د. أماني الطويل

مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تشكل مسألة حالة مؤسسة الدولة الوطنية في أفريقيا والاتفاق على أنماط الحكم فيها أهم التحديات التي يواجهها الاتحاد الأفريقي حاليًّا، وهو ما استلزم منه توسيع دائرة التفاكر حول التحديات الراهنة في القارة الأفريقية خصوصًا ما يرتبط بمدى استقرار النظم السياسية والتزامها بالديمقراطية والحكم الرشيد كآليات للحكم.

وقد عقدت مفوضية الأمن والسلم في الاتحاد الأفريقي مؤتمرًا موسعًا في أكرا مؤخرًا حرص على تواجد ممثلين لمراكز التفكير، ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء الحقوقيين، حيث كان لي شرف حضوره والاطلاع على مجرياته، وذلك بشأن التغييرات غير الدستورية في أفريقيا، توطئة لعقد مؤتمر بهذا الخصوص على مستوى القمة في ملابو في مايو القادم.

ويمكن القول: إن اتجاهات النقاش الراهنة في مفوضية الاتجاه الأفريقي، طبقًا لمخرجات مؤتمر أكرا تتجه نحو تعديل ميثاق الاتحاد الأفريقي في القمة القادمة ليكون أكثر استجابة لمسألة التغييرات غير الدستورية في القارة الأفريقية، وهو الذي تمظهر حتى الآن في أمرين؛ الأول الانقلابات العسكرية، والثاني في تغيير الدساتير لضمان استمرار النظم السياسية برموزها القيادية أيًّا ما امتدت فترات حكمهم.

في هذا السياق تهتم هذه الدراسة بعدد من المحاور منها حالة الالتزام بمحددات الحكم الرشيد، وآليات الديمقراطية في أفريقيا، وأيضًا سنهتم ببروتوكولات الاتحاد الأفريقي وأنساقه التي تعمل على توطين الديمقراطية في أفريقيا، وربما يكون من المهم أيضًا مناقشة الاتجاهات المستقبلية للاتحاد الأفريقي للحفاظ على الديمقراطية في أفريقيا.

أولًا: حالة الحكم الرشيد في أفريقيا

ربما يكون من المتفق عليه في مداولات مؤتمر أكرا أن تأسيس الديمقراطية والحكم الرشيد في أفريقيا يواجه معوقات ترتبط بمرحلة تأسيس الدولة الوطنية في القارة الأفريقية، وذلك بسبب عدد من العوامل منها:-

أ – أزمة ترسيم الحدود

رسمت حدود الدولة الأفريقية من جانب أقطاب النظام الدولي في الربع الأخير من القرن الـ١٩ عام ١٨٨١ حيث امتدت هذه العملية حتى الحرب العالمية الأولى.

 طبقًا لذلك نشأت المستعمرات تحت مظلة الانقسامات الدينية واللغوية والسياسية للجماعات الأفريقية المختلفة، وفي منتصف القرن الـ20 نتج عن هذه المستعمرات دول أفريقية جديدة أجبر فيها الجميع فجأة على محاولة الانسجام وبناء جمهوريات مستقلة، حيث أصبح سكانها مضطرون إلى العيش المشترك دون قدرة على تأسيس حالة الاندماج الوطني المفضية إلى تكوين الأمة.

وقد أفرز هذا الواقع ما يزيد عن مائة خلاف حدودي بين الدول الأفريقية لم يحل منها سوى ٣٠ فقط، بينما نتج عن ما لم يحل صراعات مسلحة، أو علاقات جوار متوترة، أفرزت تصاعدًا للتهديدات الأمنية بين الدول، ولعل الحالة بين إرتيريا وإثيوبيا، السودان وإثيوبيا، والصومال وإثيوبيا، وأيضًا بين كل من مصر والسودان والجزائر والمغرب حالات تشير إلى عمق الأزمة.

ب- أزمة الاندماج الوطني

في الواقع، لم تكن العمليات الأصلية لتشكيل الدولة في أفريقيا مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت موجودة في أوروبا نفسها في ذلك الوقت، ولولا خروجها عن مسارها بسبب الغزو الأوروبي والاضطراب والموت الناتج عن تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، لكان من الممكن تخيل قارة مختلفة اليوم. بدلًا من أفريقيا المجزأة بشدة التي نراها على الخرائط المعاصرة؛ مع وجود العديد من الدول الصغيرة مثل غامبيا وتوجو، والعديد من الدول غير الساحلية، مثل النيجر وتشاد، فقد كان من الممكن أن تكون عالـمًا ناتجًا من قيام الدول الكبيرة نسبيًّا في الحقبة القديمة بالتمدد تدريجيًّا وضم الشعوب المختلفة تحت راية واحدة، وربما تحت لغة أفريقية واحدة، مثلما حدث في أوروبا.

