كتبت – أماني ربيع
قد يعتقد البعض أن الفن يقتصر على طبقة اجتماعية معينة، وأن الفنانين يجب أن يظهروا بصورة عصرية وأنيقة، كما ينبغي أن يتمتعوا بثقافة فنية أكاديمية، لكنهم نسوا أن الخيال هو روح الفن.
هذه الحقيقة التي آمن بها رمسيس ويصا واصف، الأكاديمي والفنان المصري، الذي ورث عشق الفن عن والده السياسي الشهير، وابن حزب الوفد، ويصا واصف باشا الذي قدم الدعم لرواد الفن في بدايات القرن العشرين مثل الفنان محمود مختار.
غرام الفن القبطي
كان حلم رمسيس أن يصبح نحاتًا، لكنه درس الهندسة، وتحديدًا العمارة، وحصل على دبلوم العمارة من مدرسة الفنون الجميلة في باريس عام 1935 ثم دبلوم النحت من أكاديمية جوليان في نفس العام، وعاد إلى قاهرة عام 1936 ليصبح مدرسًا بكلية الفنون الجميلة، وظل وفيًّا للعمل الأكاديمي حتى عام 1969، حتى تخلى عنه وهو في منصب رئيس قسم العمارة كي يتفرغ لمشروعه الفني.
وقع رمسيس ويصا واصف في غرام الفن القبطي، وأبدعت مخيلته وأنامله عدة كنائس وأديرة في ربوع مصر، كما وضع تصميم متحف محمود مختار، وعمل مع المعماري حسن فتحي في بناء قرية القرنة بالأقصر، ورُصعت منطقة وسط القاهرة بعدة بنايات من تصميمه، وغيرها من الأعمال التي لا تزال باقية إلى الآن، لكن في مرحلة متقدمة من حياته، أسره فن النسيج القبطي اليدوي وأراد أن يبعثه من جديد.
بداية الحُلم
من هنا، وُلدت فكرة مشروع مركز النسيج بقرية الحرانية، كاد الحلم أن يفشل في البداية، عندما لم يتمكن صناع السجاد والكليم اليدوي من فهم الفن على طريقة رمسيس؛ حيث علقوا بفخ الموروث من أشكال محفوظة، وكانوا صانعين أكثر منهم مبدعين، لذا تحول رمسيس ويصا واصف إلى الأطفال ليُخرج من فطرتهم التي لم تلوثها الصنعة إبداعًا فريدًا، ووجد فيهم غايته، وعلمهم الأسس، ثم تركهم للخيال يصول ويجول بهم بصحبة الخيوط والنول اليدوي.
البداية، لم تكن في الحرانية، بل بمدرسة في منطقة مصر القديمة، صممها رمسيس بنفسه وتطوع للعمل بها كمدرس للتربية الفنية، وكان يجلس مع الأطفال بعد انتهاء اليوم الدراسي لتعليمهم صناعة النسيج، لكن بعد عدة سنوات اعتبرته المدرسة عبئًا لأن جهوده لم تدر عليها ربحًا، فتركها.
ميلاد مركز الحرانية
لم ينل هذا من طموح واصف، لكنه واجه بعد ذلك، معضلة المكان الذي يستطيع فيه تحقيق حلمه، فاستقر مع فنانيه الصغار، في البداية في جراج منزل الأسرة بالجيزة، ثم بنى حجرة فوق سطح المنزل، ولاحقًا، فكر في تخصيص مكان أكبر لمشروعه، ووقع اختياره على الحرانية لطبيعتها الخلابة وهدوئها وبساطة أهلها، واشترى بها أرضًا عام 1952، وصمم مباني مشروعه بنفسه على الطراز القبطي، وبأسلوب يجعل الضوء حاضرًا في أروقة المركز حتى أنفاس النهار الأخيرة.
وكان ميلاد مركز الحرانية للفنون رسميًّا، عام 1955، ومن هذه القرية البسيطة في الجيزة، انطلق فن السجاد والكليم اليدوي المصري الأصيل إلى العالم، وأقيمت له المعارض في القاهرة والإسكندرية وأوروبا.
