كتبت – أسماء حمدي
الفن في أفريقيا هو الحياة وروح القارة التي تنبض بالألوان والألحان والأشكال. حتى يكاد يُخيل للناظر أن أفريقيا وُلدت مع الفن على مهد واحد، حيث يتناثر مزيج من الألوان الصارخة في كل زاوية، تزين الشوارع وتُضفي عليها طابعًا فريدًا.
إن شهادة ميلاد الفن مُوقعة داخل هذه القارة السمراء، فلا تكاد تجد لحنًا أو عملًا فنيًا يخلو من جذور عميقة تمتد إلى عصور الإمبراطوريات الأفريقية التي أبدعت في استخدام الفن كوسيلة للتواصل، وسرد القصص، والتعبير عن الأفكار والمشاعر، وحولتها إلى لوحة حية، تحمل في طياتها إرثًا ثقافيًا ثريًا يُجسد جوهر الإنسان الأفريقي وعبقريته التي استمرت عبر الأجيال.
قارة الألف لون
ترتبط الثقافة الأفريقية في جوهرها ارتباطًا وثيقًا بالألوان، التي تعد وسيلة تعبير فنية قوية تجسد الهوية الثقافية للمجتمعات المختلفة عبر القارة. يظهر ذلك بوضوح في الأقمشة، الملابس، المنتجات، التماثيل، وحتى في العمارة، حيث تُستخدم الألوان بطريقة تعبر عن معانٍ عميقة وقيم ثقافية ورمزية.
من خلال درجات الألوان المختلفة والأنماط والزخارف المتنوعة، تجسد المجتمعات الأفريقية تجاربها وعاداتها. على الرغم من أن الألوان لغة غير منطوقة لكنها ترسم لوحة لسرد القصص، وتتحول لأداة لتعزيز الهوية الثقافية. فكل لون يحمل رسالة خاصة، وكل نمط يعبر عن حالة أو مناسبة معينة.
العمارة الأفريقية
تعتبر العمارة التقليدية الأفريقية مثالًا بارزًا على ذلك. إذ تعكس الألوان هوية المجتمعات المحلية، وتُستخدم في الزخارف والديكورات على الجدران والأبواب وحتى الأسقف، وغالبًا ما يتم استخراجها من الطبيعة المحيطة مثل الطين الأحمر، الفحم الأسود، والنباتات المحلية لتروي كل قبيلة قصصها الخاصة وتعبر عن قيمها وعاداتها.
يمثل استكشاف الألوان في العمارة جانبًا مهمًا من تاريخ القارة السمراء. فاللون الأحمر، على سبيل المثال، يُعد رمزًا للحياة والقوة، ويُستخدم بشكل بارز في تلوين الجدران والأرضيات. كما يُعتقد في العديد من الثقافات الأفريقية أن لهذا اللون قدرة خاصة على توفير الحماية من الأرواح الشريرة.
الندبيلي.. ألوان المقاومة
الندبيلي هي قبيلة عرقية نشأت في جنوب زيمبابوي والشمال الشرقي من جنوب أفريقيا، ولهذه القبيلة نصيب من التوقيع على صفحات الفن الأفريقي. إذ تُظهر الزخارف المنقوشة على الجدران في بيوت شعب النديبيلي فنًا فريدًا يجمع بين الألوان الزاهية والأشكال الهندسية الدقيقة، مع رسائل تحمل قيم التماسك والهوية الثقافية.
نشأت قبيلة الندبيلي في القرن الثامن عشر، واشتهرت بمقاومتها للمستعمرين. خلال فترة الاستعمار، لجأ شعب الندبيلي إلى الألوان كوسيلة للتعبير عن مشاعرهم وصمودهم. كانت النساء يرسمن بيوتهن بأنماط وألوان كطريقة سرية للتعبير عن الحزن والمقاومة، وفقًا لموقع “أفريقيا.كوم”.
استخدموا 5 ألوان رئيسية، وهي “الأسود” الذي يرمز إلى العالم الروحي، و”الأبيض” الذي يرمز إلى النقاء، و”الأحمر” الذي يمثل الشغف والقوة، و”الأصفر” الذي يعبر عن الخصوبة والأمل، و”الأخضر” الذي يعكس الأرض والزراعة.
إن دمج هذه الألوان ومعانيها الرمزية من خلال الهندسة يُعتبر لغة بالنسبة لشعب الندبيلي. ومن خلال رسم بيوتهم كلوحة فنية، يعبرون عن أنماط ملونة يمكن أن تروي حالة صاحب البيت، إعلان زواج، دعاء، أو احتجاج. وعلى الرغم من أن أنماط ألوان الندبيلي قد أصبحت مشهورة عالميًا واستخدمت في تصميم منتجات مثل السيارات والطائرات، إلا أن إلهامها يُظهر كيف يمكن استخدام الألوان في العمارة ليس فقط كعنصر زخرفي، بل أيضًا كلغة.
