كتبت – شاهيناز جلال
في تاريخنا العربي والإسلامي برزت العديد من أسماء نساء تركن بصمات خالدة في مجالات متعددة، وحظين بالاعتراف والتقدير كما ينبغي، واحدة من هذه الأسماء هي السيدة فاطمة الفهرية، وهي امرأة عربية ملهِمة جمعت بين الزهد والثراء، وضعت حجر الأساس لأول جامعة في العالم، “جامعة القرويين”، بمدينة فاس المغربية، قبل أكثر من أحد عشر قرنًا، لتصبح بعد ذلك أهم مَعلم في مدينة فاس والمغرب بأكمله، مخلدة اسمها في كتب التاريخ، كأول امرأة بنت مسجدًا من حر مالها، ليصبح المكان بعد ذلك إرثًا حضاريًّا وتراثًا إنسانيًّا كبيرًا.
“أم البنين” زهرة القيروان
وُلدت فاطمة الفهرية في مطلع القرن التاسع الميلادي، عام 800م في مدينة القيروان عاصمة تونس آنذاك، حينما كانت تسمى “أفريقية”، والتي كانت آنذاك مركزًا علميًا وثقافيًا مزدهرًا في العالم الإسلامي، تنتمي فاطمة أو كما يطلق عليها “أم البنين”، لعائلة عربية تنتمي إلى قبيلة الفهريين، وهي قبيلة قرشية ذات شأن فيرجع نسبها إلى التابعي الجيليل عقبة بن نافع الفهري القرشي، فاتح تونس ومؤسس مدينة القيروان، ووالدها هو “محمد بن عبد الله الفهري”، وكان تاجرًا ثريًا، محبًّا للعلم، فحرص على تعليم ابنتيه، فاطمة وأختها مريم، تعليمًا جيدًا، وغرس فيهما منذ الصغر قيم الزهد والورع وفعل الخير والتقرب إلى الله عز وجل.
“فاس”.. مهد الحلم
انتقل التاجر الثري محمد الفهري مع أسرته من مدينة القيروان إلى مدينة فاس المغربية، مع موجات المهاجرين العرب والأندلسيين الذين شكلوا نواة المدينة الجديدة، التي أسسها السلطان إدريس الثاني عام 808م، وكانت عاصمة للدولة الإدريسية، ووجد التاجر محمد الفهري في هذه المدينة الجديدة مستقرًا له ولعائلته، ومكانًا مناسبًا لتوسيع تجارته، حيث إن موقعها الجغرافي جعلها ملتقى للقوافل التجارية بين أفريقيا والأندلس، والتي ستشهد فيها فاطمة انطلاقة لصنع مجد علمي لا يزال صداه يتردد حتى اليوم.
الإرث الخالد
بعد وفاة والدها ثم زوجها، ورثت فاطمة ثروة ضخمة منهما، لكنها لم توجهها نحو مظاهر الترف والرفاهية، وعزمت أن تسلك طريقًا آخر للانتفاع بهذه الثروة الكبيرة، فقررت أن تنفقها في شيء يعود نفعه على الناس، وفي أساس علم يبقى أثره، فقررت تأسيس جامع أطلقت عليه اسم “جامع القرويين”.
وكان للتدين والزهد في الدنيا والتربية الدينية التي تلقتها فاطمة وأختها مريم، على يد والدهما واهتمامهما بالعلوم الدينيه، أثره في اختيارهما كيفية التصرف في ثروتهما، ففكرتا في التقرب إلى الله عن طريق بناء مسجد واسع كبير، فبنت فاطمة جامع القرويين في مدينة فاس، وكذلك بنت شقيقتها مريم جامع الأندلس في المدينة نفسها، ووزعتا بسخاء من ميراثهما على المحتاجين والمساكين، وطلاب العلم والمعرفة، حتى لُقبت فاطمة الفهرية حينها بـ “أم البنين”.
ولم يكن يدور في خلد فاطمة الفهرية أن بناء جامع القرويين سيغدو بمرور الزمن منارة للعلم، وأقدم جامعة تحتضن تحت قبابها عقولا عظيمة، وأسماء نقشت بصمتها في سجل الحضارة.

18عامًا من الصيام حتى اكتمال الحلم
اشترت فاطمة بمالها الخاص أرضًا في أعلى نقطة بفاس، وبدأت البناء عام 859م، بعد أن منحت ميراثها ووقتها لبناء المسجد مشرفة على أدق التفاصيل فيه، وذلك بعد مطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول وموافقته على التشييد، وقررت ألا تأخذ ترابًا أو أي مادة تستعمل في بنائه إلا من الأرض التي اشترتها بمالها الخاص، وطلبت من العمال والبنائين أن يحفروا كهوفًا في أعماق الأرض لاستخراج الرمل الأصفر الجيد والأحجار لاستخدامها في عملية البناء، كما طلبت منهم حفر بئر في فناء المسجد ليرتوي منه البناؤون والعمال، ولاستخدامه أيضًا في أعمال البناء، كما يقول المؤرخ التونسي حسن حسني عبد الوهاب في كتابه “شهيرات التونسيات”.
وتقول الروايات التاريخية إن فاطمة الفهرية نذرت صيامًا حتى انتهاء بناء مسجد القرويين، حيث ظلت صائمة محتسبة حتى تم الانتهاء من أعمال البناء، وتجلى حلمها أمام عينها قائمًا وقرت به، فصلت بالمسجد وشكرت الله على توفيقها في أمرها، وإعانتها عليه، بعد فترة بناء استمرت حوالي 18 عاما، حيث انتهى العمل فيه عام 876م.
