بقلم-شاهيناز جلال
تحظى “وانجاري ماثاي” بشهرة دولية كبيرة، ومسيرتها حافلة بالانجازات المشرفة، فهي أول سيدة أفريقية تحصل على جائزة نوبل للسلام، تقديرا لجهودها العظيمة، بعد أن وهبت حياتها للدفاع عن البيئة، والنضال من أجل الديمقراطية والحرية في بلادها كينيا، وزراعة أشجار السلام في القارة السمراء، وأطلق عليها شعبها “أم الأشجار” بعد نجاحها في تأسيس حلمها “حركة الحزام الأخضر”، لمنع طمس الهوية الخضراء لأرض بلادها، ونجاح زراعة مايقرب من 30 مليون شجرة.
ولاتزال وانجاري إلى الآن مصدرا ملهما لسيدات كثيرات في أفريقيا لما عرف عنها من صلابتها وشجاعتها في مسيرتها ونجاحها في إنقاذ آلاف النساء الفقيرات في كينيا من الفقر وتوفير فرص عمل لهن ولأسرهن، والوقوف في وجه الاستعمار الغربي ضد عملية نهب ثروات بلادها، كما كانت لها العديد من المواقف الشجاعة التي تحسب لها في الوقوف أمام قرارات الحكومة الكينية بإزالة الأشجار للاستفادة من أخشابها، فبفضل نضالها حافظت كينيا على خضرتها وغاباتها.
وتعتبر ماثاي من أبرز الناشطين البيئيين والحقوقيين في القرن العشرين؛ لمساهماتها الفعالة في الدفاع عن حقوق الإنسان، وحقوق النساء بصفة خاصة وتمكينهن في أفريقيا ما جعلها في النهاية تحظى باحترام كبير من أبناء شعبها ومازال اسمها حاضرا في الأوساط البيئية وحقوق الانسان.
مسيرة علمية ملهمة
ولدت وانجاري ماثاي في إبريل 1940، ببلدة ريفية بمقاطعة نييري في كينيا، وبدأت رحلتها مع التفوق والتحدي مبكرا فكانت وانجاري من المتميزات دائما خلال مسيرتها العلمية منذ صغرها وكان النجاح حليفها، فتمكنت خلال فترة دراستها قبل الجامعية من اتقان اللغة الإنجليزية، والحصول بعد ذلك على منحة في المدرسة الثانوية بكينيا، لفوزها بالمركز الأول على صفها، في الوقت الذي كان من النادر على النساء في بلادها من الحصول على الشهادة الثانوية.
وفي المرحلة الجامعية كانت ماثاي من الطلاب المتميزين الذين تم اختيارهم للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتمكَّنت من حصد درجة الماجستير في العلوم من جامعة بيتسبرج عام 1966، وعادت إلى بلادها لتستكمل مشوارها العلمي وتحظى بموقع متقدم فيه، حيث حصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة نيروبي عام 1971، وهي مازالت في الحادية والثلاثين من عمرها، لتصبح أول امرأة من شرق ووسط أفريقيا تنال درجة الدكتوراه.
تدرَّجت بعد ذلك الباحثة ماثاي في المناصب الوظيفية وتمت ترقيتها لتكون أستاذة في قسم التشريح، وبعد مسار أكاديمي مميز أصبحت رئيسة قسم التشريح البيطري في عام 1976، ومساعد بروفيسور عام 1977، وكانت أول امرأة تصل إلى هذه المناصب العلمية الرفيعة في المنطقة.
تأسيس حركة الحزام الأخضر
لطالما حلمت الناشطة البيئية وانجاري ماثاي كثيرا بإعادة زراعة الأشجار لحل مشكلة التصحر في بلادها وإعادة الحياة مرة أخرى إلى غابات كينيا، والعمل على توفير فرص عمل للنساء الريفيات، فكان هذا الحلم هو شغلها الشاغل الذي تسعى لتحقيقه على أرض الواقع بالرغم من العقبات والصعوبات التي واجهتها.
قامت وانجاري ببلورة الفكرة وتقدمت للمجلس الوطني للنساء في كينيا بمقترح مفصل لمبادرة تهدف إلى حماية البلاد من التصحر، وتوفير سبل عيش للنساء وتحسين مستوى حياتهن، من خلال تشجيع كل امرأة في المناطق المتضررة من إزالة الأشجار والغابات على زراعة شجرة بيدها مقابل المال، وبالفعل تم تأسيس حركة الحزام الأخضر في عام 1977 بالعاصمة الكينية نيروبي، والعمل على إعادة زراعة الأشجار المحلية التي أبادها الاستعمار، ودمرتها الشركات المملوكة للأجانب الذين قاموا بإزالة مناطق شاسعة من الأشجار المحلية، بهدف بيع الأخشاب للربح، وزراعة الأراضي بمحصولي البن والشاي فقط، ما كان سببًا رئيسيًا في الدمار البيئي والتصحر في كينيا.
