بقلم – كرم سعيد

باحث متخصص في شؤون تركيا – نائب مدير تحرير مجلة الديمقراطية – الأهرام

رغم التحديات التي تواجه الحضور التركي في أفريقيا، وفي الصدارة منها سيطرة القوى الدولية على مفاصل القارة، لكن نجحت تركيا طوال العقود الـ3 التي خلت في تعزيز نفوذها في أفريقيا، وظهر ذلك في كثافة الزيارات الرسمية لدول القارة، وآخرها زيارة الرئيس التركي في فبراير 2022 جمهورية الكونغو الديمقراطية، والسنغال، وغينيا بيساو. كما سبق هذه الزيارة انعقاد القمة التركية الأفريقية يومي 17 و18 ديسمبر 2021 بمدينة إسطنبول، وبمشاركة 16 رئيس دولة أفريقية و102 وزير[1]. كما زاد حجم التجارة بين تركيا وأفريقيا من 5.5 مليار دولار في 2003 إلى أكثر من 26 مليار دولار في 2021[2].

ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع تركيا إلى تطوير علاقاتها مع القارة الأفريقية، في إطار ما يمكن تسميته بـ”توافق الضرورة” الذي تفرضه المصالح الخاصة بكل من أنقرة ودول القارة، على نحو ما عبّر عنه الرئيس التركي في عشية القمة التركية الأفريقية الأخيرة عندما تعهد بتعزيز الروابط والتعاون في ظل تنامي استثمارات تركيا في القارة في كافة المجالات، وفي الصدارة منها التعاون في مجال الطاقة[3].

وشهدت العلاقات بين أنقرة والقارة الأفريقية في مجال الطاقة نقلة نوعية في ظل تصاعد أزمة شرق المتوسط، وتصاعد الضغوط الدولية والإقليمية ضد التحركات التركية للتنقيب عن مكامن الطاقة في المتوسط. كما تصاعد الاهتمام التركي بقطاع الطاقة في أفريقيا مع ارتفاع أسعار النفط  والغاز عالمياً، واستمرار القضايا الخلافية بين تركيا والدول الموردة لها احتياجاتها الغازية، وبخاصة روسيا وإيران، حيث تعتمد عليهما تركيا في تلبية ما يقرب من 86 في المئة من احتياجاتهما النفطية. كما تتسارع خطوات تركيا نحو تعظيم علاقاتها في مجال الطاقة في ظل تنامى مخاوفها من تعطل سلاسل الإمداد الغازية والبترولية في ظل استمرار الأزمة الأوكرانية، واتجاه القوى الغربية نحو تعظيم العقوبات على روسيا جنباً إلى جنب ضغوط أمريكية على عدد من الدول لوقف وراداتها من الغاز الروسي.

وتمتلك القارة السمراء احتياطاً نفطياً جيّداً في حدود 125 مليار برميل، أي ما يعادل نحو 10% من حجم الاحتياطي العالمي إضافة إلى ما يقرب من 10 في المئة من احتياطات الغاز. هما، يمكن فهم اندفاع تركيا نحو تطوير استثماراتها في قطاع الطاقة الأفريقي[4].

مؤشرات كاشفة

ثمة العديد من المؤشرات الكاشفة عن توجه تركي نحو تعزيز حضورها في مشاريع الطاقة وعمليات التنقيب داخل القارة الأفريقية خلال المرحلة الحالية، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:

التصريحات التركية: كشفت تصريحات المسؤولين الأتراك عن عمق الاهتمام بتنشيط العلاقة في مجال التنقيب عن مكامن الطاقة في أفريقيا، ففي الوقت الذي أكد فيه الرئيس التركي عشية القمة التركية الأفريقية في ديسمبر الماضي، على أن العلاقات التركية الأفريقية بلغت مستويات لم يكن من الممكن تصورها قبل 16 عامًا، “نتيجة الجهود المشتركة” مع دول القارة، واصفًا التمثيل الدولي لهذه الدول بأنه “مجحف[5]“. أشار في المقابل إلى أن مشاريع الطاقة يمكن أن تشكل رافعة لتعزيز لترسيخ التقارب مع أفريقيا، والتحايل على الضغوط التي تواجهها تركيا في شرق المتوسط وبحر إيجة.