إحياء النسيج القبطي
ركز واصف في مشروعه على إحياء فن النسيج القبطي وما يميزه من خصوصية نابعة من كونه فنًّا يدويًّا غير خاضع لسلطان لآلة، وكان المشروع رائدًا في تطبيق الفكر المستدام قبل عقود من ذيوعه وانتشاره، ولمحاكاة أمجاد النسيج القبطي القديم، قرر أن يستخدم الخيوط المصبوغة يدويا بنباتات تستخرج منها الأصباغ الطبيعية، مثل: نبات الفوه للون البرتقالي، والمضر للصبغة الحمراء، وريزى ليبيتولا للون الأصفر، وزرع بذور هذه النباتات في أرض المركز، بينما جلب بذور نبات النيلة الهندية من فرنسا لاستخراج اللون الأزرق الداكن.
علم واصف أبناء الفلاحين ووضع بين أيديهم الأسس الفن، ثم تركهم لوحي البيئة المحيطة، وهو ما ولد داخل كل طفل فنان صغير نما بمرور الوقت وتطور أسلوه الخاص الذي يميز إنتاجه، وكانت أعمال النسيج التي تخرج من بين أناملهم تحاكي الطبيعة وتحول الخيوط إلى لوحات فنية خلابة، يترجم الفنانون البسطاء عبرها خيالهم بحرية دون قيد، ومنحت هذه الحرية أعمال فناني المركز صك العالمية.
منارة فنية وتربوية
كان مركز ويصا واصف للفنون أكثر من مجرد مكان لممارسة الفن، فهو أشبه ببيت للعائلة يكلله الدفء والحميمية التي جمعة بين صاحب المشروع والفنانين البسطاء من أهل الحرانية، الذين سكن بعضهم في الأراضي المجاورة وبنوا فيها بيوتهم بأيديهم ليتحول المركز إلى قرية صغيرة نشأ فيها ارتباطًا قويًّا بين الفنان وبيئته التي أصبحت مصدرًا لشغفه ومخزنًا لا ينضب لفنه.
ورغم وفاة رمسيس ويصا واصف عام 1974، إلا أن زوجته وأبناءه، استمروا على نهجه، وأكملوا مسيرته، إيمانًا منهم بأهمية المكان كمنارة فنية وتربوية، وبعد الجيل الأول من الفنانين الذين تتلمذوا على يد واصف وزوجته، تتلمذ جيلًا جديدًا على يد ابنته الكبرى سوزان.
وتطور اهتمام المركز بفنون أخرى بجانب النسيج مثل السيراميك والفخار، وكذلك صاعة السجاجيد القطنية، وخرجت أعمال الفنانين لتنتشر في المعارض العالمية من نيويورك وسان فرانسيسكو إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإنجلترا وبلجيكا وبالي وغيرها من البلدان.
أصالة وعفوية
وعبر العقود الماضية، كان ما يميز أعمال المركز، هو أصالتها النابعة من كونها أعمالًا مصرية حقيقية بلمسة عفوية، وكأنما إبداع الأجداد من المصريين القدماء يسري من جديد في عروق الأحفاد وبدلًا من أن يحفروا على الجدران، إذا بهم يرصدون طقوسهم اليومية ومواسم الفرح والحزن وملامح الطبيعة البكر التي لم تلوثها الحداثة، وينقلونها إلى الذائقة الغربية المفتونة بكل ما هو شرقي.
هذا الفيض من الصور البسيطة والتقليدية ألهب بدفئه قلوب عشاق الفنون حول العالم وأنعش الفن، وفي الثمانينيات، طلبت الأميرة البريطانية الراحلة ديانا زيارة مركز الحرانية للفنون بعد أن شاهدت نماذج من أعمال فناني المركز في معرض بلندن، وشاهدت عرضًا حياة كيف ينبت الفن بين أنامل إحدى فنانات المركز على النول اليدوي بسرعة وإتقان وبالاعتماد على الخيال دون وجود تصميم مسبق، لأن الفن محله هو القلب.
لا يزال مركز الحرانية للفنون ينبض بالحياة والألوان حتى اليوم، وكثيرًا ما نشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لسيدات مصريات بزيهن التقليدي يقفن بفخر بجانب لوحاتهن الفنية على النسيج، وضحكة خجول تداعب وجوههن الصبوحة، ويحصدن بفنهن الأصيل إعجاب الآلاف من الشباب الجديد الذي يدرك بفخر أن مصر هي أرض الفن والخيال.