بقلم – د. نرمين محمد توفيق

باحثة متخصصة في الشئون الأفريقية والمنسق العام لمركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية

شهدت دول غرب أفريقيا في السنوات الخمس الأخيرة تغيرات سياسية أدت إلى عدد من التحولات الاستراتيجية على جميع المستويات، وأفرزت مجموعة من الظواهر سواء الداخلية أو الخارجية؛ بسبب الانقلابات العسكرية المتتالية التي حدثت في أكثر من دولة في الإقليم، فمثلا حدث تغيير في موازين القوى الدولية التي تتنافس في هذه المنطقة، وتراجع تواجد فرنسا وهي الفاعل التاريخي في الساحل الأفريقي لتحل روسيا بدلًا عنها؛ ولم يتوقف الأمر على فرنسا فقط وإنما امتد ليشمل الوجود الأمريكي كذلك.

أيضا برز على الساحة عدد من الزعماء الشباب الذين خططوا ونفذوا الانقلابات العسكرية للتخلص من الأنظمة الحاكمة متهمين إياها بالتبعية لفرنسا والغرب، والفشل في القضاء على الإرهاب الذي يهدد المنطقة منذ سنوات، بالإضافة إلى الفشل في مكافحة الفقر، وزيادة معدلات الفساد، كما برز زعماء شباب من صفوف المعارضة استطاعوا الوصول للحكم على غير المعتاد.

وستتناول هذه الدراسة نماذج لعدد من القيادات الشابة التي أفرزتها تلك الانقلابات، وباتوا رؤساءً للمجالس العسكرية، على رأسهم أسيمي جويتا رئيس المجلس العسكري في مالي، وإبراهيم تراوري رئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو، ومحمد إدريس ديبي رئيس تشاد، وكذلك زعماء المعارضة الشباب الذين وصلوا للحكم وقبلها بفترة وجيزة كانوا متهمين بمعاداة النظام الحاكم بل إن بعضهم حُكم عليه بالسجن مثل الرئيس السنغالي باسيرو فاي، ورئيس وزرائه عثمان سونكو.

وذلك كالتالي:

أولًا- الزعماء الشباب الذين وصلوا للحكم بسبب الانقلابات العسكرية:

سيتم الحديث في هذا الجزء عن رئيس المجلس العسكري في مالي أسيمي جويتا، ورئيس المجلس العسكري في بوركينا فاسو إبراهيم تراوري، والرئيس التشادي محمد إدريس ديبي.

1. رئيس المجلس العسكري في مالي العقيد/ أسيمي جويتا:

ينظر الماليون خصوصا الشباب إلى العقيد/ أسيمي جويتا كبطل قومي نجح في تحرير بلادهم من “الاستعمار الحديث”، وتصفه وسائل الإعلام الأجنبية بأنه الرجل القوي الذي استطاع الإطاحة برئيسين خلال عام، وهما الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا في انقلاب أغسطس 2020، والرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس حكومته مختار وان في انقلاب مايو 2021.

عمل جويتا على تقويض الوجود الفرنسي في بلاده، وانسحب من مجموعة الساحل G5 والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (منظمة الإيكواس)، كما تربطه علاقات مهمة مع روسيا، وقوات فاجنر في منطقة الساحل الأفريقية، ونجح في تكوين تحالف إقليمي مع بوركينا فاسو والنيجر عُرف بـ “تحالف دول الساحل”.

وقد استأثر الكولونيل الشاب – المولود عام 1983- خلال فترة وجيزة باهتمام الرأي العام في القارة الأفريقية وخارجها، رغم أنه لم يكن معروفًا بدرجة كبيرة قبل 2020، لكن منذ أغسطس2020، تاريخ الانقلاب الأول بمالي، صار أسيمي جويتا، الذي لم يتجاوز وقتها السابعة والثلاثين من عمره، محط اهتمام وسائل الإعلام المحلية والدولية.