توظيف انسحاب الشركات الغربية للطاقة: تسعى تركيا إلى توظيف تراجع مناعة عدد من شركات الطاقة الغربية في الساحة الأفريقية، وظهر ذلك في إجراء نائب وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، على هامش فعالية حول أبحاث الطاقة، بولاية تكساس الأمريكية في مارس الماضي، اجتماعا مع وزير الدولة المسؤول عن الموارد النفطية في نيجيريا، والذي أكد انفتاح بلاده لاستقبال المزيد من المستثمرين الأتراك في قطاع الهيدروكربون. ومن جهتها سعت تركيا إلى استثمار انسحاب شركة “IOC” الدولية للنفط من نيجيريا، لتعزيز فرص التعاون مع أبوجا في مجال الطاقة[6].

كثافة الزيارات الرسمية: جاءت الزيارات الرسمية التركية لدول القارة كاشفة عن رغبة تركيا في تطوير حضورها في مشاريع الطاقة الأفريقية، فبعد القمة الأفريقية التركية في التي استضافتها تركيا في ديسمبر الماضي، جاءت زيارة الرئيس التركي لعدد من دول غرب أفريقيا في فبراير 2022، والتي وصفها الرئيس التركي بأنها “واحدة من أهم الزيارات التي قام بها للقارة. وسبق هذه الزيارة جولة في أكتوبر 2021 للرئيس التركي تشمل نيجيريا وأنغولا وتوغو، وتعد هذه الزيارات مؤشر جلي على الاهتمام الشامل الذي يوليه لهذه القارة.

في سياق متصل، فإن زيارة الرئيس التركي لموريتانيا في فبراير 2018، واتجاه أنقرة في فبراير 2021 إلى توقيع اتفاقيات مع نواكشوط لتعزيز التعاون في مجال تدريب الأئمة والخطباء جنباً إلى جنب افتتاح تركيا المدارس الدينية والتعليمية التي تلعب دوراً محوريا في التسلل إلى النسيج الاجتماعي الموريتاني، كلها جهود لا تنفصل عن مساعي أنقرة للاستفادة من الاكتشافات النفطية الحديثة في موريتانيا. فقد تزامن الاهتمام التركي بتوثيق العلاقة مع نواكشوط خلال الفترة الأخيرة بالكشف عن النفط والغاز الطبيعي في موريتانيا مع ارتفاع نشاط التنقيب، حيث كشفت عمليات التنقيب والاستكشاف التي قامت بها الشركات الأجنبية عن وجود احتياطيات مقدرة بنحو 15 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي عالي الجودة، قد تزيد إلى أكثر من 50 تريليون قدم مكعب.[7] في هذا السياق، فإن الإمكانات الواعدة لقطاع الطاقة الموريتاني يدفع تركيا التي تعانى افتقارًا شديدًا في مصادر الطاقة، لتعظيم الاهتمام بموريتانيا، خاصة، وأن محاولاتها لاستخراج مكامن الطاقة في البحر الأسود أو بحر إيجة لم تسفر عن تحقيق عوائد معتبرة.

