أماني ربيع
برزت الناشطة أندريه بلوين في الخمسينيات والستينيات كشخصية محورية في النضال من أجل أفريقيا الحرة هذه المرأة القوية التي قضت سنواتها الأولى في دار للأيتام، ارتقت لتصبح مستشارة لأول رئيس وزراء لجمهورية الكونغو الديمقراطية.
قاتلت بلوين من أجل الحرية، وتبادلت الأفكار مع بعض زعماء أفريقيا الأسطوريين بعد الاستعمار، مثل: كوامي نكروما في غانا، وسيكو توري في غينيا، وأحمد بن بيلا في الجزائر، ورغم ذلك لا يعلم الكثيرون أي شيء عنها.
كانت تُدعى ذات يوم “المرأة الأكثر خطورة في أفريقيا”. لكن أندريه بلوين، التي شاركت في نضالات متعددة من أجل الاستقلال في جميع أنحاء أفريقيا في الخمسينيات والستينيات، وصفت نفسها بأنها امرأة أفريقية في مهمة لتحرير قارتها من الحكم الاستعماري، وأطلقت عليها الصحافة الدولية لقب “ملهمة لومومبا”، بينما كشفت مذكراتها “وطني أفريقيا: سيرة ذاتية للباشوناريا السوداء” عن امرأة آمنت ببساطة بمبدأين: التحرر والتضامن.
طفولة تعيسة
ولدت بلوين عام 1921 في أوبانجي-شاري (جمهورية أفريقيا الوسطى حاليًا)، وكانت الابنة الوحيدة لتاجر فرنسي وابنة زعيم قبلي شاب من جمهورية أفريقيا الوسطى، التقى الاثنان عندما مر والد بلوين بقرية والدتها لبيع السلع، قالت بلوين عن والديها: “حتى اليوم، لا تزال قصة والدي ووالدتي، على الرغم من أنها تسبب لي الكثير من الألم، تدهشني”.
كانت علاقة الوالدين غير المتوقعة في ذلك الوقت، بحسب مذكرات بلوين، نعمة ولعنة، ووفقًا للراهبات اللاتي ربينها، ستُعاقب بلوين على زواجهما، للتكفير عن “شر” والدها و”الطبيعة البدائية” لوالدتها.
عندما كانت بلوين في الثالثة من عمرها فقط، وضعها والدها في دير للفتيات من أعراق مختلطة، كان يديره راهبات فرنسيات في الكونغو برازافيل المجاورة، كانت هذه ممارسة شائعة في المستعمرات الأفريقية الفرنسية والبلجيكية، حيث يُعتقد أن الآلاف من الأطفال المولودين للمستعمرين والنساء الأفريقيات كانوا يُرسلون إلى دور الأيتام ويُفصلون عن بقية المجتمع، وفقا لموقع هيئة الإذاعة البريطانية.
كتبت بلوين: “كانت دار الأيتام بمثابة نوع من سلة المهملات لنفايات هذا المجتمع الأسود والأبيض: أطفال الدم المختلط الذين لا ينتمون إلى أي مكان”.
كانت تجربة بلوين في دار الأيتام سلبية للغاية، وذكرت أن الأطفال في المؤسسة كانوا يتعرضون للضرب والجلد وسوء التغذية والإساءة اللفظية، لكنها كانت عنيدة، فقد هربت من دار الأيتام في سن الخامسة عشرة بعد أن حاولت الراهبات إجبارها على الزواج، وتزوجت بلوين في النهاية بإرادتها مرتين بعد ذلك.


مأساة شخصية تأخذها للسياسة
في عام 1946، كان ابنها البالغ من العمر عامين، رينيه، يتلقى العلاج في المستشفى من الملاريا في جمهورية أفريقيا الوسطى، وكان مختلط العرق مثل والدته، ولهذا رفضت السلطات الفرنسية الاستعمارية، إعطاءه الدواء ليموت الطفل في سن الثانية، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
وكتبت عن ذلك في مذكراتها: “لقد سيس موت ابني حياتي أكثر من أي شيء آخر”، مضيفة أن الاستعمار لم يعد مسألة تتعلق بمصيرها، وإنما نظام شرير امتدت مخالبه إلى كل مرحلة من مراحل الحياة في أفريقيا.
بعد وفاة رينيه، انتقلت مع زوجها الثاني إلى غينيا، وهي دولة في غرب إفريقيا يحكمها الفرنسيون أيضًا، كانت غينيا في ذلك الوقت، في خضم “عاصفة سياسية”، بحسب ما كتبت في مذكراتها، حيث وعدت فرنسا البلاد بالاستقلال، لكنها طلبت أيضًا من الغينيين التصويت في استفتاء على ما إذا كان ينبغي للبلاد الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية مع فرنسا أم لا.
