فيرونجا.. محمية أفريقية تقاوم على خط النار

أكتوبر 23, 2025

كتبت – أسماء حمدي

في قلب جمهورية الكونغو الديمقراطية، يقف منتزه فيرونجا الوطني شاهدًا على قرن من الصراع، لكنه أيضًا رمز لصمود الطبيعة والبشر معًا، “فيرونجا” هي أقدم محمية طبيعية في أفريقيا، بمساحة تعادل جزيرة بورتوريكو، وُلدت لتكون جنة بيئية، لكنها وجدت نفسها في قلب حرب لا تنتهي.

عند بوابة حوض الكونغو، ثاني أكبر غابة مطيرة في العالم ورئة أفريقيا، تحيا هذه الأرض على وقع البراكين والغابات والبحيرات والجبال الثلجية، محتفظةً بأغنى تنوع بيولوجي على وجه الأرض، لكن وراء هذا الجمال تكمن قصة معقدة، قصة دماء ونزاعات حدودية وصراعات دولية، ونساء ورجال يقاتلون يوميًا لإنقاذها من الفناء، إنها حكاية مئة عام من البقاء، ترويها الصور والكلمات، وتؤكد أن فيرونجا ليست مجرد حديقة، بل روح أفريقيا النابضة بالحياة والألم.

أسطورة الطبيعة

في سماء فيرونجا ، ينفجر بركانا نيراجونجو ونياموراجيرا كطبول قديمة، بينما تجوب الغوريلا ذات الظهر الفضي غابات كثيفة تشبه الكاتدرائيات، وتنعكس البحيرات كمرآة لقطعان أفراس النهر وصيادي الأسماك. هناك قمم روينزوري المغطاة بالثلوج، في مشهد يبدو وكأنه خارج الزمن. فيرونجا حلم يقظة، لكن الاحتفال بمئويتها لا يخلو من مرارة، إذ يُذكّر بأن بقاءها معجزة في زمن يلتهمه العنف والفساد.

هذا الإرث الطبيعي كان دافعًا للمصور الجنوب أفريقي برنت ستيرتون ليُهدي كتابه الأخير إلى الحديقة وابنه “أكسل”، جامعًا مختارات من صوره منذ 2007. في خضم جائحة كورونا عام 2021، وثّق عودة قطيع ضخم من الأفيال إلى الحديقة بعد نصف قرن من الإبادة، في مشهد أعاد الأمل بأن الحياة قادرة على الانبعاث، وفقًا لصحيفة “لوفيجارو” الفرنسية.

بين الكاميرا والرصاص

لكن صور ستيرتون لم تكن دائمًا لحظات جمال، ففي 2007، صوّر جثة الغوريلا الضخم سينكوي محمولًا على أكتاف الحراس بعد مذبحة ارتكبها مسلحون لترهيب العاملين بالحديقة.

تلك الصورة، التي هزت العالم، كانت بداية عقدين من العمل الشاق لتوثيق معركة بقاء فيرونجا وسط صراع أودى بحياة أكثر من 6 ملايين شخص.

يصف إيمانويل دي ميرود، مدير الحديقة، هذه اللحظات بأنها “مصادفات مؤلمة”، لكنها كشفت حقيقة: “أن الحديقة ليست مجرد محمية، بل خط تماس بين البشر والطبيعة والسياسة والسلاح”.

حدود رسمها الاستعمار

أزمة فيرونجا ليست وليدة اليوم، فمع نهاية الاستعمار، رسم الأوروبيون حدود الكونغو وأوغندا ورواندا بلا اعتبار لتاريخ القبائل، لتتحول هذه الحدود إلى بؤر صراع.

وعقب إبادة رواندا عام 1994، فرّ ملايين الهوتو إلى فيرونجاا ومحيطها، مختبئين بين غاباتها، ليبدأ فصل جديد من الحرب، وفي 1996، عبر لوران كابيلا الحديقة بجيشه لإسقاط موبوتو، مدعومًا من رواندا وأوغندا، قبل أن ينقلب عليهم.

منذ ذلك الحين، لم تتوقف رواندا عن السعي للسيطرة على المنطقة، مستخدمةً حركة إم 23 كذراع عسكري وسياسي، كما أكد تقرير أممي عام 2022 تورط الجيش الرواندي المباشر في دعم المتمردين، في مشهد يذكّر بتدخل روسيا في دونباس قبل الحرب الروسية الأوكرانية.

دماء وصمت دولي

لم تقتصر المأساة على إم 23، فقد ارتكبت قوى الدفاع الديمقراطية الأوغندية، المرتبطة بتنظيم داعش، مجازر مروعة، آخرها قتل 45 مسيحيًا داخل كنيسة بقطع الرؤوس، في مواجهة هذا العنف المتعدد

، يقف الجيش الكونغولي مشلولًا بالفساد، فيما تعجز بعثة الأمم المتحدة (مونوسكو) عن التدخل بفعالية.

دفع هذا الوضع فيرونجا إلى لعب دور لم يُخلق لها، دور الشرطي، وعلى مدى 15 عامًا، قُتل 240 حارسًا دفاعًا عن الأرض والحيوانات، كثير منهم شبان اختاروا الطبيعة بدل الانضمام إلى الميليشيات، لكنهم دفعوا حياتهم ثمنًا لذلك.

تنمية من رماد الحرب

أمام هذا الواقع، اختارت إدارة الحديقة استراتيجية جديدة، وهي الاستثمار في التنمية كوسيلة لمواجهة العنف، وبتمويل أوروبي، أُنشئت محطات كهرومائية وفرت الكهرباء لثلثي مدينة جوما، وخلقت فرص عمل لآلاف الشباب، مانحةً إياهم بديلًا عن حمل السلاح.

هذه الكهرباء شجّعت مشاريع صغيرة لصناعة الصابون والشوكولاتة والقهوة وزيت النخيل، مما أعاد الأمل لقرى كانت تعيش على حافة المجاعة، يقول دي ميرود: “لم تكن صور برنت مجرد وثائق، بل شرارة دفعت الشباب لترك السلاح والبحث عن حياة أخرى”.

سلام هش ومستقبل غامض

في يونيو 2025، وُقّع اتفاق سلام بضغط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكنه ظل هشًا، فحركة إم 23 ما تزال تسيطر على مدينة جوما، فيما تتهم المعارضة الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي باستغلال الوضع لمصالحه، أما المجتمع الدولي، فيُنتقد بازدواجية معاييره أمام محاولات رواندا ضم أراضٍ كونغولية.

ورغم ذلك، تستمر الحياة في فيرونجا، إذ عادت الغوريلا فضية الظهر والأفيال، وأُعيد إدخال أنواع مهددة بالانقراض، وبين صور الدم وصور الطبيعة، يبقى الأمل بأن هذه الحديقة، التي صمدت مئة عام، ستظل قائمة لمئة أخرى، رمزًا لصراع البشرية مع نفسها ومع العالم.