يوصف جويتا بأنه “شخصية صارمة، ومثابر، يحب التحديات وقادر على القيادة”، أما بالنسبة لخبرته العسكرية، فقد سار على خطى والده الضابط في الجيش المالي، وتخرج من مدرسة كوليكورو العسكرية المالية المتخصصة في الأسلحة المدرعة وسلاح الفرسان، وشارك أيضا في العديد من التدريبات بعدد من الدول، كألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا.[1]

يتمتع جويتا كذلك بخبرات كبيرة في مكافحة الإرهاب، ففي 2002 تم تعيينه في أكثر من منطقة في شمال مالي: غاو، كيدال، ميناكا، تساليت وتمبكتو لمحاربة المتطرفين؛ مما زاد من خبرته في معرفة الأقاليم التي تعاني من الإرهاب[2]، وفي سنة 2005 انضم للعمل في سرب الاستطلاع 123 في منطقة كيدال بشمال مالي، كما انضم إلى القوات الخاصة للجيش المالي في عام 2014، وبعدها شغل منصب ضابط أركان في مركز العمليات المشتركة، وهيئة الأركان العامة، وترقى لرئيس قسم العمليات بأركان الجيش.[3]

وخلال 2015 حصل على دورة تدريبية في جامبيا من مركز العمليات الخاصة لمكافحة الإرهاب، كما تم إرساله لإكمال دورة القوات الخاصة في فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، كذلك قضى عاما في مدرسة القيادة العسكرية العليا بموسكو، واستفاد من عدة تدريبات عسكرية في الاتحاد الأوروبي، وخلال فترة 2016-2017 تولى قيادة الكتيبة الخاصة المستقلة التي تنتشر بمنطقة “سوفارا” في وسط مالي، وفي عام 2018، أصبح قائدا للقوات الخاصة بالجيش، وقاد العديد من العمليات ضد المتمردين في شمال ووسط مالي، وكذلك خارج مالي ضمن وحدات دولية بدارفور.

ومع انقلاب أغسطس 2020 قدم نفسه كرئيس للمجلس العسكري المسمى “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب”، وقد تعهد جويتا وقتها، تحت ضغط دولي، بإعادة السلطة إلى مدنيين منتخبين بعد 18 شهرا بدل ثلاث سنوات، إلا أنه احتفظ بوجود أشخاص مقربين منه في الحكومة الانتقالية عبر مجموعة من الوزارات، سمحت له بالسيطرة على مقاليد السلطة وقت حكم الرئيس الانتقالي باه نداو.[4]

وفي 24 مايو 2021، أعلن جويتا الإطاحة بباه نداو ورئيس حكومته مختار وان في انقلاب مايو 2021، بزعم أنهما فشلا في أداء مهامهما وكانا يريدان تخريب عملية التحول في مالي، وفي يونيو 2021، أدى اليمين رئيسا انتقاليا بعدما أعلنت المحكمة الدستورية في مالي جويتا رئيسا مؤقتًا للبلاد.[5]

ورغم أنه تعهد وقتها على عزمه إجراء انتخابات عامة فإن هذا لم يحدث، وفي سبتمبر 2023 أعلن المجلس العسكري الحاكم تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها في فبراير 2024 وذلك “لأسباب فنية” تتعلق بإقرار دستور جديد ومراجعة اللوائح الانتخابية، كما ألغت السلطات تنظيم انتخابات تشريعية، كانت مقررة في نهاية عام 2023، قبل الانتخابات الرئاسية.[6]

وفي يناير 2024 أعلن أسيمي جويتا مع زعماء المجالس العسكرية في بوركينا فاسو والنيجر الانسحاب من منظمة الإيكواس اعتراضًا على مواقفها من الدول الثلاث والعقوبات التي فرضتها عليهم، وفي سبتمبر 2023 وقع زعماء الدول الثلاث ميثاق ليبتاكو-غورما بينهم، ليشكلوا “تحالف دول الساحل”، الذي تحول في يوليو 2024 إلى كونفدرالية بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر.[7]

وكل هذا يعكس شخصية جويتا وما يتسم به من صفات قيادية، ورغبته في التحرر من السلطات التقليدية التي كانت تسيطر على غرب أفريقيا.