أراد الفرع الغيني للحركة الأفريقية الموحدة التجمع الديمقراطي الأفريقي (RDA) أن تصوت البلاد بـ “لا”، بحجة أن البلاد بحاجة إلى التحرير الكامل، في عام 1958، انضمت بلوين إلى الحملة، وقادت سيارتها في جميع أنحاء البلاد لإلقاء الكلمات في التجمعات، وبعد عام، حصلت غينيا على استقلالها بالتصويت بـ “لا” وأصبح سيكو توري، زعيم التجمع الديمقراطي في غينيا، أول رئيس للبلاد.
في هذه المرحلة، بدأت بلوين في تطوير نفوذ كبير في الدوائر الأفريقية ما بعد الاستعمارية، وكتبت أنه بعد استقلال غينيا، استخدمت هذا النفوذ لتقديم المشورة للرئيس الجديد لجمهورية أفريقيا الوسطى بارثيليمي بوغاندا، وإقناعه بالتراجع عن خلاف دبلوماسي مع زعيم الكونغو برازافيل ما بعد الاستقلال، فولبيرت يولو، لكن المشورة لم تكن كل ما كان لدى بلوين لتقديمه للقارة التي كانت في ذلك الوقت تتغير بوتيرة سريعة.
في إحدى أمسيات يناير عام 1960، بمطعم في كوناكري، عاصمة غينيا، سمعت بلوين رجالاً على طاولة أخرى يتحدثون اللينجالا، وهي لغة تعرفها منذ شبابها، وكانوا سياسيين قوميين من الكونغو البلجيكية، جاءوا إلى المدينة للتواصل مع حلفاء غينيا.
ومن خلالهم، التقت بلوين بأنطوان جيزينجا، زعيم حزب التضامن الأفريقي، أحد أكبر الأحزاب السياسية في الكونغو البلجيكية، التي ستصبح لاحقا الكونغو الديموقراطية، والذي حثها على مساعدته في حشد النساء الكونغوليات في الكفاح ضد الحكم الاستعماري البلجيكي.
وفي مذكراته التي كتبها عام 2011 تحت عنوان “حياتي وكفاحي”، يتذكر جيزنجا كيف شعر بالدهشة لأن “هذه الأم لثلاثة أطفال، أكبرهم كان في العشرين من عمره وأصغرهم في الرابعة، لا تزال لديها الرغبة الشديدة في خدمة القضية الأفريقية”، وأصبحت رئيسة الجناح النسائي للحزب.


لقاء لومومبا
في عام 1960، وبتشجيع من نكروما، سافرت أندريه بلوين بمفردها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، وانضمت إلى نشطاء تحريريين بارزين من الذكور، مثل بيير موليلي وأنطوان جيزينجا، على الطريق، في حملة عبر مساحة البلاد الممتدة على مساحة 2.4 مليون كيلومتر مربع، وكانت شخصية لافتة للنظر، حيث كانت تسافر عبر الأدغال بشعرها المصفف وفساتينها الأنيقة ونظاراتها الشمسية.
في كاهيمبا، بالقرب من الحدود مع أنجولا، أوقفت بلوين وفريقها حملتهم للمساعدة في بناء قاعدة لمقاتلى الاستقلال الأنجوليين الذين فروا من السلطات الاستعمارية البرتغالية، وخاطبت حشودًا من النساء، وشجعتهن على الدفع من أجل المساواة بين الجنسين وكذلك استقلال الكونغو.
كانت بلوين جيربيلات من الشخصيات التي تتمتع بالذكاء والقدرة على التعبئة والخطابة، لكن في نظر منتقديها الغربيين كانت متطفلة خطيرة تجر الساسة إلى اليسار، وكانت إدارة أيزنهاور قلقة بشأن صلاتها المزعومة بالشيوعية، ووصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها “مدافعة عن القومية الأفريقية المتطرفة”.
وفي عام 1960، صرح أحد المسؤولين البلجيكيين لصحيفة أخرى بأنها “امرأة جميلة، ولكنها أيضا امرأة خطيرة، وربما الأكثر خطورة في أفريقيا كلها”.
جذبت بلوين المزيد من الاهتمام عندما التقت بلومومبا، الذي وصفته في مذكراتها، بأنه رجل “رشيق وأنيق” “كان اسمه مكتوبًا بأحرف من ذهب في سماء الكونغو”، عندما حصلت البلاد على استقلالها في عام 1960، أصبح لومومبا أول رئيس وزراء للبلاد، وكان عمره 34 عامًا فقط، واختار بلوين كرئيسة للبروتوكول وكاتبة للخطابات، وقد عمل الثنائي معًا عن كثب حتى أن الصحافة أطلقت عليهما لقب “لوموم بلوين”.
وصفت مجلة “تايم” الأمريكية بلوين بأنها “امرأة جميلة تبلغ من العمر 41 عامًا” “إرادتها الفولاذية وطاقتها السريعة تجعلها مساعدة سياسية لا تقدر بثمن”، لكن لسوء الحظ، ضربت سلسلة من الكوارث فريق لوموم بلوين،والحكومة التي تشكلت حديثًا، بعد أيام قليلة من توليهما منصبهما.