إذا استمرت هذه العمليات السياسية الداخلية دون اضطراب، فبدلًا من وجود 54 دولة بعضها يعاني من سوء المناخ أو ندرة الموارد أو العزلة الجغرافية التي فرضت عليها حالة مستمرة من الضعف الاقتصادي أو فرض عليها الانقسامات بسبب الهوية التي تم تقنينها أو منحها المستعمرون الأوروبيون قوة قانونية، بدلًا من هذا كان من الممكن تخيل قارة تضم على سبيل المثال 25 أو 35 دولة معظمهم متجانس وقابل للحياة اقتصاديًّا[1]، حيث لم تمنح أفريقيا المساحة اللازمة للوصول إلى مثل هذه النتيجة، وبطبيعة الحال فإن الناتج النهائي كان بلورة تحديات أساسية أمام تحقيق تنمية سياسية واقتصادية للدول الأفريقية، في المحصلة أنتج هشاشة لمؤسسة الدولة.

ج- أزمة النظام السياسي:

يدرك الأفارقة النظام السياسي الديمقراطي على أنه أحد تمظهرات الغرب وأنه أداة للحكم وافدة وغير أصلية  Alien، بل وغير متماهية مع الأنساق الاجتماعية والثقافية الأفريقية، سواء فيما يتعلق بالزعامة ونظم الحكم، أو فيما يتعلق بعلاقات التفاعل بين الجماعات والقبائل المكونة للمجتمعات الأفريقية من حيث الاحتياجات وطبيعة المشكلات، والتي تتطلب أولا تسويات لها طابع توافقي أو رضائي consensual Propblem Solving ، وكذلك في بيئة لها شروط محددة من حيث التوقيت والظروف والأماكن[2]، حيث يمكن رصد أن في نهاية الثمانينات كانت أفريقيا مسرحًا لسلسة انتقالات ديمقراطية، بعد التطورات التي أعقبت سقوط جدار برلين عام 1989، حيث انتقلت 38 دولة أفريقية من نظام الحزب الواحد أو الحكم العسكري إلى اعتماد نظم تعددية، وتميزت التحولات الجديدة بأنها جاءت نتيجة ضغوط خارجية بالأساس من قبل الدول المانحة، لا سيما تلك التي تملك نفوذًا تقليديًّا كبيرًا، فبالنسبة للمجموعة الفرانكفونية مثلًا، خاطب الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قادتها المجتمعين في مدينة لابول بفرنسا في يونيو/ حزيران 1990 بضرورة الإسراع في اعتماد الديمقراطية وإجراء انتخابات حرة[3]، وهو ما أعقبه أيضًا تغيير الهياكل الاقتصادية الأفريقية لتكون أكثر استجابة للعولمة من حيث الاعتماد على سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة، وهو الأمر الذي كان له دور في صناعة الإفقار وضعف الخدمات المقدمة من الدولة لمواطنيها، وكان الحصاد يصب في تكوين الدول الهشة.

وفضلًا عن ذلك فإن توطين الديمقراطية في بيئة صراعية على المستوين المحلي والإقليمي تعد تحديًا لتوطين الديمقراطية، حيث يتم معالجة ذلك أحيانًا بنظم سياسية تعتمد على الإثنية الفيدرالية كالحالة في إثيوبيا مثلًا أو القبلية الفيدرالية كالحالة في الصومال.

أما على مستوى مدى توافر آليات النظام الديمقراطي في الدول الأفريقية فإنه لا بد من رصد أن كثيرًا من هذه الآليات معطوبة وأهمها الأحزاب السياسية التي تتسم بالضعف والهشاشة لعدد من العوامل؛ منها أن معظم الأحزاب الأفريقية قد تكونت وحصلت على شرعيتها السياسية على أسس مقاومة الاستعمار مثل الحالة في كل من جنوب أفريقيا والسودان وزيمبابوي، وقد وفرت هذه الشرعية استمرار الرموز السياسية لهذه الأحزاب حاكمة لفترة طويلة دون تغيير، وهو ما تسبب في تكلس الأحزاب السياسية وضعفها حيث افتقدت آلية رئيسية لضخ الدماء في شرايينها وتجديد شبابها من ناحية، كما اضطرت هذه القيادات إلى بلورة علاقة زبائنية مع دول المستعمر التاريخي لها، لمقاومة تيارات التغيير فيها أو التمرد على قيادتها.