2 . زعيم المجلس العسكري في بوركينا فاسو النقيب/ إبراهيم تراوري:

تولى إبراهيم تراوري رئاسة المجلس العسكري في بوركينا فاسو بعد إطاحته بالكولونيل بول هنري داميبا في 30 سبتمبر 2022، وداميبا هو قائد انقلاب 2021 في بوركينا فاسو، بعد أن اتهمه تراوري بعدم الوفاء بتعهده بالقضاء على انتشار الجماعات الإرهابية التي تشهدها بوركينا فاسو.

ولد تراوري عام 1988، مما يجعله أصغر زعيم عسكري في أفريقيا، ويضعه في مصاف قائدَي الانقلاب الآخريَن في أفريقيا حاليا، مثل زعيم مالي الكولونيل أسيمي جويتا، إلا أنه لم يصل لرتبة عقيد كآسيمي جويتا، فهو ضابط برتبة كابتن/ نقيب.

وقد درس في أكاديمية عسكرية محلية والتحق بالجيش في عام 2009، وتلقى تدريبات في سلاح المدفعية بالمغرب، واختار المجال العسكري بعد أن أكمل دراسته في مدينة بوبو- ديولاسو، ثاني أكبر مدن بوركينا فاسو.[8]

اكتسب تراوري خبرته العسكرية الأولى من خلال محاربة المتطرفين في مالي، حيث كان يخدم ضمن قوة الأمم المتحدة هناك، وشارك بدور هام في تأمين منطقة تيمبوكتو التاريخية بعد هجوم شنه مسلحون عليها عام 2018، ومن ثم تربطه علاقات جيدة بالعسكريين في مالي.

في 2019، شارك في عملية عسكرية في شرق بوركينا فاسو المضطرب، كما خدم أيضا في سرية للجيش ببلدة ماركوي في منطقة الساحل الشمالية، وشارك في عدة عمليات هناك.

يشَبهه البعض بزعيم بوركينا فاسو الثوري الراحل توماس سانكارا؛ مما يجعله أيضا بمثابة بطل وطني، حيث وصل للحكم بعد انقلاب عسكري في سن صغيرة، وسعى إلى عمل بعد الإصلاحات في بلاده، مثل سانكارا.[9]

وفي أواخر سبتمبر 2023 أعلن رئيس بوركينا فاسو الانتقالي إبراهيم تراوري اعتزامه إجراء تعديل جزئي لدستور بلاده بعد نحو عام تقريبا على وصوله إلى السلطة عبر انقلاب، معتبرا أن النص المعتمد حاليا يعكس “رأي حفنة من النخبة” على حساب “الجماهير الشعبية”.[10]

وفي الخامس والعشرين من مايو 2024 نص ميثاق تبناه المشاركون في الحوار الوطني في بوركينا فاسو على تمديد حكم النظام العسكري الانتقالي بقيادة إبراهيم تراوري الرئيس الانتقالي خمسة أعوام إضافية، وأشار الكولونيل موسى ديالو رئيس اللجنة المنظمة للحوار الوطني، إلى إنّ مدة المرحلة الانتقاليّة حُدّدت بـ60 شهرا، اعتبارا من يوليو 2024، وأنّ تراوري سيتمكن من الترشح في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية التي ستنظم في نهاية هذه المرحلة، موضحًا أنه يمكن إجراء الانتخابات قبل الموعد النهائي للمرحلة الانتقالية إذا سمح الوضع الأمني بذلك.[11]

وكما سبقت الإشارة تربط إبراهيم تراوري علاقات قوية بقيادات المجلس العسكري في مالي وعلى رأسهم الكولونيل جويتا، واشترك معه ومع المجلس العسكري في النيجر في تكوين “تحالف دول الساحل”؛ مما يعني بأنه يسير على نفس خط جويتا وأنه متأثر بشخصيته.

3- الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي:

هو نجل الرئيس التشادي الراحل إدريس ديبي، من مواليد عام 1984، ينتمي محمد إدريس ديبي إلى قبيلة “الزغاوة”. وهي قبيلة عربية تعيش غالبية أفرادها بين تشاد والسودان، ويشغلون مناصب سياسية وعسكرية عليا في تشاد ولهم تأثير كبير على السلطة.

