عصر حروب الرسوم الجمركية.. كيف تتفادى أفريقيا “الانحياز التجاري”؟

يونيو 5, 2025

كتب – حسام عيد

في بداية شهر أبريل 2025، أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن “يوم التحرير” لتجارة الولايات المتحدة مع العالم، كاشفًا عن حزمة واسعة من الرسوم الجمركية ضد كل دولة تقريبًا.

جاء ذلك بعد تحركات مماثلة -وإن كانت أقل شمولًا- خلال إدارته الأولى، بالإضافة إلى تعهداته أثناء الحملة الانتخابية، حيث وصف الرسوم الجمركية بأنها “أجمل كلمة في القاموس”.

يرى ترامب أن الرسوم الجمركية وسيلة حاسمة لإعادة التوازن للعجز التجاري المزمن في الولايات المتحدة وإجبار المصنعين على إنتاج السلع وتوظيف العمال داخل أمريكا. وقد أثّر “يوم التحرير” على الفور في معنويات الأسواق المالية، إذ سعى الرئيس إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بالكامل. حيث قفز مؤشر VIX، الذي يقيس مستويات المخاطر والتقلبات في أسواق الأسهم، بأكثر من 110% بعد هذه الإعلانات.

قلق أفريقي

بعيدًا عن كيفية الرد على الرسوم المباشرة المفروضة عليها، فإن الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للدول الأفريقية كان التصعيد في التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. فاندلاع حرب تجارية بين واشنطن (أكبر اقتصاد في العالم) وبكين (ثاني أكبر اقتصاد وشريك تجاري رئيسي لمعظم الدول الأفريقية) يحمل في طياته تبعات اقتصادية خطيرة على القارة وآفاق نموها.

في “يوم التحرير”، فرض ترامب رسومًا إضافية بنسبة 50% على الواردات الصينية، ما رفع إجمالي الرسوم على بعض السلع إلى أكثر من 100%. وردت الصين بفرض رسوم إضافية بنسبة 34% على السلع الأمريكية، إلى جانب فرض قيود على تصدير المعادن الأرضية النادرة.

وفي سلسلة من الإجراءات الانتقامية المتبادلة، فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية بلغت 145% على معظم السلع الصينية، بينما فرضت بكين معدلًا أقل قليلًا بلغ 125%.

وفي مايو 2025، اتفقت الدولتان على خفض الرسوم الجمركية بشكل مؤقت للحد من التصعيد: الولايات المتحدة إلى 30%، والصين إلى 10%، على أن تستمر المفاوضات. لكن هشاشة هذا الاتفاق تثير القلق لدى القادة الأفارقة وصانعي السياسات العالمية.

دانيال سيلك، محلل الاقتصاد السياسي من كيب تاون، يرى إن تهديدات الرسوم الجمركية المتكررة أدت إلى إطلاق حالة من عدم اليقين في الأسواق حول العالم، وفقًا لما أوردته مجلة “أفريكان بيزنس”.

“إنها مقولة قديمة، لكنها تظل صحيحة: الأسواق لا تحب عدم اليقين، سواء في عواصم العالم الكبرى أو في الدول النامية”، بحسب سيلك.

تدفق محتمل للسلع الصينية الرخيصة إلى أفريقيا

من المرجح أن يكون للتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين انعكاسات على القارة الأفريقية، حيث أن اقتصاداتها وشركاتها معرضة بشكل خاص لأي تطورات تؤثر على بكين.

تشير تقديرات منظمة التجارة العالمية إلى أن حجم التجارة السلعية بين الولايات المتحدة والصين قد يتراجع بنسبة 80% هذا العام وحده. وكان صندوق النقد الدولي قد حذر سابقًا من أن أفريقيا جنوب الصحراء قد تكون الأكثر تضررًا من “التفكك الجيو-اقتصادي” بين الشرق والغرب.