وفي هذا السياق فقدت هذه الأحزاب تدريجيًّا القدرة على صناعة الكوادر السياسية، أو المنافسة على الحكم إذا ما فقدته لصالح النخب والمؤسسات العسكرية وبرزت الاتجاهات الشعبوية سواء داخل الأحزاب أو في الحالة السياسية العامة وخصوصا بعد الانتفاضات الشعبية في كل من شمال وشرق أفريقيا بعد عام ٢٠١١[4].

د. تصاعد التهديدات الأمنية:

شكّل تصاعد ظاهرة الإرهاب في أفريقيا خلال العقد الأخير إلى عدد من التداعيات المؤثرة على نظم الحكم ومدى استجابتها لتوطين الديمقراطية كنظام للحكم، وكذلك مدى التزام الدول الكبرى المبدئي بدعم التحول الديمقراطي في أفريقيا، إذ إن ارتفاع معدلات الهجمات الإرهابية في كل من بوركينا فاسو ومالي وذلك على سبيل المثال لا الحصر مهّد لوقوع انقلابات عسكرية في هذه الدول فأتمت أفريقيا بانقلاب غينيا مثلًا عدد ٢٠٢ انقلاب عسكري تم تنفيذهم منذ حقبة التحرر الوطني في منتصف القرن الماضي وحتى اليوم، وحتى خريف ٢٠٢٠ كان في أفريقيا ٧ أطول رؤساء حكمًا حول العالم، حيث تم ضمان ذلك عبر عمليات تغيير الدستور في الكثير من الدول الأفريقية منها روندا على سبيل المثال التي حصل فيها بولكاجامي على فترة رئاسية ثالثة اعتبارًا من عام ٢٠١٧ عبر تغيير دستوري، وكذلك حصل الرئيس البورندي بيير نكورونزيزا على ولاية ثالثة عقب تغيير دستوري عام ٢٠١٥ وذلك رغم اضطرابات سياسية وأمنية عاصفة وصلت درجة التمرد العسكري على النظام في 13 مايو 2015، والسيطرة على المراكز الحساسة داخل العاصمة لعدة أيام، قبل أن تتمكن القوات الموالية للرئيس من استعادة السيطرة على العاصمة وعودة الرئيس بيير نكورونزيزا إلى الحكم.

في هذا السياق فإنه من الملاحظ تباين مواقف الدول الكبري فيما يتعلق بمبدئية الالتزام بتشجيع الديمقراطية في أفريقيا، حيث تم الانتقال من المقاومة الغربية لعمليات التمديد في الحكم إلى القبول بها أو تحديد الموقف منها طبقًا للمصالح الغربية، وليس انتصارًا مبدئيًّا للديمقراطية. وفي هذا السياق يمكن رصد مثلًا أن تحذيرات الولايات المتحدة الأمريكية، خلال القمة الأمريكية – الأفريقية في أغسطس 2014م كانت قوية حول قضية التعديلات الدستورية في البلدان الأفريقية، وخاطب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الزعماء الأفارقة في الكلمة التي ألقاها في مقر الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا، يوم 28/ 7/ 2015، قائلًا:  “إن تقدم الدول الأفريقية معرض للخطر عندما يرفض القادة الأفارقة التنحي عن الحكم عند نهاية مأمورياتهم الرئاسية”. وأضاف: “عندما يحاول القائد تغيير اللعبة وسط الطريق فإنه يعرض البلد للخطر”، مؤكدًا أن تقدم أفريقيا يعتمد على الديمقراطية، وأوضح الرئيس الأمريكي أن غياب الديمقراطية هو الباب الملكي لممارسة الفساد الذي يبتلع مليارات الدولارات من اقتصادات البلدان الأفريقية، وهي أموال يمكن استخدامها لاستحداث وظائف وبناء مستشفيات ومدارس“[5].

