أماني ربيع

ارتبط ورق البردي بصورة وثيقة بالحضارة المصرية القديمة، ويُعتقد أنه تم تطوير ورق البردي في مصر في وقت مبكر من عام 2900 قبل الميلاد، رغم أن استخدامه أصبح أكثر انتشارًا خلال فترة الدولة الحديثة نحو ( 1550-1070 قبل الميلاد)، ويعود أقدم دليل أثري على ورق البردي إلى الفترة ما بين 2560-2550 قبل الميلاد، إلى وثائق تم التنقيب عنها في ميناء مصري قديم على ساحل البحر الأحمر.

وكلمة البردي، المشتقة من الكلمة اليونانية “papuros”، تشير لى نوع من “الورق” المصنوع من لب نبات البردي، يُعرف هذا النبات المائي علميًا باسم ورق البردي Cyperus، وموطنه الأصلي دلتا النيل في مصر، ولكنه الآن نادر جدا، كانت براعم البردي تتفتح من جذر أفقي ينمو في المياه العذبة الضحلة، ويصل ارتفاع السيقان إلى 5 أمتار وتنتهي بأزهار بنية صغيرة.

كانت هذه النباتات ذات يوم مجرد جزء من النباتات الطبيعية في المنطقة، لكن بعد اكتشاف كيفية الانتفاع بها تمت زراعتها بصورة مكثفة، وبالرغم من أن ورق البردي ليس ورقًا بالمعنى الحقيقي، إلا أنه كان أول مادة للكتابة، ولعب دورًا محوريًا في تطور الكتابة والتواصل في العالم القديم.

استخدامات البردي

وبعكس الشائع، لم يستخدم ورق البردي في مصر القديمة للكتابة فحسب، وكان يمكن خبز النبات وأكله، ويذكر هيرودوت أن جذر البردي كان عنصرًا أساسيًا في النظام الغذائي المصري.، حيث كان يتم تقطيعه وإدخاله في مجموعة متنوعة من الأطباق، واستخدم البردي أيضا بل أيضًا لصناعة منتجات تستخدم في الحياة اليومية، حيث استخدم المصريون القدماء ساق نبات البردي لصنع الأشرعة، والقماش، والحصير، والحبال، والصنادل وكمظلات للنوافذ، ولصناعة بعض الألعاب والدمى، وحتى لصنع قوارب صيد صغيرة.

لعب البردي كذلك، دورا دينيا، حيث استخدمه المصريون القدماء في صنع قربان شعبي للآلهة عبر ربطه معا على شكل “العنخ” رمز الحياة والوعد بالحياة الأبدية، أحد أهم أيقونات مصر القديمة، وكثيرًا ما كان يوضع لتقديم القرابين للآلهة في المعابد أو المسلات، بحسب عالم المصريات ريتشارد ويلكنسون، كما استخدم أيضا كرمز سياسي في “سما تاوي” أو شارة وحدة مصر العليا والسفلى، وكان هذا الرمز عبارة عن باقة من ورق البردي (المرتبطة بدلتا مصر السفلى) مربوطة بزهرة اللوتس (رمز مصر العليا).

يمكن أيضًا رؤية النبات محفورًا على الحجر في المعابد والآثار، وهو يرمز إلى الحياة والخلود، حيث كان يُعتقد أن الحياة الآخرة المصرية، المعروفة باسم حقل القصب، تعكس وادي نهر النيل الخصب ووفرة ورق البردي، ويشير اسم “حقل القصب” في الواقع إلى قصب نبات البردي، وفي الوقت نفسه، كانت غابة البردي تمثل المجهول وقوى الفوضى.، وكان يتم تصوير الملوك بانتظام وهم يصطادون في حقول البردي في الدلتا كرمز لفرض النظام.

استخدمت الطبيعة المظلمة والغامضة لحقول البردي في كثير من الأحيان كفكرة في الأساطير، وتظهر حقول البردي في عدد من الأساطير المهمة، أبرزها قصة أوزوريس وإيزيس، فبعد مقتل أوزوريس على يد أخيه ست اختبأت إيزيس مع طفلهما حورس في مستنقعات الدلتا، حيث أخفى قصب البردي الأم والطفل من نوايا ست الشريرة لقتل حورس، وبالتالي يرمز مرة أخرى إلى النظام السائد على الفوضى والنور على الظلام.