استمرار نشاط شركات الطاقة التركية: مساحات التقارب بين تركيا ودول القارة، كشف عنها التعاون التركي مع دول شمال أفريقيا في تطوير التعاون في مجال البترول والغاز الطبيعي والكهرباء، فعلى سبيل المثال تنشط شركة “كارباورشيب” (Karpowership)  إحدى أكبر شركات الطاقة التركية التي تقدم خدماتها عبر محطات توليد كهرباء عائمة منذ عام 1996. ويشار إلى أن “كارباورشيب” تزود عددًا كبيرًا من الدول بالطاقة الكهربائية عبر تحويل سفن الشحن المصممة لنقل الفحم أو الرمل إلى محطات طاقة متنقلة، حيث تمد 60% من غامبيا بالكهرباء و26% من غانا و100% من غينيا بيساو و10% من غينيا. كما تمد “كاربورشيب” 80% من سكان غرب أفريقيا بالكهرباء عبر سفينتين مثبتتين قبالة مدينة فريتاون عاصمة سيراليون بموجب عقد تم توقيعه في العام 2018، وتعمل السفينتان بالوقود المزدوج باستخدام زيت الوقود الثقيل أو الغاز الطبيعي المُسال[8].

تعظيم مشاريع الطاقة شمال أفريقيا:  تمتلك تركيا مصالح استراتيجية مع دول شمال أفريقيا في قطاع الطاقة، وبخاصة الجزائر التي تعدّ الثانية رابع أكبر مورّد للغاز إلى أنقرة. وقد عمدت شركة سوناطراك الجزائرية المملوكة للدولة ومؤسسة خطوط أنابيب النفط التركية إلى تمديد مدة عقدٍ حول الغاز الطبيعي لغاية العام 2024، والذي تزوّد بموجبه الجزائر تركيا بحوالي 5.4 مليارات متر مكعب من الغاز سنويا. يُضاف إلى ذلك أن سوناطراك تتعاون مع شركة رونيسانس القابضة لإنشاء مجمّع للبتروكيماويات في مدينة جيهان الواقعة في محافظة أضنة جنوب تركيا، وتبلغ قيمة هذا الاستثمار 1,2 مليار دولار[9].

على صعيد متصل شهدت الاستثمارات التركية في قطاع الطاقة الليبي قفزة كبيرة، بعد توقيع اتفاقية لتعميم الحدود البحرية مع حكومة غرب ليبيا في 27 نوفمبر 2019، وظهر ذلك في إجراء أنقرة محادثات مع حكومة الوفاق الوطني لإجراء أعمال التنقيب عن النفط والغاز في الحقول البرية والبحرية. كما أجرى مسؤولون أتراك في سبتمبر 2020 محادثات مع المؤسسة الوطنية الليبية للنفط بشأن توليد الطاقة وإنشاء خطوط أنابيب ناهيك عن استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 12 أبريل 2021 رئيس الوزراء الليبي عبدالحميد الدبيبة، وتعهّد الجانبان بتعزيز تعاونهما في قطاعي النفط والغاز.

التجاوب مع الاكتشافات النفطية غرب أفريقيا: بالتوازي مع ما سبق، تراهن تركيا على تطوير علاقاتها مع دول غرب أفريقيا خلال المرحلة الحالية، خاصة بعد الإعلان في سبتمبر 2021 عن اكتشافات نفطية هائلة في ناميبيا وغانا والجابون وساحل العاج. ويشار في هذا الصدد إلى تصريحات سفيرة ساحل العاج لدى أنقرة في 18 ديسمبر الماضي، حين قالت عشية مقابلة لها مع وكالة الأناضول “نرغب في رؤية العديد من الاستثمارات التركية في بلادنا، وخاصة في مجالات الزراعة، والصناعة، والصحة، والطاقة والبنية التحتية”[10].

اعتبارات حاكمة

يمكن تفسير الاهتمام التركي بتعزيز التعاون مع أفريقيا، وبخاصة في قطاع الطاقة في ضوء اعتبارات رئيسية، يمكن بيانها على النحو التالي:

توفير الاحتياجات النفطية: تدفع الإمكانات الواعدة لقطاع الطاقة في أفريقيا، تركيا التي تعانى افتقارًا شديدًا في مصادر الطاقة، لتعظيم الاهتمام بدول القارة الأفريقية، خاصة، وأن محاولاتها لاستخراج مكامن الطاقة في البحر الأسود أو بحر إيجة لم تسفر عن تحقيق عوائد معتبرة.كما أن ثمة مخاوف تركيا من انعكاسات الأزمة الأوكرانية على وراداتها النفطية من روسيا، والتي تمثل ما يقرب من 60 في المئة من احتياجاتها. ورغم وقوف أنقرة عند نقطة المنتصف حيال الأزمة الأوكرانية، فإن موسكو عارضت الانتقادات التركية لها بشأن التدخل العسكري في أوكرانيا فضلاً عن اعتراض موسكو على إغلاق تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل في مارس الماضي.