وفي مقابل هذا الموقف الأمريكي فإنه يمكن ملاحظة أن الموقف الفرنسي من مسألة الانقلابات العسكرية هو مرتبط بطبيعة المصالح الفرنسية، فبينما تم رصد الانقلاب في مالي خال عام ٢٠٢١ تم القبول بعملية تغيير غير دستوري في تشاد نظرا للدور العسكري الذي تقوم به تشاد لحماية المصالح الفرنسية من ناحية، ومحورية تشاد على المستوي الجيوسياسي لفرنسا خصوصًا فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي من ناحية أخرى، حيث تم وصف الموقف الفرنسي بالانتهازي.

ثانيًا: بروتوكولات الاتحاد الأفريقي وأنساقه لتوطين الديمقراطية:

منذ تأسيس الاتحاد الأفريقي عام ٢٠٠٠ كتطور لمنظمة الوحدة الأفريقية كان هناك عدد من المحددات الحاكمة لميثاقه وأطر عمله كمنظمة إقليمية قارية منها التقيد الصارم بالمبادئ الديمقراطية وتنصيبها وتقوية المؤسسات الديمقراطية واحترام سيادة القانون كشروط أساسية للاستقرار السياسي، والسلام والتنمية المستدامين في أفريقيا. وفي سبيل ذلك اعتمد الاتحاد الأفريقي عددًا من الأطر المعيارية، منها الميثاق التأسيسي للاتحاد الأفريقي (2000)، وبروتوكول الاتحاد الأفريقي حول السلام والأمن، وإعلان لومي في يوليو (2000)، والميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم (ACDEG) 2007.

وقد نجحت هذه الأطر المعيارية خلال العقدين الماضيين في دعم فرص التحول الديمقراطي والاتجاه نحو التنمية مع قدر من استقرار سياسي، ولكن يبدو أن طبيعة التحديات التي تواجهها مؤسسة الدولة الأفريقية، وحقيقة هشاشتها في آن قد أسفرتا عن ارتفاع وتيرة التحديات أمام الاتحاد الأفريقي فيما يتعلق بمواجهة المتغيرات المرتبطة بإجهاض مسيرة القارة نحو التحول الديمقراطي.

وفي هذا السياق تتجه حاليًّا مفوضية الاتحاد الأفريقي خصوصًا مجلس السلم والأمن نحو بحث كيفية تعزيز أطره المعيارية الداعمة للديمقراطية والحكم الرشيد وذلك على المستويين القاري الجامع، والإقليمي الجهوي، حيث يتم حاليًّا فحص القرارات والإجراءات بشكل منهجي لمواجهة الطفرة الحالية في النكوص عن الديمقراطية وهو ما يعني تحديًا وجوديًّا، لـأجندة 2063- التنموية في أفريقيا، وكذلك لخطة التنمية المستدامة المعلنة من جانب الأمم المتحدة عام ٢٠١٥.

وقد أسفرت هذه المراجعة عن وجود ثغرات في الأطر المعيارية للاتحاد الأفريقي، وكذلك الافتقار إلى الوضوح المفاهيمي، بما سمح بتطبيقات متعددة لعقوبات الاتحاد الأفريقي بشأن التغييرات غير الدستورية.

فضلًا عن ذلك فإن عدم وجود آلية الإنذار المبكر القارية، وكذلك ضعف التنسيق بين الاتحاد الأفريقي والمجتمعات الاقتصادية الإقليمية مثل إيكواس وغيرها.

وتحت مظلة هذا التقييم قدم مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي مبادرة مطلع العام الحالي لمواجهة تحديات بناء الديمقراطية في أفريقيا، حيث نظمت بالتعاون مع إدارة الشؤون السياسية والسلام والأمن في الاتحاد الأفريقي، في 27 يناير 2022، جلسة مفتوحة حول موضوع “تعزيز الدستورية والديمقراطية والحكم الشامل لتعزيز السلام والأمن والاستقرار في أفريقيا”، حيث اتخذ الاجتماع قرارًا بعقد جلسة عصف ذهني بشأن التغييرات غير الدستورية للحكومات في أفريقيا مع أصحاب المصلحة خارج أطر الاتحاد الأفريقي وذلك لتحقيق الأهداف التالية:

 أ. توفير منصة للمناقشة وتحديد الثغرات والحلول للأطر المعيارية للاتحاد الأفريقي ذات الصلة بعملية التطور الديمقراطي والدبلوماسية الوقائية للمجموعات الاقتصادية الإقليمية بشأن التغييرات غير الدستورية للحكومات في أفريقيا.