النوبة.. فن العمارة الزاهية
النوبة هي واحدة من أقدم الحضارات في وادي النيل، وتقع في جنوب مصر وشمال السودان. إذ يجسد شعب النوبة إرثًا ثقافيًا يمتد لآلاف السنين. بعد تهجيرهم نتيجة بناء السد العالي في جنوب مصر، أعادوا بناء قراهم بأسلوب معماري تقليدي باستخدام الطوب الطيني والأسطح المقببة التي تخفف من حرارة الشمس وتوفر تهوية طبيعية.
تتميز بيوت النوبة بالبساطة والجمال، حيث تُعبر عن هوية ثقافية متجذرة في أعماق التاريخ. كما يمتد الطراز المعماري النوبي إلى الألوان الزاهية التي تزين جدران المنازل، حيث تُستخدم درجات مبهجة من الأزرق والأصفر والأبيض، لتضفي على القرى طابعًا مفعمًا بالحيوية والبهجة.
تمتاز الواجهات بزخارف وأشكال هندسية مستوحاة من التراث، إضافة إلى رموز دينية مثل “يد فاطمة” أو “العين”، التي يُعتقد أنها تمنح الحماية وتدرأ الشر. كما تتخلل الواجهات رسومات تعبر عن الحياة اليومية، مثل النخيل والجمال والقوارب، مما يجعل كل منزل لوحة فنية تعكس تفاصيل حياة ساكنيه وأحلامهم.
يجسد هذا الطرازالعلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة، حيث تُستخدم المواد الطبيعية بأسلوب مستدام، بينما تُعبر الألوان والزخارف عن روح النوبيين المبدعة وفرحتهم بالحياة، ليظل الطراز النوبي رمزًا للجمال المتفرد والتراث العريق.
الهوسا.. لوحة ثقافية نابضة
تتميز بيوت الهوسا، الواقعة في غرب ووسط أفريقيا، بطراز معماري يعكس تاريخًا طويلًا من الإبداع والتعبير الثقافي. يعتمد هذا الطراز على البناء بالطين لتشكيل مبانٍ متينة ذات أسقف مغطاة، مما يحقق توازنًا بين الوظيفة والجمال.
تُستخدم واجهات المباني كمساحة فنية تُعرض من خلالها الزخارف والألوان المبهجة، حيث تمتلئ الأنماط الهندسية والرموز الثقافية بمعانٍ تتراوح بين الديني والاجتماعي.
تتنوع ألوان البيوت بين الأحمر والأزرق والأصفر، مع تفاصيل زخرفية دقيقة تُبرز غنى الثقافة الهوساوية وعمقها. وتعكس تعقيداتها في الواجهات من حيث الأنماط والألوان عادةً ثروة ومكانة صاحب المبنى الاجتماعية.
ولا تقتصر هذه الجماليات على المنازل فقط، بل تشمل المساجد والقلاع، كما تُعتبر الزخارف رمزًا للهوية المحلية، مثل نقش “أريوا” الذي يشير إلى شمال نيجيريا، مما يمنح المباني طابعًا فريدًا يجمع بين التقاليد الإسلامية والجماليات المحلية.
وتضفي ألوان الهوسا الزاهية على المباني طابعًا نابضًا بالحياة، وتعمل كوسيلة للاحتفاء بالثقافة والهوية، مما يجعل هذه العمارة شاهدًا حيًا على عبقرية مجتمع الهوسا في مزج الجمال بالتراث.
تييبيلي.. فن متجذر في الفلكلور
في جنوب بوركينا فاسو وشمال غانا، تحتضن قرية تييبيلي بيوتًا تعد تحفًا معمارية فريدة، تحمل في طياتها إرثًا ثقافيًا غنيًا لقبيلة كاسينا، إحدى أقدم القبائل في غرب أفريقيا.
تمتاز هذه البيوت بتصاميم فراكتالية تجمع بين المباني الدائرية والمستطيلة، في تناغم يعكس عمق التراث وروح الإبداع.
ما يميز بيوت تييبيلي هو جدرانها المزخرفة التي حولتها النساء في القبيلة إلى لوحات فنية، باستخدام مواد طبيعية كالحجر الرملي لإنتاج اللون الأحمر، والطين الكاوليني للأبيض، والجرافيت للأسود، حيث تعكس هذه الألوان قيمًا عميقة، فالأحمر يرمز إلى الشجاعة والقوة، الأبيض يمثل الصدق والنقاء، بينما الأسود يحكي عن الليل وعالم الغيب.
كل منزل في تييبيلي ليس مجرد مأوى، بل هو قصة تُروى بالخطوط والألوان، تنقل معاني الأمل والمثابرة والطموح. حيث تمثل الرموز السماوية الإيمان بالمستقبل، وتشير الزخارف الأخرى إلى تاريخ العائلات وقيم المجتمع.
كل رمز ينقل معاني مختلفة عن الأسرة التي تسكنه. على سبيل المثال، ترمز النجوم والرموز القمرية إلى الأمل، بينما تشير الأسهم على المبنى إلى منزل المحارب، ما يجعل هذه البيوت شاهدًا خالدًا على عبقرية سكان تييبيلي في التعبير عن هويتهم من خلال الفن والعمارة.