عملية صناعة البردي

قدم ورق البردي المصري العديد من المزايا مقارنة بمواد الكتابة السابقة مثل ألواح الطين وجلود الحيوانات، وتميز بكونه خفيف الوزن ومرن وسهل التخزين مما جعله وسيلة مثالية لتسجيل المعرفة وحفظها، واستخدم لكتابة النصوص الدينية وفي السجلات الحكومية والوثائق القانونية والأدب وحتى المراسلات الشخصية، وهذه القدرة على تسجيل المعلومات لعبت دورا في نشر المعرفة وتطوير براعة مصر القديمة الإدارية والفكرية.

كان الورق المصنوع من ورق البردي هو المادة الرئيسية للكتابة في مصر القديمة، وبحسب المؤرخة مارجريت بونسون كان العمال يحصدون النباتات من المستنقع عن طريق قطعها من الأسفل بشفرات حادة، ثم تجميع السيقان معًا لنقلها إلى مركز المعالجة، وكانت عملية تحويل نبات البردي إلى أوراق يمكن الكتابة عليها تتم عبر إزالة القشرة الخضراء الخارجية لنبات البردي، تاركة وراءها اللب الأبيض الداخلي. يتم بعد ذلك تقطيع اللب إلى شرائح رفيعة، ووضعها في أشكال متقاطعة، وضغطها معًا.

كانت عصارة النبات الشبيهة بالصمغ تعمل كمادة لاصقة وتثبت الطبقات معًا، وبعد تجفيفها في الشمس تصبح الورقة متينة وناعمة ذات لون أبيض نقي، وبعد ذلك يتم ضم عدد من هذه الأوراق مع بعضها البعض بالمعجون لتكوين لفة، لا تزيد عادة عن 20 ورقة، بعد ذلك يتم تجميع اللفات ونقلها إلى المعابد والمباني الحكومية والأسواق أو تصديرها للتجارة.

ورغم أن ورق البردي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكتابة بشكل عام، إلا أنه في الواقع كان يستخدم في الغالب فقط للنصوص الدينية والحكومية ، وفقا لعالمة المصريات روزالي ديفيد، لأن تكاليف التصنيع كانت باهظة الثمن إلى حد ما، ولم يكن العمل اليدوي في الحقول والمستنقعات مكلفًا فحسب، بل كان الأمر يتطلب عمالًا ماهرين لضرب النبات بشكل سليم دون تدميره، وجميع البرديات التي تم العثور عليها جاءت من المعابد أو المكاتب الحكومية أو مجموعات شخصية لدى الأثرياء.

غالبًا ما تظهر الأعمال المكتوبة على قطع من الخشب أو الحجر أو الأواني الفخارية، صورة الكاتب المصري وهو منحني فوق لفافة البردي الخاصة به، ولكن قبل وقت طويل من حصوله على تلك اللفافة، كان قد أمضى سنوات حرفيًا في ممارسة الكتابة على قطع الفخار وقطع الحجر وقطع الخشب.

كان الكتبة في مصر القديمة يقضون سنوات في تعلم حرفتهم، وحتى لو كانوا من عائلات ثرية، لم يكن مسموحًا لهم بإهدار المواد الثمينة في دروسهم، حيث كانت مواد الكتابة الأكثر شيوعًا والأرخص هي الشظايا وقطع الخشب، وغالبًا ما استخدمها تلاميذ المدارس في رسائلهم وتمارينهم، وبمجرد أن يتقن المرء أساسيات الكتابة، يُسمح له بالتدرب على لفافة من ورق البردي.

استخدم الكتبة في مصر القديمة الحبر الأسود والأحمر، وكان اللون الأحمر يستخدم لكتابة أسماء الشياطين أو الأرواح الشريرة، أو الإشارة إلى بداية فقرة جديدة، أو للتأكيد على كلمة أو فقرة، ولعلامات الترقيم في بعض الحالات، كان القلم في البداية عبارة عن قصبة رفيعة ذات طرف ناعم، ولكن تم استبداله في القرن الثالث قبل الميلاد بالقلم، وهو عبارة عن قصبة أكثر قوة يتم شحذها إلى نقطة دقيقة جدًا. يبدأ الكاتب العمل على الصفحة اليمنى من لفافة البردي، ويكتب حتى تمتلئ، ثم يقلبها لمواصلة النص الموجود على الصفحة اليسرى. في بعض الحالات، كان ناسخ آخر يأخذ لفافة البردي التي تم استخدام الصفحة اليمنى منها فقط ويستخدمها في عمل آخر، إما مكمل أو غير ذي صلة على الإطلاق.