 ب. استكشاف مسارات السياسة للتغلب على التحدي المتمثل في خطة الأمم المتحدة UCGs في أفريقيا.

 ج. مراجعة الأطر المعيارية الحالية للاتحاد الأفريقي والمجموعات الاقتصادية الإقليمية مقابل الاتجاهات المتجددة المعاصرة لـ UCGs  خصوصًا فيما يتعلق بالانتفاضات الشعبية

د. تقديم مدخلات جديدة لتعزيز الأطر المعيارية للاتحاد الأفريقي في المرحلة الراهنة لتعزيز الديمقراطية.

ه. التوصية بتدابير لشحذ الشراكة والتعاون بين المجموعات الاقتصادية الإقليمية التابعة للاتحاد الأفريقي والدول الأعضاء جنبًا إلى جنب مع الشركاء الفاعلين من غير الدول في أفريقيا.

و. المساعدة في تطوير وثائق العمل للقمة غير العادية للاتحاد الأفريقي المؤتمر المقرر عقده في مالابو، غينيا نهاية مايو ٢٠٢٢.

ثالثًا: الاتجاهات المستقبلية للاتحاد الأفريقي:

كشفت اجتماعات ومداولات مؤتمر أكرا أن النية تتجه نحو تغيير المادة ٢٥ من ميثاق الاتحاد الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم، حتى يمكن تطوير آليات الاتحاد الأفريقي فيما يتعلق بمواجهة ظاهرة التغييرات غير الدستورية، ذلك أن مسألة تعليق عضوية الدولة التي يقع فيها الانقلاب العسكري طبقا لميثاق ٢٠٠٧، لم تعد كافية وأصبحت محدودة التأثير في كبح جماح الانقلابات العسكرية في أفريقيا التي وصلت إلى أكثر من 200 انقلاب منذ حصول الدول الأفريقية على استقلاها السياسي ابتداء من النصف الثاني للقرن الـ20، حيث كانت خطوة الاتحاد الأفريقي الأولى ضد هذا النمط من تغيير الحكم عام ٢٠٠٠ في قمة لومي، ثم تم تطويرها عام ٢٠٠٧ في ميثاق الديمقراطية والانتخابات والحكم.

في هذا السياق تجرى نقاشات معمقة حول الانتفاضات الشعبية في أفريقيا خصوصًا التي تمارس ترحيبًا بالانقلابات العسكرية كمخلص من حالة تردٍّ اقتصادي كالحالة في غينيا بيساو، أو تغول أيديولوجي على مؤسسة الدولة وأنماط الحياة الاجتماعية للناس التي مارسها الإخوان المسلمين كالحالة في كل من السودان ومصر وتونس.

ويبدو أن هذا النقاش للظاهرة من جميع جوانبها هو مؤسس لحضور ممثلين لعدد من المؤسسات العسكرية الأفريقية، وذلك باعتبارهم الفاعلين الأساسين في عملية التغيير غير الدستوري عبر الانقلابات العسكرية طبقًا لما لمخرجات اجتماعات مجلس السلم والأمن الأفريقي.

ويمكن القول: إن وجود الفاعلين السياسيين والعسكريين في نفس السياق وذات الحدث كان مهمًّا جدًّا في إثراء هذا النقاش وإعطائه أبعادًا عميقة لفهم الظاهرة، وأيضًا لإثراء النقاش حول حالة مؤسسة الدولة في أفريقيا، وطبيعة التحديات التي تواجهها تحت مظلة نظام دولي تتصارع أطرافه لحد تدشين حروب ولكن العامل الدولي في دعم استقرار مؤسسة الدولة في أفريقيا كان شبه غائب، وهو ما طرحته من جانبي لأنه ببساطة لا يمكن أن نطالب دولًا ثرواتها منهوبة عبر الشركات العابرة للجنسية بتحقيق تنمية اقتصادية، أو استقرار سياسي، تقول به دول العالم الأول، بل وتضغط بسببه بآليات العقوبات الاقتصادية التي غالبًا ما يعاني منها عموم الناس وليس نخب الحكم.

