كتبت – أسماء حمدي
بجسدها النحيل، وعلى وجهها آثار ندوب خلفها الرصاص المتطاير في خضم القتال، حملت كونستانس قنبلة صاروخية وهي في قلب المعركة ضد متمردي حركة “إم 23” المدعومين من رواندا.
كانت كونستانس تبلغ من العمر 13 عامًا فقط عندما تركت منزلها في تلال شمال كيفو، شرقي جمهورية الكونغو الديمقراطية، لتنضم إلى إحدى الميليشيات المسلحة. من مخيم للنازحين قرب العاصمة الإقليمية غوما، تروي بحزن: “ذهبت إلى الحرب.. كانت كابوسًا”.
ضحايا الفقر
كانت كونستانس، التي تبلغ الآن 14 عامًا، قد انضمت العام الماضي إلى تحالف الوطنيين من أجل الكونغو الحرة ذات السيادة (APCLS)، إحدى أكبر الجماعات المسلحة في المنطقة، معتقدة أن ذلك قد يخفف من وطأة الفقر المدقع الذي كانت تعيشه في قريتها. لكن الواقع كان أبعد ما يكون عن أحلامها، فقد أُجبرت على سرقة الهواتف لكسب المال، وتعرضت للجلد على يد مسلحين أكبر سنًا بسبب مخالفات بسيطة.
في محاولة يائسة للهروب من الخطر والإساءة، انتهزت كونستانس فرصة إرسالها إلى مكان منعزل، فهربت إلى غوما، حيث وجدت عائلتها في مخيم للنازحين. تقول كونستانس بصوت مثقل بالأسى: “لقد عانيت من التعذيب. أريد فقط أن تنتهي الحرب”.


كادوجوس
لعقود من الزمان، ظلت منطقة شمال كيفو في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية مسرحًا للصراعات المسلحة، حيث تشكلت ميليشيات عديدة من بقايا الحروب الإقليمية التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية الجديدة. خلال تلك الفترة، اكتسبت هذه الجماعات سمعة سيئة بسبب تجنيدها للأطفال، الذين يُعرفون باسم “كادوجوس”، أي “الصغار” باللغة السواحيلية.
ورغم أن هذه الممارسة لم تختف تمامًا، فإن خبراء يشيرون إلى تزايدها بشكل ملحوظ منذ اندلاع صراع حركة إم 23 في أواخر عام 2021. إذ تمكن المتمردون، بقيادة أقلية التوتسي، من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي في شمال كيفو، ومحاصرة مدينة غوما، حيث يعيش أكثر من نصف مليون نازح في أوضاع إنسانية بائسة.
وتُتهم رواندا بدعم حركة إم 23 من خلال إمدادها بالقوات والأسلحة المتطورة. ووفقًا لتقديرات خبراء الأمم المتحدة، ينتشر في المنطقة ما بين 3000 و4000 جندي رواندي، ما يعمق الأزمة ويزيد من تعقيداتها.


انتهاكات جسيمة
ردًا على الأزمة المتفاقمة، لجأ جيش الكونغو الديمقراطية، الذي يعاني من ضعف القدرات، إلى تشكيل تحالفات مع الميليشيات المحلية. إلا أن جماعات حقوق الإنسان تتهم العديد من هذه الميليشيات بارتكاب انتهاكات جسيمة، بما في ذلك تجنيد الأطفال، وهي ممارسة منتشرة على نطاق واسع في المنطقة.
ووفقًا لتقرير صادر عن خبراء الأمم المتحدة في يوليو الماضي، فإن جميع الجماعات المسلحة في الكونغو جندت الأطفال “بمعدلات غير مسبوقة”. وتشمل هذه الجماعات حركة إم 23، التي دربت أطفالًا لا تتجاوز أعمارهم 10 سنوات على حمل السلاح.
طفولة مسروقة
تقدر وكالة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، أن 30% من أعضاء الجماعات المسلحة في الكونغو الديمقراطية هم أطفال. وبين يناير ويونيو من هذا العام، تمكنت الوكالة من مساعدة 2021 طفلًا على إعادة الاندماج بعد تحريرهم من الميليشيات.
لكن هذه الإحصائيات الرسمية تعكس فقط الأطفال الذين تم إنقاذهم عبر القنوات الرسمية، ولا تشمل أولئك الذين فروا دون الإبلاغ، أو الذين ما زالوا محتجزين لدى الميليشيات.