تعزيز فرصة تركيا كناقل للغاز: لا ينفصل الاهتمام التركي بمشاريع الطاقة في القارة السمراء عن رغبتها في تثبيت هيمنتها كناقل للطاقة عالمياً، خاصة بعد توقيعها في العام 2019 مذكرة بحرية مع حكومة السراج في ليبيا، والتي حددت قطاعًا غنيًّا بالغاز في شرق البحر المتوسط كإقليم تركي ذي سيادة إضافة إلى تصاعد الاكتشافات النفطية والغازية في عدد من دول القارة الأفريقية، فخلال العام 2021 تم الإعلان عن 5 اكتشافات نفطية في دول أفريقيا تمثل ثروة حقيقية، أهمها إعلان  شركة “ريكون أفريكا” الكندية لاستكشافات النفط والغاز، في أبريل من العام 2021، فضلاً عن وجود ما يقرب من 60 إلى 120 مليار برميل من النفط في منطقة حوض كافانغو في ناميبيا. كما أعلنت شركة “إيني” الإيطالية عملاق النفط بأوروبا، في سبتمبر 2021، اكتشاف احتياطات للنفط قبالة شواطئ ساحل العاج، تتراوح ما بين 1.5 مليار وملياري برميل نفط، و2.4 تريليون قدم مكعبة من الغاز المصاحب.

في المقابل، نجحت الشركات التركية خلال العام 2020 في توقيع اتفاقيات مع الصومال بشأن التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية للصومال، وظهر ذلك في تحرك الحكومة التركية في فبراير 2020 لاستغلال احتياطيات النفط والغاز وآفاق التعدين في الصومال من خلال إنشاء آلية تسمح لكل من الشركات الخاصة والمملوكة للأتراك باستكشاف فرص الطاقة في البلاد، التي تتمتع بموقع استراتيجي في القرن الأفريقي. وفقا لنص مذكرة التفاهم، التي حصل عليها موقع نورديك مونيتور السويدي، سيتركز التعاون في مجال الطاقة بين تركيا والصومال على مشاريع لاستكشاف وإنتاج وتكرير الهيدروكربونات؛ ومعالجة الغاز الطبيعي وتخزينه ونقله وتسويقه وتوزيعه؛ والبتروكيماويات والمشتقات النفطية وتطوير وصيانة البنية التحتية والتكنولوجيات المرتبطة بها فيما يتعلق بالهيدروكربونات[11].

خلف ما سبق، فإن الأزمة الأوكرانية، واتجاه روسيا إلى معاقبة الغرب بوقف توريد الغاز للأسواق العالمية، كلها عوامل تمثل فرصة لتركيا لتتحول إلى ناقل للغاز الأفريقي للأسواق الأوروبية، ولذلك اعتبرت اتجاهات عديدة أن تركيا  تسعى إلى رفع مستوى التنسيق مع أفريقيا لهذا الغرض بالأساس.

تعظيم الدور: يقدم الرئيس رجب طيب أردوغان بلاده على أنها قوة صاعدة، وبطل نظام عالمي أكثر عدلا، وفي هذا الصدد يقول الأمين العام لمنطقة التجارة الحرة للقارة الأفريقية “وامكيلي مين”: “تأتي تركيا بلا أعباء استعمارية على الإطلاق.. هذه ميزة”[12].