أما النقطة الثانية التي طرحتها فهي فكرة مدى جدارة نموذج الديمقراطية الغربية لمخاطبة الواقع الأفريقي، خصوصًا وأن الديمقراطية التمثيلية تواجه حاليًّا تحديات كبيرة هي محل لإصدارات من علماء سياسية مرموقين مثل ديفيد رونسيمان في كتابه “كيف تنتهي الديمقراطية؟”، بينما هناك أطروحات من جانب علماء سياسيين آخرين تطرح فكرة التوافق بديلًا عن التنافس، ولعل كتاب د. وحيد عبدالمجيد عن ديمقراطية القرن الواحد والعشرين تفتح الباب واسعًا أمام النقاش العام في الشرق الأوسط وأفريقيا بشأن أنماط الديمقراطية المنتجة للتنمية الاقتصادية، والاستقرار السياسي، ولعلي أذكر هنا مقولة لجمال عبدالناصر والتي لم يحولها للأسف لآليات عمل واقعية، قال فيها إن جناحا الديمقراطية هما الحرية السياسية، والتنمية الاقتصادية مشيرًا إلى أن استخدام المال السياسي في الانتخابات لا يقود إلى تمثيل واقعي لمصالح عموم الشعب، مذكرًا ربما بظاهرة تقسيم العملة للناخب قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، وذلك بقطعها حتى يتم ضمان صوته، وهي آليات تم تطويرها على يد كل من رجال الأعمال والإخوان المسلمين لشراء الأصوات الانتخابية.

وقد كان الدافع وراء إعادة التقييم الغربي للديمقراطية التمثيلية هو مأزق الشعبوية التي أفرزت ظاهرة انتخاب دونالد ترامب مثلًا في الولايات المتحدة، كما أنتجت ظواهر مثل الصعود الانتخابي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا الذي تمارس بعض عناصره الإرهاب الأبيض، أما على المستوى الأفريقي فإن النموذج الديمقراطي الغربي يواجه تحديات رئيسية تحت مظلة هشاشة مؤسسة الدولة ذاتها، وعدم قدرتها على القيام بوظائفها الأساسية.

وبطبيعة الحال طرح مأزق النموذج الديمقراطي الغربي لا يعني إسنادًا لتغيير الدساتير، أو إهمال التداول السلمي للسلطة في مواعيده المقررة، أو دعمًا لأي حكم شمولي مهما كانت أسبابه، ولكنه مجرد دعوة لعلماء السياسة الأفارقة كي يبدعوا الآليات المناسبة لتحقيق الديمقراطية في مجتمعاتهم، التي تمللك منطلقات فلسفية وثقافية خصوصًا في دول جنوب الصحراء التي لا تعتمد على الفردية بل تقدس العلاقات الجماعية، وهو سياق مغاير في منطلقاته وتفاصيله للسياق الغربي.

إجمالًا يبدو أن تجريم التغييرات غير الدستورية في أفريقيا هو العنوان الرئيس لمجهودات الاتحاد الأفريقي في المرحلة القادمة والتي سوف تتبلور بقمة مالابو القادمة خصوصًا ما يتعلق بميثاق الديمقراطية للاتحاد الأفريقي التي يتم اللجوء إليها لتمديد فترات النظام السياسي أو تلك اللاحقة للانقلابات العسكرية، باعتبارها تشكل الآليات الممهدة للتغير السياسي غير الدستوري، كما أن عملية التجميد الفوري لعضوية الدولة الواقع فيها التغيير الدستوري ستكون ربما محلًّا للتعديل، ذلك أن هذا التجميد الفوري يحرم الاتحاد الأفريقي من آليات التفاعل مع هذه الدولة، وبالتالي محاولة الضغط والتأثير لإحداث تراجع عن التغيير الغير دستوري.


1- أزمة الدول الكبرى في أفريقيا لها جذور تاريخية، متاح على:

  • https://2u.pw/XazSm[1]

[2]– العوامل المؤثرة على التحولات الديمقراطية في أفريقيا، متاح على:

https://2u.pw/pLr09

[3]– الولاية الثالثة والتعديلات غير الدستورية مجلة قراءات أفريقية، متاح على:

https://2u.pw/1yTZw-

[4]– مداولات مؤتمر أكرا في غانا ١٥- ١٧ مارس ٢٠٢٢.

[5]– الولاية الثالثة وتعديلات الدساتير الأفريقية متاح على:

https://2u.pw/1yTZw-