أماني ربيع
لفرنسا التي طالما رفعت شعار “الحرية والإخاء والمساواة” تاريخا دمويا من المذابح والانتهاكات في الدول التي استعمرتها، ورغم وجهها المغطى بأصباغ الحضارة المزيفة، إلا أن أهدافها الاستعمارية سرعان ما تظهر عند أو بادرة تمرد من أي دولة تختار الحرية.
مثلا، عند دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، حاول الامبراطور الفرنسي نابوليون بونابارت تملق المصريين، مستغلا التزامهم الديني، وأبدى احترامه لله وللرسول والقرآن، ليجتذب تعاطف الناس، لكن سرعان ما فهم الناس بقيادة شيوخ الأزهر حقيقة الامبراطور، لتندلع ثورة القاهرة الأولى في أكتوبر عام 1798، ويضرب جنود نابوليون القاهرة بالمدافع.
تجمع الثوار في جامع الأزهر الذي كان منبرا للثورة، وبلغ تهور الفرنسيين وازدراءهم للدين مرحلة صدرت معها الأوامر بضرب الجامع، ذو المكانة الرفيعة في نفوس المسلمين، بالمدافع، واقتحم الجنود الجامع بالفعل على ظهور الخيول التي ربطوها بقبلته، ورموا الكتب والمصاحف على الأرض، كما ذكر الجبرتي واصفا أحداث هذا اليوم.
ساحة العنزة
لم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة التي تدل على وحشية الاستعمار الفرنسي واستخدامه أي وسيلة مهما كانت دناءتها لتحقيق أغراضه، فخلال استعمار فرنسا للجزائر، الذي بدأ عام 1830، واستمر 132 عاما، تم حرق وتدمير المسجد، كما استخدم كمستودع للسلاح وسكنا لرؤساء الأساقفة.
ويعتبر مسجد كتشاوة واحدا من نماذج العمارة الإسلامية البديعة التي تعود إلى العهد العثماني بالجزائر، “1515-1830″، وهو جوهرة العاصمة الجزائرية وأشهر معالمها، وشاهد على أحداث أبرزت وحشية الاستعمار الفرنسي.
شُيد المسجد عام 1520 ميلادية على يد والي الجزائر خير الدين بربروس، وجدده حسن باشا ووسعه عام 1794، و”كتشاوة” كلمة تركية تعني “ساحة العنزة” بالعربية وسمي المسجد بهذا الاسم نسبة إلى السوق التي كانت موجودة بالساحة المقابلة للمسجد.
بني مسجد كتشاوة على شكل مربع، وله مدخل أمامي وآخر خلفي، وترتكز القبة والأروقة على ستة عشر عمودًا من الرخام بداخله، وكانت ميضاءة المسجد منقوشة بزخارف، في حين زيّن الرخام النفيس جوانب المنبر، وانتشرت على الجدران كتابات بديعة لآيات قرآنية بيد الخطاط إبراهيم الجكرتي.
مجزرة دموية
في عام 1832، قام قائد القوات الفرنسية في الجزائر الجنرال دو روفيجيو بتدمير المسجد وحرق المصاحف الموجودة فيه، وخلال تلك الفترة تم تحويل جزء من المسجد إلى إسطبل للخيول، في محاولة لطمس الهوية الجزائرية، وتجريدها من مقومات الثقافة العربية والإسلامية.
تحول مسجد كتشاوة إلى كاتدرائية مسيحية بقرار من الجنرال روفيجيو، وهو ما اعتبره الجزائريون انتهاكا وقحا لحرمة الدين الإسلامي، وخرج آلاف الجزائريين احتجاجا على هذا القرار المتعسف، واعتصم نحو 4 آلاف منهم داخل المسجد لمنع الجنود الفرنسيين من تحقيق مأربهم وتحويل المسجد إلى كنيسة.
لم يردع العدد الكبير من الجزائريين المعتصمين داخل المسجد لجنرال روفيجيو من تحقيق هدفه بأي وسيلة مهما بلغت وحشيتها، وأمر بإبادة جميع من بالمسجد في مجزرة دموية، لتُبنى على دمائهم كاتدرائية سانت فيليب، التي صلى المسيحيون بها لأول مرة، يوم 24 ديسمبر عام 1832، بمباركة من ملك فرنسا لويس فيليب الذي أرسل الهدايا الثمينة إلى الكنيسة الجديدة، في حين أرسل البابا جريجور السادس عشر تماثيل للقديسين.
رمز التحرير
تغيرت ملامح عمارة مسجد كتشاوة بين سنوات 1844 و1868، حيث طالته العديد من عمليات التجديد لتلائم وضعه الجديد ككنيسة، وأصبحت عمارته مزيجا من الفن البيزنطي والروماني والإسلامي، واختفت معالمه الأصلية ولم يتبق منها سوى الميضاءة والمنبر والأعمدة الرخامية، وبخلاف عمليات النجديد والترميم تعرض المسجد للحرق والتدمير أكثر من مرة على يد قوات الاحتلال الفرنسي.
ظلت كاتدرائية سانت فيليب مفتوحة حتى استقلال الجزائر عام 1962، ليتم بعد ذلك إعادة افتتاحها كمسجد، ويصبح كتشاوة أحد رموز التحرير، وأدى الجزائريون صلاة الجمعة الأولى بعد الاستقلال يوم 5 يوليو عام 1962 التي خطب فيهاالشيخ البشير الإبراهيمي، من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين بالجزائر.
طقوس رمضانية
يرتبط مسجد كتشاوة ببعض الطقوس الرمضانية، حيث يحرص رواده خلال الشهر الكريم على قراءة “الراتب” حيث يتلو المصلون حزبا من القرآن قبل صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء في جماعة، ومن التقاليد الشهيرة بالمسجد أيضا في رمضان، عقد ندوة كل جمعة بعد صلاة العصر يحاضر فيها كبار علماء الدين بالجزائر رواد المسجد حول كل ما يهمهم في شؤون دينهم ودنياهم، بالإضافة إلى برنامج سنوي لتحفيظ القرآن للنساء والأطفال.
في عام 2007، أغلقت الحكومة الجزائرية مسجد كتشاوة، إثر زلزال ضرب مدينة بومرداس شرق العاصمة، شكل تهديدا لأساسات المسجد، وبدأت عملية ترميم المسجد عام 2014 تحت إشراف الوكالة التركية للتنسيق والتعاون “تيكا”، بالشراكة مع الحكومة الجزائرية.
وشارك في عملية الترميم التي استغرقت نحو 3 سنوات، وبلغت تكلفتها نحو 7 ملايين يورو، فريق مكون من أساتذة ومهندسين أكاديميين وحرفيين في مجالات الخط والزخرفة، ليستعيد المسجد بهاءه كتحفة معمارية بديعة، وأعيد افتتاحه في ديسمبر عام 2017.