في هذا السياق تسعى تركيا إلى توظيف صورتها الذهنية في الوعي الجمعي الأفريقي لتوسيع التفاهمات مع دول القارة، خاصة التي أعلنت خلال الفترة الأخيرة عن وجود اكتشافات نفطية في سواحلها البحرية، باعتبار ذلك يمثل فرصة لتعزيز الحضور التركي في القارة، وتعظيم نفوذها، وإعادة صياغة خارطة التحالفات قي صراع شرق المتوسط لمصلحتها، وذلك من خلال تسريع وتيرة التقارب مع الدول الأفريقية التي لها شواطئ على المتوسط.

موازنة تدخلات الفاعلين الدوليين والإقليميين: في ضوء إدراك تركيا أنها  ليست هي الفاعل الأجنبي الوحيد في أفريقيا، وأن هناك دولا أخرى تسعى إلى تثبيت أقدامها في المنطقة، فإن أنقرة باتت تولى أهمية لمشاريع الطاقة في دول القارة، وبخاصة التي ترتبط معها بعلاقات استراتيجية، وبخاصة الصومال. وتسعى تركيا لمنع استقطاب دول القارة تجاه منافسيها الإقليميين والدوليين، خاصة أن هذه القوى تتجه نحو محاصرة الدور التركي في أفريقيا. لذلك، فإن تركيا تحاول من خلال تعزيز التعاون في مشاريع الطاقة مع دول القارة  مواجهة التحالفات المناهضة لها في الداخل الأفريقي ناهيك عن محاولة تركيا مزاحمة القوى الأوروبية ذات الوجود الراسخ في المنطقة والتأثير عليها لتحقيق المصالح والأهداف التركية في القضايا العالقة بين الجانبين

.السيطرة على الموانئ البحرية: تعد المساعي التركية للانخراط في مشاريع الطاقة، ومحاولة الدخول على خط عمليات التنقيب في أفريقيا، فرصة لتعزيز نفوذ أنقرة في منطقة الموانئ البحرية الأفريقية، والتي تمثل  إحدى المحاور الديناميكية الرئيسية للسياسة التركية تجاه القارة. هنا، يمكن تفسير سعى تركيا مؤخرًا إلى تعزيز وجودها بالمنافذ البحرية المطلة على سواحل البحر الأحمر أو المحيط الهندي، وهو ما انعكس في تشغيل قاعدة عسكرية بحرية على سواحل المحيط الهندي في الصومال في العام 2017 التي نالت دعمًا كبيرًا من الرئيس الحالي عبدالله فرماجو. كما وفرت العلاقة مع الصومال بيئة حاضنة لتعاظم حضور تركيا في المنافذ البحرية الصومالية على البحر الأحمر أو المحيط الهندي. هنا، يمكن فهم توجه تركيا نحو الحفاظ على تطوير العلاقة مع موريتانيا، وترسيخ العلاقة مع الصومال، ودفع العلاقة مع جيبوتي وإثيوبيا، لا سيما وأن هذه العلاقة تعزز حضور أنقرة في منطقة البحر الأحمر، والمحيط الهندي،  وهو ما تطمح في الحصول من خلاله على مكاسب إستراتيجية واقتصادية في القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط.

تكريس نفوذ أنقرة بمنطقة الساحل والصحراء: ترتبط تركيا بعلاقات وثيقة مع المجلس العسكري في مالي منذ إمساكه بمفاصل السلطة في أغسطس 2020. كما عززت روابطها العسكرية مع النيجر، ووفر التعاون العسكري بين البلدين بيئة مواتية لتعميق نقاشات مشتركة حول إمكانية إقامة قاعدة عسكرية تركية بالنيجر.