وتقول مديرة منظمة “وور تشايلد” في الكونغو الديمقراطية، ماري سودني ريفيت، إن العدد الفعلي للأطفال الجنود أعلى بكثير مما ورد في التقارير، مضيفة: “من الواضح أن الأرقام في ارتفاع”، مشيرة إلى أن تصاعد الصراع وتدهور الأوضاع الاقتصادية يدفع الأطفال إلى أحضان الميليشيات. وتختتم بالقول: “الأطفال أصبحوا اليوم وقودًا للمدافع”.


واقع مأساوي
في أحد مخيمات النازحين بمدينة غوما، يعيش الآن 14 طفلًا، بينهم 3 فتيات و11 فتى، فروا مؤخرًا من الجماعات المسلحة. أكد معظمهم أن الفرار كان الخيار الوحيد للهروب من واقعهم المرير، بينما ذكر بعضهم أنهم تعرضوا لإطلاق النار أثناء محاولتهم الفرار، وفقًا لصحيفة الجارديان البريطانية.
يقول أحدهم، ويدعى مارتن، إنه انضم إلى إحدى الميليشيات في الـ13 من عمره بحثًا عن المال. إذ تعكس قصته واقعًا مأساويًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يعيش 75% من السكان بأقل من 2.15 دولار يوميًا (1.66 جنيه إسترليني)، وفقًا للبنك الدولي.
لكن حياة الميليشيات كانت أبعد ما تكون عن الأمان، يروي مارتن، الذي يبلغ من العمر الآن 17 عامًا، أنه كان ينام في العراء تحت المطر والطين، مع ندرة الطعام، والعقوبات الجسدية التي أصبحت روتينًا يوميًا. يضيف بحزن: “قُتل أحد أبناء عمي الذين انضموا معي إلى القتال. تساءلت لماذا أفعل هذا. لو مُتّ، لما عرف والداي حتى أين أنا”.
تجنيد القصر
يقول المحلل في مجموعة الأزمات الدولية بجمهورية الكونغو الديمقراطية، أونيسفور سيماتومبا، إن معظم الأطفال الذين ينضمون إلى الميليشيات ينتمون إلى أسر تعاني من فقر مدقع، مما يجعلهم أهدافًا سهلة للتجنيد.
ويضيف سيماتومبا، أن الميليشيات تستخدم في بعض الأحيان وسائل قسرية لتجنيد القصر في صفوفها، مشيرًا إلى أن مفهومهم عن الطفولة غالبًا ما يكون غير واضح ويعتمد على معايير غامضة وغير محددة. ويوضح: “يتم تحديد ذلك بناءً على حجم الطفل أو قدرته على حمل الأوزان الثقيلة، وليس على أساس العمر”.
يخضع بعض الأطفال الذين يتم إنقاذهم من الجماعات المسلحة لعملية تسريح رسمية وفقًا لإرشادات الأمم المتحدة. وتشمل هذه العملية حصولهم على وثائق قانونية تضمن عدم ملاحقتهم قضائيًا على أفعالهم السابقة، بالإضافة إلى إتاحة فرص لتلقي تدريب مهني يساعدهم على بدء حياة جديدة.


الناجون من الجحيم
موديستي، أحد هؤلاء الأطفال الناجين، اختُطف في نوفمبر 2023 للعمل كطاهٍ. بعد شهور من المعاناة، تمكن من الفرار في بداية هذا العام. يقول الصبي، البالغ من العمر 16 عامًا، وهو يتحدث من مركز للأطفال تديره منظمة غير حكومية محلية داخل مخيم للنازحين بالقرب من غوما: “فاتني عام دراسي كامل. ظللت أفكر في ذلك”.
ورغم أن العودة إلى قريته ليست خيارًا متاحًا بسبب سيطرة حركة إم 23 عليها، إلا أن العودة إلى المدرسة في غوما منحته شعورًا بالارتياح.
أما جيلبرت، البالغ من العمر 17 عامًا، فقد تمكن في العام الماضي من الفرار من إحدى الميليشيات العرقية للهوتو التي جندته قسرًا. بمساعدة عامل إغاثة في أحد مخيمات النازحين، حصل على الأوراق اللازمة التي وفرت له الحماية من الملاحقة القانونية. منذ ذلك الحين، تلقى تدريبًا مهنيًا كميكانيكي، مما أعاد إليه بعض الأمل.
ويقول جيلبرت، الذي كان يرتدي زيًا خاصًا بالعمل: “كنا مجرد كادوجو (أطفال صغار مجندين)، وكان بإمكان الآخرين استغلالنا كما يشاؤون. ولا أريد أن يمر أطفال آخرون بنفس التجربة”.