أولاً، ثار الجيش ضد قادته البيض البلجيكيين، مما أشعل فتيل العنف في جميع أنحاء البلاد، ثم دعمت بلجيكا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الانفصال في كاتانجا، وهي منطقة غنية بالمعادن كانت للدول الغربية الثلاث مصالح فيها، وعادت قوات المظلات البلجيكية إلى البلاد لاستعادة الأمن، ووصفت بلوين الأحداث بأنها “حرب أعصاب”، حيث “ينظم الخونة أنفسهم في كل مكان”.
وكتبت: “كان لومومبا بطلاً حقيقياً في العصر الحديث”، لكن “أولئك الذين يتمتعون بأفضل الإيمان هم في الغالب الأكثر خداعاً بقسوة”.
وبعد سبعة أشهر من تولي لومومبا السلطة، استولى رئيس أركان الجيش جوزيف موبوتو على السلطة، وفي السابع عشر من يناير عام 1961، اغتيل لومومبا رمياً بالرصاص، بدعم ضمني من بلجيكا، ومن المحتمل أن تكون المملكة المتحدة متواطئة، في حين أن الولايات المتحدة كانت قد خططت مؤامرات سابقة لقتل لومومبا، خوفاً من تعاطفه مع الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة.
في كتابها، قالت بلوين إن الصدمة والحزن الناجمين عن وفاة لومومبا أفقدتها القدرة على الكلام، كانت تعيش في باريس وقت الاغتيال، بعد تم نفيها بعد انقلاب موبوتو، ولضمان عدم تحدثها إلى الصحافة الدولية، أجبرت السلطات أسرتها، التي انتقلت إلى الكونغو، على البقاء في البلاد “كرهائن”.


إحباط في المنفى
وفي أثناء وجود بلوين في المنفى، نهب الجنود منزل عائلتها وضربوا والدتها بوحشية بمسدس، مما أدى إلى إتلاف عمودها الفقري بشكل دائم، لكن تمكنت العائلة أخيراً من الانضمام إليها بعد أشهر من الانفصال، وقضوا فترة وجيزة في الجزائر، حيث عرض عليهم أول رئيس للبلاد بعد الاستقلال، أحمد بن بيلا، اللجوء، ثم استقروا في باريس، وظلت بلوين منخرطة في العمل القومي الأفريقي من بعيد “في شكل مقالات واجتماعات شبه يومية”.
عندما بدأت بلوين في كتابة سيرتها الذاتية في سبعينيات القرن العشرين، كانت لا تزال تكن احتراماً كبيراً لحركات الاستقلال التي كرست نفسها لها، ومع ذلك، شعرت باليأس الشديد لأن أفريقيا لم تصبح “حرة”، كما كانت تأمل، وعزفت عن قراءة الصحف، لأن الأخبار القادمة من أفريقيا أصابتها بالإحباط.
وكتبت: “عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء، أعتقد أن أصعب شيء علينا أن نتحمله خلال النضال الطويل من أجل دولة قابلة للحياة كان إدراك أن الغرباء ليسوا هم الذين ألحقوا الضرر بأفريقيا أكثر من غيرهم، بل إرادة الشعب المشوهة وأنانية بعض قادتنا”.
وكانت بلوين مقتنعة، بأن المصالح الاستعمارية الجديدة التي تعتمد على الحكام المحليين والخونة الوطنيين “سوف تخذلنا دائماً، إنهم أسوأ أعدائنا”.
حزنت بلوين على موت حلمها، لدرجة أنها رفضت تناول الدواء لعلاج السرطان الذي كان ينهش جسدها، وتوفيت في باريس في التاسع من أبريل عام 1986 عن عمر يناهز 65 عاماً، ووفقاً لابنتها إيف، استقبل العالم وفاة والدتها بـ “لامبالاة كئيبة”.
في خاتمة السيرة الذاتية لوالدتها، التي أعيد نشرها في يناير من هذا العام، كتبت إيف: “اعلم أنك قد تموت مرتين، الموت الجسدي أولاً… النسيان هو موت ثانٍ”، حيث نسى العالم بلوين وكفاحها من أجل استقلال أفريقيا في مرحلة حرجة من تاريخ القارة، وفي محاولة لتصحيح هذا الظلم، ظهرت رحلة بلوين في الفيلم الوثائقي الذي تم ترشيحه لجائزة الأوسكار عام 2024 بعنوان “موسيقى تصويرية لانقلاب”.
أعادت إيف، نشر مذكرات بلوين “بلدي أفريقيا”، بعد أن ظلت خارج الطباعة لعقود، لتُنشر قصة بلوين غير العادية للمرة الثانية، لكن هذه المرة في عالم يُظهر اهتماماً أكبر بالمساهمات التاريخية للنساء، وسيتعرف القراء الجدد على الفتاة التي انتقلت من كونها مختبئة في ظل النظام الاستعماري، إلى النضال من أجل حرية ملايين الأفارقة.