في هذا السياق، يوفر الدخول التركي على خط مشاريع الطاقة فرصة لتعميق الشراكة التركية مع دول القارة الأفريقية، وبخاصة في منطقة الساحل، وظهر ذلك في انعقاد القمة التركية الأفريقية، والتي جاءت دورتها الثالثة في ديسمبر 2021 بمدينة إسطنبول. ورغم تأكيد أنقرة على المداخل الثقافية والإنسانية كأدوات رئيسية في علاقاتها مع أفريقيا إلا أن التحركات التركية خلال العاميين الماضيين ساهم في تصاعد الدور التركي في الساحل، خاصة بعد انخراط تركيا في صفقات عسكرية مع دولها، ما يسمح بتوسع النفوذ التركي على حساب القوى التقليدية في المنطقة، ويشكل تهديداً لمصالحها الاستراتيجية هناك.

 ومنذ أكتوبر 2021، توسعت تركيا في بيع الطائرات بدون طيار إلى الدول الأفريقية، حيث أبرمت المغرب وإثيوبيا والنيجر وأنجولا صفقات معها. ووفقا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك في ديسمبر الماضي، ارتفعت مبيعات الأسلحة التركية إلى أفريقيا بنسبة 39.7%، حيث شهدت الأشهر الـ11 الأولى من العام 2021 وصول الصادرات إلى رقم قياسي بلغ 2 مليار و793 مليون دولار[13].

تحييد الضغوط شرق المتوسط: ترى تركيا أن التعاون في مجالات الطاقة مع القارة السمراء يمكن أن يساهم في تحييد الضغوط الإقليمية والدولية على التحركات التركية للتنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط، ويحولها إلى لاعبا استراتيجيا، وهو ما تعتبره أنقرة خطوة استراتيجية تعزز من خلالها الحضور في مشاريع الطاقة في منطقة شرق المتوسط ناهيك عن ترسيخ مساعيها بأن تصبح ممرًّا استراتيجيًّا لإمدادات الطاقة العالمية. في هذا السياق، فإن التقارب مع دول أفريقية، وبخاصة ليبيا ونيجيريا والصومال في هذه المرحلة، يوفر لتركيا بيئة خصبة لإعادة رسم خريطة التحالفات حول أزمة شرق المتوسط التي باتت تمثل أولوية استراتيجية كبيرة لتركيا التي تسعى إلى الاستفادة من ثروات شرق المتوسط.

إصلاح العلاقة مع القوى الغربية: تعي أنقرة أن تعزيز حضورها في مشاريع الطاقة الأفريقية، وبخاصة منطقة غرب أفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي، يساهم في بناء فرص جديدة للتعاون بين أنقرة وقوى أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا، التي تعاني من تداعيات  موجات اللجوء القادمة من هذه الدول. لكن الأهم أن التغلغل التركي في أفريقيا، ولا سيما في قطاع الطاقة يمكن أن يمثل مدخلا لإصلاح العلاقة مع واشنطن،  إذ أن حضور أنقرة في هذه المشاريع قد يقنع إدارة بايدن بأهمية توظيف الأولى كعامل مهم لفرض التوازن في مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد في إقليم غرب أفريقيا، وهو أمر من شأنه أن يفتح أفاق جديدة للعلاقة بين أنقرة وواشنطن.

تعزيز المنافع الاقتصادية: في مقابل ذلك، فإن تركيا أيضًا تستمر في تعزيز علاقاتها مع أفريقيا في المرحلة الحالية، وبخاصة في البحث عن موطئ قدم لها في مشاريع الطاقة. إذ إن ذلك سوف يؤثر على مصالحها الاقتصادية مع الأخيرة، خاصة في ضوء تطلعها إلى التحايل على التدهور الحادث في عملتها وتراجع اقتصادها. وقد بلغ حجم المبادلات التجارية بينهما خلال العام 2021 29 مليار دولار العام الماضي، منها 11 مليار دولار مع أفريقيا جنوب الصحراء، أي ما يقرب من 8 أضعاف ما كانت عليه عام 2003. وفي إجمالي الصادرات التركية لأفريقيا، فقد ارتفعت من 2.1 مليار دولار في عام 2003، إلى 15.2 مليار دولار في عام 2020.

