في مقال لها بصحيفة «الشروق» المصرية، سردت الصحفية سمر إبراهيم، وقائع رحلتها ضمن وفد المجتمع المدني المصري لدولة السودان الشقيقة، وفيه تناولت أجواء الترحيب بالوفد الزائر، مسلطة الضوء على اللقاءات والاجتماعات المكثفة مع جميع الأطراف السودانية، بالإضافة إلى تاريخ وعمق العلاقات بين مصر والسودان.

إليكم نص ما كتبت:

كابتن الطائرة يقول: “بدأنا الهبوط التدريجي في مطار الخرطوم الدولي”، ارتسمت الابتسامة على وجوه أعضاء وفد المجتمع المدني المصري الذي قام بزيارة “الخرطوم” الأسبوع الماضي.

على الصعيد الشخصي، تبدلت مشاعري من ملل انتظار طال عبر ساعتين ونصف، مدة الرحلة من القاهرة إلى الخرطوم، إلى مشاعر شغف ولهفة شديدة، كأنها الزيارة الأولى لـ”أرض النيلين”.

هبطنا في أجواء مليئة بالترحاب من قبل الأشقاء السودانيين، من رموز المجتمع بأطيافه كافة، وفي مقدمتهم البروفيسور علي شمو، أشهر وزير إعلام بدولة السودان…”الرقي، البساطة، الود” كانوا عنوان استقبال الوفد المصري في “الخرطوم”.

أجواء المطار مُلبدة بالغيوم، والنور الخافت المتناثر هنا وهناك على مرمى أطرافه يُشير إلى ضبابية المشهد العام الداخلي. أما الطقس فربما عبّر عن حال بلاده، ولكن في قلب الليل كانت تشوبه نسمة برودة هدّأت من شدة ارتفاع درجة الحرارة لتلامس الوجدان بمنتهى العذوبة.

48 ساعة قضيتها في “الخرطوم” خلال مشاركتي مع وفد المجتمع المدني المصري برئاسة وزير الخارجية الأسبق محمد العرابي، عقدنا خلالها لقاءات مكوكية واجتماعات مكثفة مع جميع الأطراف السودانية، لنسمع ونعرف عن قرب أفكار المستوى الشعبي غير الرسمي، فعلامات الاستفهام معلقة كما المشانق، ماذا يريد الشعب السوداني وما طموحاته، وآماله، وأهدافه؟ ماذا يُمكن أن يقدمه الشعب المصري للسودان؟ هدفنا أن نرسم مستقبلًا جديدًا وحاضرًا أروع من منطقة “المقرن” الشهيرة التي يتلاقى فيها النيل الأبيض مع النيل الأزرق ليمتزجا ويكونا نهر النيل العظيم، متجهًا في مساره من السودان إلى مصر.

تلك المعجزة الإلهية التي أبدع الله في صُنعها، جعلت مصيرهما مشتركًا مهما حدث، مصير تحكمه الجغرافيا، ويتحكم فيه التاريخ، ورمانة ميزانه “سر الحياة”، فتعصف بهما الأزمات بلا هوادة ولكن يأبى الشعبان الهزيمة مطلقًا.

بعيدًا عن السياسة وتعقيداتها… تجلى معنى “الله محبة” أمام عيناي خلال زيارتنا لمقر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ولقاء أصحاب النيافة الأحبار الأجلاء الأنبا صرابامون أسقف عطبرة، أم درمان وشمال السودان، والأنبا إيليا أسقف الخرطوم ودولة جنوب السودان.

خلال جلستنا تحدث بعض الآباء الكهنة بكل الود عن تاريخ وعمق العلاقات بين مصر والسودان اجتماعيًّا وإنسانيًّا… آنذاك، سمعت من يردد هامسًا بكلمات من إنجيل يوحنا “أَيُّهَا اَلْأَحِبَّاء، إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَحَبَّنَا هَكَذَا، يَنْبَغِي لَنَا أَيْضًا أَنْ يُحِبّ بَعْضُنَا بَعْضًا”، لتصف لي تلك الآية جلستنا الودية.