وربما يتمثل التأثير الأكثر مباشرة في زيادة محتملة في صادرات السلع الصينية إلى أفريقيا، في ظل انخفاض التجارة مع الولايات المتحدة.

من جانبها تتوقع فيليستوس كانديا، الباحثة في التجارة والتنمية بمركز أبحاث وسياسات المشرق في نيروبي، أن تتوجه الشركات الصينية بشكل متزايد إلى الأسواق الأفريقية، في ظل القيود والرسوم الأمريكية المتزايدة.

مع تقلص فرص الوصول إلى الأسواق الغربية، تمثل أفريقيا بديلًا استراتيجيًا وقاعدة مستهلكين آخذة في النمو. لقد رسخت الصين بالفعل موقعها كشريك تجاري واستثماري مهيمن عبر القارة، وقد تُسرّع التوترات التجارية الحالية هذا التحول. هذا التطور يحمل في طياته فرصًا وتحديات في آنٍ واحد. فمن جهة، قد تفيد المنتجات الصينية منخفضة التكلفة المستهلكين وتُساهم في خفض تكاليف الأعمال. لكن من جهة أخرى، فإن تدفق السلع الصينية يهدد بإغراق الصناعات المحلية الهشة في أفريقيا -إذ إن العديد من الشركات المحلية تعاني أصلًا في منافسة الواردات منخفضة التكلفة.

انخفاض التمويل الصيني لأفريقيا

علاوة على ذلك، يُتوقع أن تؤدي التوترات التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في بكين -وربما عالميًا أيضًا. فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني لعام 2025 إلى 4% بسبب هذه التوترات والتحديات الداخلية في قطاع العقارات الحيوي.

وقامت شركة “يو بي إس” العالمية للاستثمار مؤخرًا برفع تقديراتها لنمو الصين من 3.4% إلى ما بين 3.7% و4%، في ضوء ما بدا أنه نوع من التهدئة في التوترات هذا الشهر. ومع ذلك، فإن هذه التقديرات لا تزال أقل بكثير من التوقعات التي سبقت “يوم التحرير”.

أما بنك “جولدمان ساكس”، فيتبنّى نظرة أكثر تفاؤلًا، حيث يرى أن التراجع في الرسوم الجمركية قد يعزز النشاط الاقتصادي في الصين، ويتوقع أن يبلغ النمو في عام 2025 حوالي 4.6%.

تباطؤ النمو في الصين سيؤثر حتمًا على أفريقيا

تشير فيليستوس كانديا إلى أن بيئة النمو البطيء في الصين “ستنعكس حتمًا على أفريقيا”، وتعتقد أن “أحد التأثيرات المباشرة سيكون على الأرجح تراجع التمويل الصيني لمشروعات البنية التحتية”.

كان الإقراض الصيني لأفريقيا في حالة تراجع منذ عدة سنوات؛ حيث بلغ ذروته عند 28 مليار دولار في عام 2016. ثم انخفض بشدة خلال فترة الجائحة التي تميزت بنمو اقتصادي ضعيف، ليصل إلى أقل من مليار دولار في عام 2022.

وعلى الرغم من أن بكين زادت من التزاماتها التمويلية في القارة منذ ذلك الحين -إذ تعهد المقرضون الصينيون بحوالي 4.61 مليار دولار في عام 2023 وفقًا لمركز سياسة التنمية العالمية بجامعة بوسطن- فإن بيئة التجارة العالمية المنقسمة وتباطؤ النمو في الصين من المرجح أن يحدا من قدرتها أو رغبتها في تقديم المزيد من القروض لأفريقيا.

وبينما تتكيف الصين مع الضغوط الاقتصادية الداخلية، بما في ذلك مستويات الدين المرتفعة، والتحولات الديموغرافية، والركود في قطاع العقارات، فإن استثماراتها الخارجية أصبحت أكثر حذرًا واستراتيجية. قد يترتب على ذلك عدد أقل من صفقات البنية التحتية الكبرى، وتأخيرات في تنفيذ المشاريع، أو شروط قرض أكثر صرامة على الحكومات الأفريقية. وبالنسبة للدول التي اعتمدت بشكل كبير على التمويل الصيني لدفع خططها التنموية، فإن هذا يمثل نقطة ضعف حقيقية.

