كتبت – أسماء حمدي
اللغات الأصلية تمثل جوهر الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب، فهي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل تُعد حاملًا للذاكرة الجماعية، والتقاليد، والقيم، والأساطير التي تشكل حياة المجتمعات عبر الأجيال.
وفي القارة السمراء، تواجه العديد من هذه اللغات خطر الاندثار، نتيجة لعوامل متعددة أبرزها العولمة التي تشجع على استخدام اللغات العالمية على حساب اللغات المحلية، ما يؤدي إلى تراجع أعداد متحدثيها بشكل ملحوظ.
لذلك، تسعى بعض المجتمعات والنشطاء في أفريقيا إلى توثيق هذه اللغات وإحيائها باستخدام أدوات حديثة، مثل التكنولوجيا والتوثيق الرقمي، بهدف الحفاظ على إرث الأجداد وضمان استمرارية الهوية الثقافية للأجيال القادمة.
لغة الإيجبو
يفقد العالم كل عام جزءًا من لغاته السبع آلاف. يتوقف الآباء عن التحدث بلغاتهم الأصلية مع أطفالهم، تُنسى الكلمات، وتفقد المجتمعات القدرة على قراءة نصوصها الخاصة. يتسارع هذا الفقدان بشكل كبير. قبل عقد من الزمن، كانت تندثر لغة واحدة كل 3 أشهر بينما أصبح المعدل الآن لغة واحدة كل 40 يومًا، أي ما يعادل اندثار 9 لغات سنويًا.
توتشي بريشوس، وهي نيجيرية تعيش في أبوجا وهي من نشطاء الحفاظ على اللغات المهددة، تقول: “يؤلمني جدًا أن أرى لغة تندثر، لأنه ليس الأمر متعلقًا باللغة فقط، بل بالناس أيضًا. إنه يتعلق بالتاريخ والثقافة المرتبطة بها. وعندما تختفي، يختفي معها كل شيء.”
توضح بريشوس أن الجانب المجتمعي هو ما دفعها للانضمام إلى جهود إنقاذ لغة الإيجبو، وهي لغة أفريقية كانت التوقعات تشير إلى إمكانية انقراضها بحلول عام 2025. وتعتبر رئيسية لشعب الإيجبو في جنوب شرق نيجيريا، ويتحدث بها حوالي 20 إلى 25 مليون شخص، مما يجعلها واحدة من أكثر اللغات انتشارًا في البلاد.
الحفاظ على التراث
تصف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) التوقعات بانقراض نصف لغات العالم بحلول نهاية القرن بأنها متفائلة.
في حين تختفي بعض اللغات مع وفاة آخر متحدثيها، فإن آلاف اللغات الأخرى مهددة لأنها لم تعد تُستخدم بشكل كافٍ، سواء في الحياة اليومية أو في الأماكن الرسمية مثل المدارس وأماكن العمل.
ومع ذلك، بدأت مجتمعات مختلفة في مقاومة هادئة للحفاظ على تراثها الثقافي، الذي أصبح مهددًا بسبب هيمنة اللغات الأكثر انتشارًا عالميًا، مثل الإنجليزية، أو اللغات الرسمية في بلدانها.
إنقاذ اللغة
تشير الناشطة النيجيرية إلى أن لغة الإيجبو لا تُستخدم في المدارس ونادرًا ما تُكتب، مما يسرّع من اختفائها. كما أن بعض الناس يشعرون بالخجل من استخدامها.
وفي حديثها لصحيفة “الجارديان” البريطانية، قالت بريشوس أنها ترى أن إنشاء سجلات واسعة للكلمات ومعانيها، وطريقة كتابتها واستخدامها، هو أمر جوهري للحفاظ على “الإيجبو”.
توثق بريشوس ثقافتها الشفوية عن طريق تسجيل مقاطع فيديو تتضمن نصوصًا وترجمات. تقول: “توثيق الأغاني الشعبية كان طريقتي لفهم ثقافتي والمساهمة في الحفاظ عليها.” وقد سجلت عشرات المقاطع من هذا النوع.
وتضيف: “من المهم التوثيق وجعل المحتوى متاحًا للجميع، وليس فقط حفظه في مكتبة ما. الثقافة الشفوية تختفي، حيث تميل الأجيال الجديدة إلى الاستماع للموسيقى الحديثة بدلًا من الجلوس معًا والغناء.”
توثيق اللغات
تستخدم بريشوس مجموعة من الأدوات لإنقاذ لغة الإيجبو، مثل تحميل مقاطع فيديو للأشخاص الذين يتحدثون باللغة. وتُعد ويكيبيديا وسيلة مفضلة للنشطاء لتحميل الوسائط وبناء قواميس فعالة ومنخفضة التكلفة.
تركز منظمة “ويكيتونجز” على مساعدة النشطاء في توثيق اللغات من خلال موارد جماعية مثل القواميس ومقالات ويكيبيديا بلغات بديلة. وتقول المنظمة إنها دعمت توثيق حوالي 700 لغة بهذه الطريقة.
الذكاء الاصطناعي
هناك أيضًا جهود لاستخدام الذكاء الاصطناعي في توثيق اللغات من خلال معالجة النصوص وتغذية الدردشة الآلية بها، رغم وجود مخاوف أخلاقية بشأن “سرقة” المواد المكتوبة لأغراض التدريب.
بالإضافة إلى ذلك، ينشئ النشطاء كتبًا ومقاطع فيديو وتسجيلات يمكن نشرها على نطاق واسع. كما أن محطات الإذاعة لعبت دورًا كبيرًا في تقديم خدمات باللغات المحلية، وكذلك استخدام الكتب المترجمة، والكتب التاريخية والسياسية والتعليمية، يمكن أن يسرّع بشكل كبير من عملية تعليم المجتمعات.
وتضيف بريشوس: “إذا أولينا الأولوية لتعليم لغتنا، خاصة للأجيال الجديدة، يمكننا منع فقدان كل من التعليم والهوية الثقافية للأجيال القادمة. وإلا سيواجهون خطر فقدان اللغة والتعليم معًا.”
نتائج ملموسة
لكن بعد جهود الحفظ، يواجه النشطاء تحديًا آخر يتمثل في إقناع الناس باستخدام اللغة، وهو أمر صعب للغاية.
تقول بريشوس إنه على الرغم من أن الإيجبو تعد واحدة من أكبر اللغات في نيجيريا، فإن العديد من الآباء يعتقدون أن الإنجليزية وحدها هي المفيدة لمستقبل أطفالهم.
وتوضح: “كان الآباء يرون أنه إذا لم تتحدث الإنجليزية، فلن تنتمي للمجتمع، وستشعر وكأنك لا تعرف شيئًا. لذا، توقف الناس عن نقل اللغة إلى أطفالهم، كانوا يقولون إن الإيجبو لن تأخذك إلى أي مكان.”
لكنها تؤكد أن الجهود المبذولة لإنقاذ اللغة قد نجحت، مضيفة أنها تشعر بالسعادة لرؤية اللغة تزدهر مجددًا. وتختتم قائلة: “أدركت أنه يمكن أن تكون اللغة مهددة بالانقراض، لكن الأشخاص الذين يتحدثونها يمكنهم القتال من أجل بقائها. لأن عام 2025 قد جاء بالفعل، والإيجبو بالتأكيد لن تنقرض.”