من أين جاء اسم القرويين؟
وترجع تسمية جامع القرويين بهذا الاسم نسبة إلى المدينة الأم القيروان عاصمة تونس وقتها، الموطن الأصلي لفاطمة الفهرية حيث أرادت أن تخلد ارتباطها بجذورها وتكريما لأهلها وأصلها التونسي، ليظل هذا الاسم شاهدا على امتداد الحضارة الإسلامية من الشرق إلى الغرب.
وكان الجامع شبه مربع على نحو ما عرف في المساجد الإسلامية الأولى، وكان طوله يعادل تسعة وثلاثين مترًا، وتقدر المساحة الكلية للجامع آنذاك بحوالي 1248مترًا مربعًا مقسمة إلى أربعة أروقة، ومع مرور العصور بدأ الملوك يتنافسون في توسيع الجامع وتحسينه، حتى أصبح من أبرز الصروح الإسلامية التي استمرت في التطور عبر العصور، وبفعل إنجازها العظيم، خلدت فاطمة الفهرية اسمها في كتب التاريخ، كأول امرأة بنت مسجدًا من مالها الخاص.
“القرويين” جامع وجامعة
طالما أرادت فاطمة الفهرية إنشاء مكان يجمع بين العبادة والتعليم، وليس مجرد مكان للصلاة، وما لبث المسجد أن تحول بعد بنائه مركزا للعلماء والطلاب من جميع أنحاء العالم، حيث بدأ العلماء يتوافدون إليه من مختلف أنحاء المغرب والأندلس وبلاد المشرق، للتعلم في مجالات مختلفة مثل العلوم الشرعية واللغوية، الفلك، الطب، الكيمياء، الفلسفة، واللغات، حيث كانت محاضرات العلم تُلقى في ساحته، ولم تكتفِ فاطمة بإنشاء جامع القرويين، لكنها أسست مكتبة ضخمة تابعة للمسجد تقع في حرمه، وقد أُعيد ترميم المكتبة عدة مرات، والمكتبة تضم حوالي 4000 مخطوطة نادرة أصلية، وتعتبر من أقدم المكتبات على مستوى العالم.
“فاس” قبلة للعلم والعلماء
وفي العصور الوسطى حين كانت أوروبا تغط في ظلام الجهل، كانت مدينة فاس المغربية تشع نورا من نوع آخر، فقد تحولت جامعة القرويين إلى قبلة علمية يقصدها الطلاب من أوروبا وجميع أنحاء العالم لتلقي العلم على أيدي كبار العلماء في جامعة القرويين والتي كانت بمثابة مركز هام للعلم والفكر ومنارة علمية كبيرة، مما كان له دور كبير في نقل الحضارة الإسلامية إلى أوروبا، وعرفت جامعة القرويين كجامعة علمية حقيقة في القرن الحادي عشر الميلادي، وذلك خلال فترة حكم دولة المرابطين، ودرس فيها عدد من القامات والأعلام الشهيرة مثل: ابن خلدون، وابن رشد، ومحمد الطائي الإدريسي، وموسى ابن ميمون، وابن البناء المراكشي، وغيرهم من عمالقة الفكر.
“القرويين” .. قبل أوكسفورد
وتعد جامعة القرويين أقدم مؤسسة جامعية في العالم وفقًا لتصنيف موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ومنظمة اليونسكو، متقدمة بما يقارب قرنين من الزمان على أعرق جامعات أوروبا الغربية مثل جامعة بولونيا وجامعة أوكسفورد، فبينما لم تظهر أولى الجامعات الأوروبية إلا في القرن الحادي عشر الميلادي، في جنوب إيطاليا، كانت فاطمة الفهرية قد سبقتها ببصمتها الخالدة، وجعلت من فاس مهدًا للعلم والمعرفة في وقت لم تكن فيه أوروبا قد عرفت بعد معنى الجامعات.
جوائز ومبادرات تخلد اسم فاطمة الفهرية
ورغم مرور أكثر من أحد عشر قرنًا على وفاتها، لا يزال اسم فاطمة الفهرية حاضرًا، حيث لم يتوقف أثرها عند حدود الماضي، بل استمر إلى الحاضر من خلال عدد من الجوائز والمبادرات باسمها تقديرًا لإرثها العلمي ودورها في تأسيس أول جامعة في العالم.
ففي تونس أُطلقت “جائزة فاطمة الفهرية” بهدف تكريم المبادرات التي تعزز تعليم المرأة وتمكينها في المجتمعات العربية.
وفي المغرب، تحديدًا بمدينة فاس، تنظم سنويًا فعالية “جائزة فاطمة الفهرية للتمكين النسائي”، لتكريم إنجازات نساء رائدات في مجالات التعليم، والصحة، والحقوق الاجتماعية، بمشاركة دولية واسعة.
وعلى المستوى الأكاديمي الدولي فقد تأسست منحة دراسية ضمن برنامج “إيراسموس موندوس” تحت اسم Fatima al-Fihri Erasmus Mundus، موجهة للطلبة من أوروبا وشمال أفريقيا.
بصمة لا تُمحى
وهكذا لا تزال جامعة القرويين مفتوحة للدارسين منذ عام 859م، كرمز خالد لعطاء امرأة واحدة غيرت مجرى التاريخ تاركة بصمة لا تُمحى، ليعرف العالم أن أول جامعة في تاريخه أسستها امرأة عربية مسلمة اسمها فاطمة الفهرية، وأن “القرويين” لم يكن مجرد جامع، بل كان منارة فكر أضاءت العالم بأكمله.