السلع الأولية تستعد للتباطؤ

تشير كانديا أيضًا إلى أن تباطؤ النمو في الصين من المرجح أن يؤدي إلى تراجع الطلب على المواد الخام الأفريقية. فعلى الرغم من أن الأسعار تعافت الآن، إلا أن “يوم التحرير” شهد انخفاضًا بنسبة تقارب 20% في قيمة العقود الآجلة للنحاس، وهو ما يعكس على الأرجح مخاوف الأسواق من ضعف الطلب في بلد يمثل حوالي 30% من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي.

تعد الصين مستهلكًا رئيسيًا للسلع مثل النحاس وخام الحديد والنفط والأخشاب. وإذا تباطأ الإنتاج الصناعي وقطاع البناء في الصين، فقد تنخفض أسعار السلع، مما سيؤثر سلبًا على المصدرين الأفارقة ويوسع العجز المالي في الاقتصادات المعتمدة على الموارد. هذا بدوره قد يحد من قدرة الحكومات على سداد ديونها أو الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية أو دعم الصناعات المحلية. كما أن انخفاض الأسعار يعني أيضًا انخفاض عائدات النقد الأجنبي وضيق الحيز المالي لحكومات تعاني بالفعل من أعباء الديون.

هل حان وقت الانحياز “التجاري”؟

يرى سيلك أن بعض الدول ستشعر أنها تستطيع التعامل بشكل أفضل مع واشنطن، بينما قد ترغب أخرى في التقارب مع الصين.

ويخشى أن يؤدي هذا الانقسام إلى تقويض مبادرات مثل منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA)، التي تهدف إلى توحيد اللوائح التجارية وتعزيز التجارة البينية داخل القارة. من خلال دفع بعض الدول الأفريقية نحو الصين وأخرى نحو الولايات المتحدة، قد يُهدَّد مفهوم التكتل التجاري الموحد الذي يمكن، بل ويجب، أن تصبح عليه أفريقيا.

لكن كانديا أكثر تفاؤلًا، إذ تعتقد أن بإمكان أفريقيا تحقيق توازن في علاقاتها مع كلا الطرفين وتجنب الانجرار إلى هذه التوترات. ومع ذلك، تُقر بأن “الدول الأفريقية قد تواجه ضغوطًا متزايدة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، لاختيار أحد الجانبين.

وختامًا، تحتاج أفريقيا إلى رأس المال الصيني والابتكار الأمريكي، إلى البنية التحتية الشرقية ونجاح الأسواق الغربية. اختيار أحدهما على حساب الآخر سيُضيق من خيارات القارة التنموية في وقت هي بأمسّ الحاجة فيه إلى شراكات واسعة لتحقيق أهدافها الصناعية والاجتماعية.

بدلاً من الانحياز، يجب على أفريقيا أن تتخذ موقفًا -موقفًا داعمًا للحياد المبدئي.

يبقى أن نرى إلى أي مدى ستتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين -أو ما إذا كانت الخطوات الدراماتيكية قد بلغت ذروتها مع التراجع الأخير من كلا الجانبين.

أفريقيا بحاجة إلى الرد بشكل “استباقي” على هذه المخاطر الاقتصادية والجيوسياسية، وذلك من خلال “الانخراط الاستراتيجي مع شركاء بديلين مثل اليابان، الاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، وذلك للمساعدة في تخفيف الصدمات الخارجية وإعادة التوازن لعلاقات القارة التجارية العالمية.

يجب على الحكومات والشركات على حد سواء أن تعتمد التخطيط بالمحاكاة والاستبصار الاستراتيجي. فالمشهد العالمي يزداد تقلبًا، ومن يستبق التغيير ويتكيف مبكرًا سيكون في موقع أفضل للنجاح.