نشأ محمد ديبي في كنف والده وتخرج من المدرسة العسكرية في تشاد، ودرس فنون الحرب والتخطيط العسكري، ثم استكمل بعد ذلك دراسته في ثانوية عسكرية في مدينة “إيكس أون بروفانس” الفرنسية لمدة ثلاثة أشهر فقط، وبعد عودته من فرنسا، عينه إدريس ديبي في المديرية العامة لأمن مؤسسات الدولة التي ينتمي إليها الحرس الرئاسي.

شارك محمد إدريس ديبي في العديد من العمليات العسكرية بتشاد إلى جوار والده ضد المتمردين، وتعد معركة “أم دام” ضد متمردي “تيمان أرديمي” شرق تشاد في 2009 أبرز “محطات” محمد إدريس ديبي العسكرية، حيث استطاعت القوات التشادية وقتها هزيمة المتمردين.[12]

يحظى محمد ديبي باحترام الجنود والمسؤولين العسكريين، وفي 2010 تولى قيادة فرق مدرعة من فيلق النخبة بالجيش التشادي، ثم عين في 2012 رئيسا للحرس الرئاسي، وفي 2013 أصبح محمد ديبي قائدا مساعدا للقوات المسلحة التشادية في مالي، ومكنه هذا المنصب المهم من تطوير قدراته العسكرية واكتساب خبرة ميدانية، فضلا عن تطويد العلاقات مع القوات الفرنسية المتواجدة وقتها في مالي.

وبمرور الوقت، اكتسب محمد إدريس ديبي خبرة عسكرية لا يستهان بها وأثبت نفسه في هرم السلطة التشادية، وبعد وفاة رئيس تشاد السابق إدريس ديبي في أبريل 2021 بسبب إصابته على جبهة القتال، أعلن نجله محمد إدريس ديبي تولي “مهام رئيس الجمهورية” وفق الميثاق الانتقالي الذي يمنح له صلاحيات واسعة، أبرزها منصب قائد القوات المسلحة، ليكون الرئيس الانتقالي لتشاد.[13]

وقبل خوض محمد إدريس ديبي الانتخابات الرئاسية في بلاده التي حسمت لصالحه في مايو 2024، أصدر كتابا يحمل سيرته الذاتية بعنوان  كتاب “من بدوي إلى رئيس” De bédouin à président، حيث كان هذا الكتاب جزءًا من حملته الانتخابية أكد فيه على أنه لم يكن حريص على الوصول للحكم ولكن الظروف هي التي اضطرته لذلك بعد مقتل والده، وأنه تولى رئاسته تحت إلحاح قادة الجيش وذويه المقربين.[14]

وفي أواخر مايو 2024 تم تنصيب محمد إدريس ديبي، رئيسا لتشاد لتنتهي المرحلة الانتقالية في تشاد، التي دامت قرابة 3 سنوات، حيث فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في السادس من مايو، بحصوله على 61% من الأصوات.[15]

ثانيًا- الزعماء الشباب الذين وصلوا للحكم من صفوف المعارضة

1.الرئيس السنغالي باسيرو فاي:

تختلف تجربة الرئيس السنغالي باسيرو فاي عن زعماء الانقلابات السابقة في أنه وصل إلى السلطة عن طريق صندوق الانتخابات، أي أنه وصل بصورة شرعية حدث فيها انتقال سلمي للسطلة، لكن لم يكن وصول فاي للحكم بالأمر السهل، حيث سبقه فترة من الاضطرابات في السنغال كادت أن تعصف بالدولة، بعد المظاهرات التي نزلت في الشوارع تأييدا للمعارض الشاب عثمان سونكو، الذي أصبح رئيس وزراء السنغال في عهد الرئيس باسيرو فاي.