ختاما، يمكن القول أن اتجاه أنقرة للتقارب مع القارة الأفريقية في هذه المرحلة يمثل أولوية تركية، خاصة في ظل تنامي احتياجات تركية لمصادر الطاقة فضلًا عن أن تهديد موسكو بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا يوفر بيئة مواتية لتعزيز دور تركيا كناقل للطاقة الأفريقية للقارة الأوروبية. كما أن مشاريع الطاقة المشتركة مع القارة السمراء تمثل رافعة لترطيب علاقات أنقرة مع القوى الغربية، وبخاصة واشنطن التي قد تتجه نحو الضغط على دول الاتحاد الأوروبي، من أجل تجاوز الخلافات مع تركيا في هذه المرحلة، والتركيز على ملفات الاتفاق والتعاون في مجالات الطاقة لإيجاد بديل للغاز الروسي، وهو ما يخدم المصالح التركية بامتياز.

غير أن ثمة تحديات قد تواجه الانخراط التركي في مشاريع الطاقة الأفريقية، في الصدارة منها مساعي القوى الدولية، وبخاصة فرنسا ومن خلفها الصين لمحاصرة الدور التركي في أفريقيا ناهيك عن مخاوف بعض دول القارة من أن يلقى أية دور تركي في مشاريع الطاقة الأفريقية بتبعات مركبة على ترتيبات الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر، سيما في ظل توظيف تركيا للميليشيات على ساحات الصراع التي تنخرط فيها.


[1] – زيارات ولقاءات وقمم مشتركة.. كيف أصبحت أنقرة الشريك الموثوق للقارة السمراء؟ موقع TRT بالعربي، 21 فبراير 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/3OAsiii

[2] – أية سيد، كيف يسعى أردوغان لتمديد نفوذه في أفريقيا، 23 فبراير 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/37Hpsal

[3] -أردوغان يبحث عن متنفس لاقتصاد بلاده من بوابة غرب أفريقيا، صحيفة العرب ، 18 أكتوبر 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3K5VB8L

[4] – سلمى حداد، صراع النفوذ على نفط أفريقيا يحتدم.. كيف حضرت قطر والسعودية؟، موقع الخليج أون لاين، 22 فبراير 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/36JLuJi

[5] – أردوغان التمثيل الدولي لأفريقيا مجحف.. وعلاقاتنا بالقارة بلغت مستويات غير مسبوقة، موقع الخليج الجديد، ديسمبر 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3rPlbJ0

[6] – نيجيريا تدعو تركيا إلى الاستثمار في النفط والغاز على أراضيها، ترك برس، 9 مارس 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/3k6X8Ri

[7] – جاذبية استثمارية.. لماذا يتزايد اهتمام شركات النفط العالمية بموارد موريتانيا؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 20 ديسمبر 2017، متاح على الرابط: https://bit.ly/3vzaQSq

[8] – نور علوان، شركة “كارباورشييب” التركية للطاقة ومساعي النمو في أفريقيا، موقع نون بوست، 20 يوليو 2020، متاح على الرابط: https://bit.ly/3k4ftyw

[9] – دالية غان، توجه أنقرة نحو المغرب العربي، مركز مالكوم كير- كارنيجي، 6 مايو 2021، متاح على الرابط: https://carnegie-mec.org/diwan/84487

[10] –  ساحل العاج: نرغب في مزيد من الاستثمارات التركية على أرضينا، وكالة الأناضول، 18 ديسمبر 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/36JJu3K

[11] – صهيب محمود، تركيا في الصومال: أبعد من مهمة إنسانية، 4 سبتمبر 2021، متاح على الرابط: https://bit.ly/3vL7OuC

[12] – إيكونومست: تركيا تعزز نفوذها الدبلوماسي ونشاطها الاقتصادي والعسكري بأفريقيا، موقع الخليج الجديد، 23 أبريل 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/38ehW6S

[13] – هكذا فتحت صفقات الأسلحة أبواب أفريقيا أمام تركيا، الخليج الجديد، 21 يناير 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/3L71OTc