تأثير البردي خارج مصر

بمجرد تطوير تقنية صناعة البردي، أصبحت طريقة إنتاجه سرًا يخضع لحراسة مشددة، وهو ما سمح للمصريين بالاحتفاظ باحتكار إنتاجه وأصبح شريان الحياة لمصر القديمة،ومع ذلك، تم تصدير ورق البردي إلى العديد من البلدان في العالم القديم، من خلال التبادل التجاري والثقافي، واعتمده اليونانيون، كما استخدم على نطاق واسع في الإمبراطورية الرومانية، وكانت هذه المخطوطات بمثابة جسر بين الحضارات، مما مكن من نشر الأفكار والأدب والمعرفة.

وخلال القرون الأولى بعد الميلاد، كان ورق البردي وسيلة لكتابة النصوص المسيحية ولكن في شكل مخطوطة وليس على شكل لفافة، تحتوي على عدة أوراق مجمعة معًا تشبه إلى حد كبير الكتاب الحديث، وبعد وقت قصير من إدخال العرب عملية صناعة الورق إلى مصر في القرن العاشر، والتي تعلموها من الصينيين، اختفى نبات البردي من منطقة نهر النيل حيث تخلى المصريون تدريجياً عن الإنتاج وأهملوا زراعة المزارع.

أشهر مخطوطات البردي التاريخية

سمح المناخ الجاف في مصر لأوراق البردي بالبقاء على قيد الحياة لآلاف السنين، حيث عملت الرطوبة المنخفضة كدرع ضد التأثير الضار للكائنات الحية الدقيقة، مثل العفن، والتي قد تؤدي إلى تدهور ورق البردي وإتلافه، وكان المصريون القدماء يستخدمون في الكتابة أحبارا ثابتة من الكربون والهيماتيت الأحمر، وهي غير قابلة للذوبان في الماء ومقاومة لتأثيرات الضوء، مما يضمن بقاء الكتابة مقروءة حتى اليوم.

وكان للطريقة التي تم بها استخدام أوراق البردي في البداية تأثيرا كبيرا على حالة حفظها، مثلا: كتب الموتى التي كانت تصاحب المومياء أثناء الدفن.، والتي وصلت إلينا في حالة سليمة بشكل ملحوظ.

وقدمت استعادة مخطوطات البردي السليمة لمحات مثيرة عن الماضي، وكشف عن طبيعة المجتمع في مصر القديمة ومعتقداته وعاداته، حيث استخدم ورق البردي لكتابة التراتيل، والنصوص الدينية، والعظات الروحية، والرسائل، والوثائق الرسمية، وقصائد الحب، والنصوص الطبية والعلمية، والسجلات، والأدب.

بردية “إدوين سميث” الجراحية، هي واحدة من أقدم النصوص الطبية التي تم اكتشافها مكتوبة على ورق البردي، وتوفر البردية التي يعود تاريخها إلى نحو عام 1600 قبل الميلاد، رؤى تفصيلية حول العمليات الجراحية والمعرفة الطبية في ذلك الوقت، كما تحتوي هذه الأطروحة الفريدة على أقدم الأوصاف المعروفة لعلامات وأعراض إصابات العمود الفقري والحبل الشوكي.

وكانت اللفائف تتراوح من صفحة واحدة إلى أكثر من 100 صفحة، مثلا بردية “إيبرس” الشهيرة يبلغ طولها 110 صفحة على لفافة يبلغ طولها 20 مترًا، وهي عبارة عن نص طبي يتم الاستشهاد به بشكل روتيني كدليل على تقدم الممارسات الطبية في مصر القديمة، إلى جانب مخطوطات البردي الأخرى مثل بردية كاهون لأمراض النساء، وبردية لندن الطبية.
وتشهد هذه المخطوطات على مدى المعرفة والمهارة الطبية الواسعة للمصريين القدماء وكيفية تعاملهم في مختلف المجالات الطبية من الإصابات الطفيفة إلى الحالات الخطيرة مثل السرطان وأمراض القلب، كما تم تناولت بعض النصوص الطبية حالات القلق، وكذلك موضوعات مثل الإجهاض وتحديد النسل وتشنجات الدورة الشهرية والعقم.

واستخدمت أوراق البردي أيضا في كتابة النصوص الأدبية مثل حكاية البحار الغريق وسنوحي والفلاح الفصيح وغيرها من القصص، وهكذا كان ورق البردي عنصرا أساسيا في حياة المصري القديم من الطعام مرورا باستخدامات الحياة اليومية وصولا إلى تدوين أسرار أكبر حضارات العالم القديم وحفظ علومه ومعارفه لتصل إلى العالم الحديث بعد آلاف السنين وتصبح شاهدة على عظمة الحضارة المصرية القديمة.