وقد اهتمت وسائل الإعلام العالمية بفوز فاي، حيث ذكر موقع بي بي سي عربي “أن صعود المذهل لـه يعد بمثابة تذكير قوي بأن الانتخابات لا تزال تمثل أفضل وسيلة لإزالة حكومة فاشلة بالنسبة للعديد من المواطنين في أفريقيا، كما أن فوز فاي لم يقتصر على إزاحة حكومة لا تحظى بالشعبية من السلطة فحسب، بل إنه عزز المؤسسات الديمقراطية في البلاد وأعاد تنشيط الثقة الشعبية في الديمقراطية في وقت أدت الانقلابات في دول أخرى في غرب أفريقيا إلى العكس”.[16]

ويعد فاي أصغر رئيس دولة في إفريقيا، وهو الرئيس رقم 5 في تاريخ السنغال منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، وصل إلى الحكم في إبريل 2024 في عمر 44 عاما، فهو من مواليد 25 مارس 1980 وفاز بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى وبنتيجة 54.28% من الأصوات، حاصل على درجة الماجستير في القانون عام 2004، ويعمل مفتش ضرائب، عرف عنه نظافة اليد والبعد عن الفساد، ينتمي إلى أسرة متوسطة الحال في سط السنغال، ولم يتولى أي منصب حكومي سواء بالتعيين أو بالانتخاب قبل ذلك.

انضم إلى حزب “الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة” المعروف اختصارا بـ “باستيف” الذي أسسه مع المعارض عثمان سونكو، والذي تعرف عليه عام 2014، وتولى فاي الأمانة العامة للحزب، وملف السنغاليين في الخارج، ومن خلال جولاته المتعددة في أوروبا بشكل خاص مكنته من القدرة على حشد التأييد والدعم السياسي والمالي للحزب الذي استطاع في فترة وجيزة أن يستحوذ على أكبر نسبة من دعم الجماهير الشبابية في بلاده.

وعلى إثر الاضطرابات التي حدثت في السنغال قبل الانتخابات، دخل باسيرو فاي السجن لمدة 11 شهرًا من أبريل 2023 حتى مارس 2024 بتهمة نشر أخبار غير صحيحة، ثم خرج بعفو عام مع زعيم حزبه عثمان سونكو وقيادات أخرى، قبل موعد الانتخابات بأيام. [17]

ومن ثم فإن فوز فاي كان بمثابة الأمل للشباب السنغاليين المحبطين بسبب الافتقار إلى الفرص الاقتصادية، مع تشبث النخب القديمة بالسلطة.[18]

ومع وصول فاي إلى السلطة اهتم بالتكامل الإقليمي مع دول الجوار، وعلى رأسها الدول التي تحكمها الأنظمة العسكرية في غرب أفريقيا، فقام بزيارة كل من مالي وبوركينا فاسو في أواخر مايو  2024[19]، والتقى جويتا وتراوري، وأوضحت هذه الزيارة سعيه إلى المصالحة بشكل غير مباشر بين قادة الانقلابات العسكرية ومنظمة الإيكواس؛ فإيكواس لا تزال رمزا هامًا من رموز الوحدة والتكامل بين دول غرب أفريقيا، وتفككها لن يصب في مصلحة منطقة غرب أفريقيا، رغم أن الرئيس السنغالي أشار إلى أن زيارته لمالي وبوركينا فاسو لم تأتِ بوصفه وسيطا للإيكواس، بالإضافة إلى موقفه الرافض للاستغلال الفرنسي لدول غرب أفريقيا؛ مما يعني أن الأيام المقبلة قد تشهد مزيدا من التواصل بينه وبين الزعماء العسكريين الشباب في المنطقة.

2. رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو:

يمكن أن يطلق على عثمان سونكو لقب “قائد التغيير في السنغال”، حيث كان له دور كبير في الحراك الذي حدث في الشارع السنغالي قبل الانتخابات الرئاسية، ويرجع الفضل له في وصول (باسيرو فاي) الزعيم الشاب من المعارضة إلى السلطة في السنغال.

يعد سونكو من أبرز المعارضين السنغاليين، وقد حُكم عليه بالسجن في يونيو 2023، بعد إعلان ترشحه لرئاسة السنغال بتهمة “إفساد الشباب”، وسبق أن اتُهم بالاغتصاب والتهديد بالقتل باستخدام سلاح وجّهت إليه في فبراير 2021، لكن تم تبرئته من هذه التهم، ووصفها سونكو وقتها بـ “محاولة للتصفية السياسية” التي يقودها المعسكر الرئاسي الحاكم ضده.

