في النيل الأزرق تجد أن تشكيل الهوسا نظارة قبلـية أو عموديات سوف يستهدف حضورها ونفوذها وامتيازاتها الاعتبارية وحقوقها في أرضها وحواكيرها، فضلًا عن المخاوف من أي تغيير يمسّ النظام الاجتماعي الهش في إقليم النيل الأزرق، الذي ظل يعاني من حروب أهلية متصلة، وذلك تحت مظلة حالة الفراغ السياسي والأمني التي يمر بها السـودان منذ سقوط الرئيس السابق “عمر البشير”.

ووفقًا لهذه البيئة السياسية والقبلية لاقت دعوات الهوسا رفضًا قبليًّا قاطعًا أدت إلى ردود فعل قاسية خيم عليها شبح التمييز والعنصرية وسط الدعوة لتجريد بعض الإثنيات من هويتها الوطنية وإعادتها إلى “ديارها الأولى“، كما أسهمت المشاهد الموثقة في شبكات التواصل الاجتماعي في تأجيج مشاعر الغضب والاستقطاب السياسي بين الأطراف المتصارعة.

ج- إقليم دارفور

يملك التوظيف القبلي للصراع السياسي في السودان تاريخًا طويلًا، ربما يكون الأشهر فيه والأكثر مأساوية هو أن اندلاع أزمة دارفور التي راح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، فضلًا عن نزوح مئات آلاف إضافيين عن مناطقهم وقراهم إلى دول مجاورة كمصر وتشاد، كما استدعت تدخلًا دوليًّا في السودان بقوات للأمم المتحدة استجابة لقرارات من مجلس الأمن تحت ولاية البند السابع، حيث لعب الشيخ حسن الترابي مؤسس الجبهة القومية الإسلامية، ومهندس انقلابها العسكري عام 1989 دورًا رئيسيًّا في اندلاع أزمة دارفور واتساعها على نحو غير مسبوق في تاريخها الممتد من عام 1961، وذلك على خلفية إقصاء البشير له عن السلطة عام 1999، حيث لجأ إلى التحريض ضد الأخير في دارفور تأسيسًا على أبعاد عرقية وقبلية، ونشر ذلك في ما سمي بـ”الكتاب الأسود” عن اختلال موازين توزيع السلطة والثروة في السودان، بل وأسس حركة دارفورية مسلحة هي حركة العدل والمساواة، وتطور الصراع ليأخذ أبعادًا دموية بين القبائل المنتمية للأصول العربية وأخرى من العرق الزنجي، الأمر الذي ترتب عليه تحالفات لها طابع إقليمي مرتبطة بالامتدادات القبلية للزغاوة في كل من تشاد والسودان، وهي التحالفات التي تملك تأثيرًا حتى اللحظة على المعادلات الداخلية السودانية[7].

العوامل الخارجية في الصراع القبلي

يلعب التداخل الحدودي بين السودان وجواره الجغرافي المباشر أحد أ عوامل عدم الاستقرار السياسي من حيث الانتماء المتوازي لبعض النخب السودانية في دوائر صناعة القرار ومدي استقوائها بامتداداتها القبلية، كما يلعب التداخل الاجتماعي أو الامتدادات القبلية على الحدود دورًا في عدم الاستقرار، ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، الحالة بين قبائل غرب السودان وقبائل تشاد وأثره في النزاعات الحدودية بين الدولتين. وذلك لتداخل عدد من القبائل بن دولتي السودان وتشاد إما بسبب القرابة والنسب، أو السعي وراء الموارد. ويؤدي هذا التداخل إلى حدوث نزاعات قبلية بن هذه القبائل الحدودية، وأثر ذلك على الوضع السياسي والأمني والاجتماعي بين الدولتين بسبب الصراع على الموارد الطبيعية حيث يحوز التشاديون الأراضي الزراعية السودانية المتاخمة للمنطقة الحدودية الواقعة جنوب (خور برنقا) حتى بحيرة تيزي. وهي حالة موجودة على الحدود الإثيوبية السودانية أيضًا في مناطق الفشقة، حيث يلعب عدم ترسيم الحدود أو ترسيمها جزئيًّا دورًا أساسيًّا في مثل هذه الصراعات، وبينما لم توضع علامات الحدود بين إثيوبيا والسودان فإن بروتوكول 1924 بين السودان وتشاد لم ينفذ منه إلا 40% من طول الحدود البالغ 1280 كيلومترًا، وذلك في عام 1995م. وتم الاتفاق على الإجراءات المالية والفنية عام 2001 ولكن هذا الاتفاق أيضًا لم ينفذ حتي الآن[8].

إجمالًا يبدو أن التاريخ السوداني الحديث قد أعاد إنتاج القبيلة على نحو ربما لم تجاره فيه دول أفريقية أخرى، وهو أمر يصعب بالتأكيد مسألة انتقال التكوين السوداني من حالة الانتماءات الأولية، أي القبيلة، إلى حالة الدولة، بل ويجعل هذه المهمة صعبة إلى حد كبير على أجيال سودانية شابة تتطلع إلى وطن جديد بشروط مغايرة للواقع الراهن.


[1]– د. أماني الطويل، العلاقات المصرية السودانية إشكاليات الإدراك وتحديات المصالح، المركز العربي للأبحاث الدوحة، 2007.

[2]– محجوب محمد صالح ،الدولة الحديثة في السودان التاريخ والنشأة، متاح على:

https://blogs.icrc.org/alinsani/2019/04/22/2942/

[3]– منى عبدالفتاح، معارك الاستقطاب السياسي في السودان، إندبنت عربية، متاح على:

https://2u.pw/NM0CQ

[4]– بابكر فيصل، من مخايل الدولة إلى القبيلة، موقع الحرة، متاح على:

https://2u.pw/5DZ3M

[5]– رعد قاسم صالح، إشكالية الدولة والقبيلة في أزمة دارفور، متاح على:

https://2u.pw/39NoO

[6]– بابكر عثمان، المرجع السابق.

7- د. أماني الطويل، أبعاد الحروب القبلية في السودان، إندبنت عربية، متاح على:

https://2u.pw/xuctR

[8]– نجلاء عبدالرحمن وقيع الله، التداخل الحدودي بين السودان وتشاد، متاح على:

https://2u.pw/zGG