وبفضل رؤية وانجاري ماثاي استطاعت أن تجمع حولها آلاف النساء اللاتي قمن بزراعة أكثر من 30 مليون شجرة في أنحاء كينيا، وعملت على توفير مصادر للدخل إضافية لهن، وامتدت بعد ذلك فكرة زراعة الأشجار إلى دول شرق ووسط أفريقيا، وبلغ عدد الأشجار المزروعة بفضل حملة “حركة الحزام الأخضر” أكثر من 50 مليون شجرة في أقل من 20 عامًا؛ حيث عرضت المنظمة هذا النهج على أفراد من بلدان أفريقية أخرى، وقد أنشأ بعض هؤلاء الأفراد مبادرات مماثلة لزراعة الأشجار في بلدانهم واستخدموا بعض أساليب حركة الحزام الأخضر لتحسين جهودهم وحتى الآن، نجحت بعض البلدان في إطلاق مثل هذه المبادرات في أفريقيا مثل (تنزانيا، وغندا، وملاوي، وإثيوبيا، وزيمبابوي)، وتوسعت حركة الحزام الأخضر لتشمل العديد من الدول بالقارة السمراء.
نجاح لا يعرف المستحيل
لم يعد تولي المرأة للمناصب القيادية في كينيا حلما بل أصبح حقيقة بعد تولي وانجاري ماثاي العديد من المناصب التي كانت حكرا على الرجال في بلدها، فلم تكتفي بنجاحها في مسيرتها العلمية، بل انخرطت في العمل الحقوقي والسياسي وتولت العديد من المناصب القيادية، فكانت ناشطة في المجلس الوطني للمرأة في السبعينيات من القرن الماضي، ثم تولت رئاسة المجلس الوطني في الفترة بين (1981-1987)، كما رشحت نفسها في فترة الثمانينيات للانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الكيني دانيال آراب موي، وانتُخبت في البرلمان الكيني عام 2002 حيث فازت بعضوية البرلمان بأغلبية ساحقة بنسبة 98% من الأصوات، إضافة إلى توليها منصب نائب وزير البيئة ببلادها في حكومة الرئيس مواي كيباك، وعُينت رسولًا للسلام التابع للأمم المتحدة في ديسمبر 2009، بعد حصولها على جائزة نوبل للسلام.
جائزة نوبل تتوج مسيرتها
طالما ارتبط اسم الناشطة وانجاري بالجوائز والأوسمة، وأبرز هذه التكريمات على الإطلاق التي توجت بها مسيرتها كناشطة في حقوق الإنسان وواحدة من رائدات العمل البيئي هو فوزها بجائزة نوبل للسلام في عام 2004، لتصبح أول امرأة أفريقية تحصل على أرفع جائزة تقديرية في العالم، بسبب جهودها من أجل التنمية المستدامة والديموقراطية والسلام، ووصفتها لجنة نوبل: بـ “إنها تفكر عالميًا وتعمل محليًا”.
وقالت الناشطة الحقوقية وانجاري في خطابها في حفل مراسم تسلمها جائزة نوبل: موجهة كلامها إلى الشعوب الأفريقية: “أعلم أن هذا الخبر يشجع المواطنين الأفارقة في كل مكان. رفاقي الأفارقة، بينما نحتضن هذا التقدير دعونا نستخدمه لتكثيف التزامنا تجاه شعوبنا، للحد من الصراعات والفقر ومن ثم تحسين جودة حياتهم. دعونا نتبنى الحكم الديمقراطي ونحمي حقوق الإنسان ونحمي بيئتنا. أنا واثقة من أننا سنرتقي إلى مستوى الحدث. لطالما كنت موقنة بأن الحلول لمعظم مشاكلنا يجب أن تأتي من جانبنا”.
نهاية مسيرة نضال
استمرت وانجاري ماثاي أو “سيدة الأشجار” الرائعة كما يلقبها الكينيون، في الدفاع عن قضايا بلادها بكل ما أوتيت من قوة، بالرغم من كل العقبات التي واجهتها، حتى رحلت عن عالمنا، يوم 25 سبتمبر عام 2011، عن عمر يناهز الـ 71 عاما بعد صراع طويل مع السرطان، لتنهي مسيرة طويلة من الكفاح من أجل الديمقراطية في كينيا، والدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن يبقى أثرها موجودًا كمصدرا ملهمًا للعديد من النساء في العالم بأكمله، ويسجل التاريخ اسمها بين صفحاته الخالدة كواحدة من رائدات القارة السمراء، التي لعبت دورا محوريا في تاريخ بلادها وإعادة تشكيل وعيه.