ولد عثمان سونكو في 15 يوليو 1974، وتخرج من جامعة “سان لويز” السنغالية في 1999 وحصل على شهادة جامعية في القانون العام، وفي عام 2001 بدأ عمله كمفتش في المالية والضرائب.

ينتمي سونكو إلى طبقة اجتماعية بسيطة، جعلته يهتم بالعمل النقابي إذ نشط كثيرا في النقابات السنغالية إلى أن أسس “النقابة المستقلة لموظفي الضرائب”، ودخل من خلال العمل النقابي إلى عالم السياسة، حيث شغل منصب السكرتير الأول لهذه النقابة من 2005 حتى 2012، كما مكنه عمله في مجال التفتيش المالي والضريبي من اكتشاف العديد من التجاوزات المالية وسوء الإدارة العامة بالسنغال؛ مما جعله يدعو في جميع خطاباته الشعبية إلى التحلي بالشفافية في تسيير شؤون البلاد وإلى محاربة الفساد الذي استشرى في الاقتصاد السنغالي.[20]

وفي محاولة منه تغيير الوضع السياسي، أسس سونكو في 2014 حزب “الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة” المعروف اختصارا بـ”باستيف”، وهو حزب يسانده الشباب بصفة خاصة، ويدافع عن الذين يعانون من مشاكل اجتماعية واقتصادية، ويركز الحزب على الإيمان بالحريات العامة والفردية، وفقا للمباديء التي أعلنها المنتمون للحزب. 

وقد فاز سونكو بمقعد في البرلمان السنغالي في 2017 وشغل منصب عضو في الجمعية الوطنية السنغالية من 2017 ولعدة سنوات، ثم أصبح بعدها يفكر في طريقة الوصول إلى أعلى هرم السلطة، فشارك للمرة الأولى في الانتخابات الرئاسية عام 2019، تحت راية ائتلاف “سونكو بريزيدانت”، ومن هنا كانت انطلاقته السياسية وخطوة هامة في مسيرته التي يبدو أنها أحرجت خصومه السياسيين، حيث حصل فيها على المركز الثالث بنسبة 15٪ من الأصوات بعد إدريسا سيك والرئيس المنتهية ولايته حينها ماكي سال.

وبذلك جذب عثمان سونكو الانتباه إليه وتحديدًا لدى الشباب السنغالي، الذين رأوا في شعارات حملته الانتخابية، “محاربة الفساد” ومواجهة عمليات “اختلاس أموال الدولة”، متنفسًا كبيرًا لهم، واصفين إياه بالرجل “النظيف”، كما استطاع شغل منصب رئيس بلدية مدينة زيغينشور منذ 2022.[21]

أما بخصوص الانتخابات الرئاسية 2024، فقد أعلن عثمان سونكو عن نيته في الترشح وبعدها تم سجنه، لكن الشارع السنغالي رفض حبسه وخرجت المظاهرات اعتراضًا على الأمر، كما لعبت جماعات المجتمع المدني والصحفيون دوراً هاماً، حيث واصلوا الإبلاغ عن الانتهاكات؛ مما زاد الضغط على الرئيس السابق ماكي سال، وأدى إلى التراجع والاستجابة لمطالب عقد الانتخابات الرئاسية.

وفي النهاية، أدت هذه الجهود، والتقاليد الديمقراطية في السنغال، إلى قيام سال بإطلاق سراح فاي وسونكو من السجن، في الوقت الذي أشار فيه بعض المحللين إلى أن هذه الخطوة كانت جزءًا من صفقة عفو أوسع لمنح الحصانة لقادة الحكومة، لِما ارتكبوه من انتهاكات خلال فترة الاضطرابات السياسية.[22]