في مساء اليوم، ارتدى أعضاء الوفد الزي السوداني، رجالًا ونساء، سعادتي كانت لا تُوصف عندما رأيت “التوب السوداني” (الزي القومي للمرأة السودانية) في غرفتي بألوانه البديعة، والراقية، كم تمنيت أن أرتدي اللونين الأبيض مع الأزرق لربما امتزجنا وكونا مع أشقائنا السودانيين نهرًا من الملابس، فهذا حُلمي منذ أن زرت السودان لأول مرة في نوفمبر عام 2020.  

ورغم ضجيج الحضور والنقاشات هُنا وهُناك، إلا أن صوت الست أم كلثوم وهي تشدو بأغنيتها الشهيرة “أغدًا ألقاك” ظل يطاردني كطيف جميل، ولمَ لا وكلمات الأغنية كتبها الشاعر السوداني “الهادي آدم” في حب فتاة مصرية.

في تلك اللحظات شعرت بحالة لا تُوصف، الانتظار والسعادة والخوف في آن واحد بتلك التجربة الجديدة، خاصة وهي تقول “أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غد يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد”.

الموعد كان بالنسبة لي بهاء الطلة بعد ارتداء التوب السوداني، من شعور بالفخر، والجمال في آن واحد، فالمصرية حفيدة الملكة كيليوبترا ترتدي زي “الكنداكة” وبالفعل عندما شاهدني أحد أصدقائي السودانيين، قال لي “كنداكة… مصرية” فزادت سعادتي الداخلية بأنني “مصرية الجنسية… سودانية الهوى”.

وكما جرى العُرف في السودان، لا يُمكن ارتداء التوب دون رسم حِنة ليكتمل البهاء الأنثوي. سلمت يداي للسيدة السودانية التي تبادلت الحديث الإنساني معي، سعدت للغاية عندما علمت بأني زرت إقليم دارفور، وولاية النيل الأزرق، وتجولت بالعاصمة الخرطوم ولم أترك شارعًا إلا وسعيت لزيارته، وقالت بابتسامة بريئة: “حبابك “.

ثم بدأت في نقش اَلْجَنَّة على يدي التي اخترت أن تكون “فراشة”، ولما لا والفراشة ترمز إلى التغيير والأمل، ألم يقل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش “ويبقى أثر الفراشة لا يزول”، تجسد شعوري بأن السيدة السودانية كانت تنقش اَلْحِنَّة على قلبي لا يدي وحدها!

واستكمالًا لتفاصيل يوم فريد من نوعه، ذهبنا إلى محراب فني بديع، هو “مركز راشد دياب للفنون” قضينا فيه سَاعَات قليلة لكنها ممتعة، شاهدنا نماذج من الفن التشكيلي وروعته بالسودان، حضرنا خلال تلك الساعات أمسية فنية في حب “شعبي وادي النيل”، واستمعنا إلى أوبريت “شعب النيل” بموسيقى سودانية تجعل روحك تتمايل معها كدرويش عاشق وكلمات راقية بأصوات عذبة، لنعيش حالة من البهجة في ظني لم ولن تتكرر كثيراً.

على ضفاف النيل، مَهد الحضارات ونبع ثقافة الشعوب، تبادلت الحديث مع أصدقاء وصديقات سودانيين عن الزيارة وعن العلاقات المصرية السودانية.. فكلماتهم هدأت من خوفي على المستقبل تجاه شعبينا، منهم من أقام في مصر لسنوات طويلة، ومنهم من يدرس أبناءه في مصر، والبعض الآخر “حبوبته” (جدته) أو زوجته مصرية، ومنهم من يزور مصر بغرض السياحة أو العلاج.

الجميع لديه علاقات وطيدة بمصر على الأصعدة كافة، أما الزيارة فكانت بالنسبة لهم حضورا مصريا شعبيا يعبر عن مَد يد العون للشعب السوداني في وقت دقيق، يؤكد أن أبدية العلاقة بين الشعبين هي الأعمق والأبقى، مهما كانت التجاذبات السياسية. 

انتهت الزيارة كحُلم جميل تمنى الجميع تكراره، وتبادل الزيارات غير الرسمية بعيداً عن السياسة، فالبلدين لديهما رصيد كاف من الحضارة والفنون والثقافة، فدعونا نعرف عن بعضنا أكثر وأكثر، ونستكشف جمالًا لعله يضيء لنا الطريق نحو مستقبل جديد ووعي جمعي مستنير يرشدنا لما يحيط بنا من مخاطر وتحديات.