وقد توقع سونكو أن يُمنع من الترشح في الانتخابات بسبب إدانته، وبالفعل رفض المجلس الدستوري في السنغال بعد ذلك طلبه للترشح على أساس أنه “غير مكتمل”، وعلى الرغم من الجهود المبذولة لإعادة اسمه إلى صناديق الاقتراع، توصل زعماء “باستيف” إلى استنتاج مفاده أنه من غير المرجح أن يُسمح له بالترشح، وقد أوضح هذا الإدراك أن اختيار باسيرو فاي، كان خيارًا أكثر أمانًا، حيث أنه لم يُقدم للمحاكمة فعليًا، وبالفعل رشحوا باسيرو فاي بدلًا من سونكو، والذي أبدى مرونة كبيرة، ووافق على هذه الخطوة، على الرغم من أنها تعني أنّ سونكو لن يصبح رئيس البلاد.[23]

وبعد تنصيب باسيرو فاي رئيسًا للسنغال عين عثمان سونكو في بداية أبريل 2024، بمنصب رئيس وزراء السنغال، لينجح الرفيقان المعارضان في الوصول للسلطة بعد سنوات من النضال السياسي.  

ختامًا: يتضح من العرض السابق مجموعة قواسم مشتركة بين القيادات الجديدة التي أفرزتها التغيرات السياسية في منطقة غرب أفريقيا، أبرزها أن أعمارهم تتراوح ما بين أواخر الثلاثينيات أو منتصف الأربعينات من العمر، وهذا يعني فئة جديدة من الحكام الشباب، يحملون رؤية شابة وطموحات جديدة، وهو ملمح غير معتاد في القارة الأفريقية التي تخطى فيها سن بعض الزعماء التقليديين السبعينيات مثل يوري موسيفني صاحب الثمانين عامًا، بل إن بعض الحكام تخطى التسعين، مثل رئيس الكاميرون بول بيا الذي يبلغ من العمر 91 عاما، ويسعى للترشح لدورة رئاسية جديدة، وكذلك روبرت موجابي زعيم زيمبابوي الراحل حيث كان عمره نحو 93 عامًا عند تركه للحكم بفعل انقلاب عسكري عليه.

كذلك يرفض معظم هؤلاء القادة الوجود الفرنسي في بلدانهم الذي يرونه استمرارًا لعهد الاستعمار والاستنزاف لموارد دولهم دون أن تستفيد الشعوب الأفريقية شيئا يُذكر، بل إنهم اتخذوا خطوات فعلية لإنهائه، مثل طرد سفراء وفرنسا والمطالبة بسحب القوات الفرنسية، وهذا دفعهم لتحالفات مع قوى دولية جديدة أبرزها روسيا.

ومن القواسم المشتركة بين هؤلاء الزعماء أيضا أنهم يحظون بتأييد من الرأي العام الداخلي لدولهم وخاصة الشباب؛ لأنهم رأوا فيهم بصيص من الأمل يخلصهم من الفساد السياسي والفقر المنتشر، وتوضح تعليقات الشباب في دول الساحل على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي هذا التأييد، بالإضافة إلى نجاحهم في الوصول إلى السلطة سواء العسكريين الشباب، أو المعارضين الشباب رغم دخولهم السجن.

كل هذا يؤكد أن المشهد في دول غرب أفريقيا تغير بشكل كبير ولن تتوقف إفرازاته عند هذا الحد، وما سيحكم بقائهم أو عدم بقائهم في السلطة، أو استمرار التأييد الشعبي لهم من عدمه، هو مدى نجاحهم فيما فشل فيه سابقيهم من ملفات؛ خصوصا مع ميولهم للبقاء في السلطة لوقت طويل مثلما حدث في بوركينا فاسو والتمديد لتراوري، وكذلك تأخير الانتخابات في مالي أكثر من مرة.


[1] موقع فرنسا 24، أسيمي غويتا… الرجل القوي في مالي الذي أطاح برئيسين في أقل من عام، تاريخ النشر 26 مايو 2021 ،

الرابط : https://t.ly/IAIfb

[2] المرجع السابق.

[3] موقع الجزيرة نت، آسيمي غويتا.. ضابط مالي قلّص نفوذ فرنسا في دول الساحل، تاريخ النشر 19 أكتوبر 2022

الرابط: https://t.ly/7KKzk

[4] أسيمي غويتا… الرجل القوي في مالي الذي أطاح برئيسين في أقل من عام، مرجع سبق ذكره.

[5] موقع بي بي سي عربي، انقلاب مالي: قائد الانقلاب أسيمي غويتا يستولي على السلطة مرة أخرى، تاريخ النشر 25 مايو 2021، الرابط: https://www.bbc.com/arabic/world-57248402

[6] موقع فرنسا 24، مالي: المجلس العسكري يعلن تأجيل الانتخابات الرئاسية المقررة في فبراير 2024، تاريخ النشر 25 سبتمبر 2023، الرابط: https://t.ly/JoO2Z

[7] د. أحمد عسكر، “هل يستمر تحالف دول كونفدرالية الساحل“، في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تاريخ النشر 15 يوليو 2024، الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21218.aspx

[8] موقع بي بي سي عربي، “إبراهيم تراوري: ماذا نعرف عن القائد العسكري الجديد لبوركينا فاسو؟“، تاريخ النشر 5 أكتوبر 2022

https://www.bbc.com/arabic/world-63122663

[9] أشار موقع واكات سيرا Wakat Sera الإخباري: “تولى إبراهيم تراوري زعامة البلاد، مثل توماس سانكارا، بعد انقلاب عسكري مثله، وهو كابتن بالجيش مثله، ويبلغ من العمر 34 عاما مثله أيضا. فهل هذا من تدابير القدر لبوركينا فاسو التي تبحث عن معالم جديدة؟”، للمزيد انظر: المرجع السابق.

[10] موقع سكاي نيوز عربية، تراوري يعلن تعديلا جزئيا لدستور بوركينا فاسو، تاريخ النشر 30 سبتمبر 2023، الرابط:https://t.ly/6aRvx

[11] موقع روسيا اليوم، تمديد النظام العسكري في بوركينا فاسو 5 أعوام إضافية، تاريخ النشر 25 مايو 2024،

الرابط:  https://t.ly/J7-4K

[12] طاهر هاني، من هو محمد إدريس ديبي الرجل القوي الجديد في تشاد؟، موقع فرنسا 24، تاريخ النشر 22 إبريل 2024،

 الرابط: https://t.ly/-rDvQ

[13] المرجع السابق.

[14] الجزيرة نت، “من بدوي إلى رئيس”.. سيرة محمد إدريس ديبي رئيس الفترة الانتقالية لتشاد، تاريخ النشر 17 إبريل 2024، الرابط: https://t.ly/kykb7

[15] موقع العين الإخباري، تنصيب محمد إدريس ديبي رئيسا لتشاد.. من هو الرئيس الشاب؟، تاريخ النشر 23 مايو 2024، الرابط:

https://al-ain.com/article/mohamed-idriss-deby-chad-africa

[16] موقع بي بي سي عربي، “باسيرو ديوماي فاي.. من السجن إلى رئاسة السنغال”، تاريخ النشر 2 أبريل 2024 ،

الرابط: https://www.bbc.com/arabic/articles/cpd33zg329vo

[17] يوسف دياب، السنغال: تعرف علي أهم 8 معلومات عن الرئيس السنغالي الجديد؟، موقع أفرو نيوز، تاريخ النشر 3 أبريل 2024، الرابط: https://t.ly/7lwO8

[18] موقع بي بي سي عربي “باسيرو ديوماي فاي.. من السجن إلى رئاسة السنغال”، مرجع سبق ذكره.

[19] مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، جولة إقليمية للرئيس السنغالي باسيرو فاي تدعم جهود التكامل الإفريقي، تاريخ النشر 31 مايو 2024، الرابط:

https://www.ecssr.ae/ar/products/1/197150https://www.ecssr.ae/ar/products/1/197150

[20] هدى المسعودي، من هو المعارض عثمان سونكو الذي أثار حكم سَجنه احتجاجات دامية في السنغال؟، مونت كارلو، تاريخ النشر 3 يونيو 2023، الرابط: https://t.ly/K57ys

[21] المرجع السابق.

[22] موقع بي بي سي عربي ، “باسيرو ديوماي فاي.. من السجن إلى رئاسة السنغال”، مرجع سبق ذكره.

[23] المرجع السابق.