صراع الظلال.. تداعيات المواجهة بين إيران وإسرائيل على القارة الأفريقية

يونيو 23, 2025

كتبت – مريم أحمد عبد المطلب

باحثة ماجستير علوم سياسية

شهدت منطقة الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة تصعيدًا غير مسبوق بين إيران وإسرائيل، مع تتابع الهجمات العسكرية المباشرة والتصعيد الاستراتيجي بين الطرفين، بعدما انتقلت المواجهة من ساحات الوكالة إلى ضربات مباشرة غير مسبوقة، وقد اشتد الصراع يوم 13يونو 2025، حيث شملت استهدافًا لمنشآت عسكرية ونووية وقادة سياسيين وخلال ساعات أقدمت إيران على تنفيذ هجوم مباشر ضد إسرائيل من أراضيها. وبالرغم من أن بؤرة هذا الصراع تتركز في الشرق الأوسط، بل امتدت تداعياته نحو مناطق أبعد، وعلى رأسها القارة الأفريقية التي باتت تحاصرها أزمات عالمية متلاحقة، والتي وجدت نفسها مجددًا أمام معادلات جيوسياسية دولية معقدة تفرض عليها أثمانًا باهظة دون أن تكون طرفًا مباشرًا فيها. ويُظهر تقرير حديث صادر عن “معهد الدراسات الأمنية” أن تصاعد الأعمال العدائية في الشرق الأوسط سيكون له آثارٌ سلبية على أفريقيا. ومع تصاعد التوترات بين هاتين الدولتين، يمكن الشعور بتداعياتها على المشهد السياسي الأفريقي، وديناميكيات الأمن، والفرص الاقتصادية، والتحالفات الإقليمية.[1]

ومما أزاد المشهد تعقيدا التدخل العسكري الأمريكي المباشر في إيران يوم 22 يونيو 2025شكل نقطة تحول استراتيجية في مسار التصعيد، بعدما استهدفت واشنطن مواقع عسكرية ومنشآت حساسة داخل الأراضي الإيرانية، في ردٍّ على الهجوم الإيراني واسع النطاق ضد إسرائيل. هذا التصعيد الأميركي ـ الإيراني لا يعمّق فقط حالة عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بل يعيد رسم خريطة التفاعلات الجيوسياسية، بما يطال أمن الطاقة، وحركة التجارة، وممرات الملاحة البحرية العالمية. وبالنسبة للدول الإفريقية، فإن اتساع رقعة الصراع إلى مواجهة أمريكية ـ إيرانية مفتوحة يحمل تداعيات مضاعفة.

1-التأثير الاقتصادي:

سيؤثر الصراع الإيراني الإسرائيلي في الدول الأفريقية من خلال ديناميكيات الطاقة؛ فاحتياطيات إيران النفطية تجعلها لاعبًا أساسيًا في أسواق الطاقة العالمية. إذا اشتد الصراع فقد تؤثر تقلبات أسعار النفط على الاقتصادات الأفريقية التي يعتمد الكثير منها اعتمادًا كبيرًا على واردات الطاقة. قد تواجه دول مثل مصر وجنوب أفريقيا ضغوطًا اقتصادية إذا أعاق ارتفاع الأسعار نموها. في المقابل، قد تجد الدول القادرة على الاستفادة من هذا الوضع – مثل تلك العاملة في إنتاج النفط أو مصادر الطاقة البديلة – فرصًا لتعزيز وضعها الاقتصادي.

حظي سوق النفط بالتأثير الأكبر من الصراع المتصاعد في التداولات الفورية والعقود الآجلة متخطية حاجز 70 دولاراً؛ حيث ارتفعت أسعار الخام بفعل المخاوف من تعطيل الصراع الإيراني – الإسرائيلي للإمدادات[2]. ووفقًا لتوقعات بنك الاستثمار الأمريكي “جيه بي مورجان” ، فإن إغلاق مضيق هرمز أو التوقف الكامل للإنتاج الإيراني أو تهديد الملاحة في الخليج قد يدفع بأسعار النفط إلى مستويات تصل إلى 130 دولاراً للبرميل[3]. وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت بما يصل إلى 18% منذ 10 يونيو لتبلغ أعلى مستوى لها في خمسة أشهر تقريبًا عند 79.04 دولار يوم 19 يونيو [4]2025.

تُعد الدول الأفريقية من أكثر المناطق تأثرًا بهذه التغيرات، نظرًا لاعتمادها الكبير على واردات الطاقة. ما يضع ضغطًا هائلًا على الدول الأفريقية المستوردة للطاقة، خاصة تلك التي تعاني أصلًا من أزمة عملات أجنبية. ففي غانا، على سبيل المثال، أعادت موجة ارتفاع الأسعار إشعال التضخم، ووضعت الحكومة أمام تحديات في توفير العملة الصعبة لتأمين واردات الوقود. أما في جنوب أفريقيا، فقد تراجعت العملة المحلية بنسبة 1.6% أمام الدولار، في انعكاس مباشر لحالة القلق التي انتابت المستثمرين. في المقابل، وفي الوقت الذي تواجه فيه الدول المستوردة للنفط ضغوطًا مالية إضافية، قد تستفيد بعض الدول المنتجة مثل نيجيريا وليبيا من ارتفاع الأسعار على المدى القصير، إلا أن مكاسبها تظل مشروطة باستقرار الإنتاج، وإصلاح البنى التحتية، وتوفير بيئة استثمارية آمنة.

كما تسعى الدول الأفريقية إلى تعزيز مرونتها الاقتصادية وتقليل انكشافها على الاضطرابات العالمية، خاصة تلك المرتبطة بالدولار الأمريكي. ويبرز في هذا السياق نظام “تحويل المدفوعات عبر الحدود الأفريقية” (PAPSS) [5] الذي أُطلق عام 2022 كأحد أهم أدوات القارة لمواجهة تداعيات تلك الصراعات. يوفر هذا النظام منصة موحدة تتيح تسوية المعاملات التجارية بين الدول الأفريقية باستخدام العملات المحلية، دون الحاجة إلى المرور عبر الدولار أو غيره من العملات الأجنبية الصعبة. وقد انضمت حتى الآن 15 دولة إلى PAPSS، من بينها كينيا وزامبيا وتونس، ويشارك فيه نحو 150 بنكًا تجاريًا. ومن خلال هذا التحول، يمكن تقليص كلفة المعاملات من نحو 30٪ إلى أقل من 1٪، وتوفير ما يقارب 5 مليارات دولار سنويًا من النقد الأجنبي، وفق تقديرات المؤسسة المشغلة للنظام.

تكمن أهمية هذا التوجه في قدرته على تحصين الاقتصادات الأفريقية من تقلبات أسواق الصرف العالمية، والتي غالبًا ما تتفاقم في ظل النزاعات الإقليمية والدولية. وفي حال تصاعد الصراع الإيراني الإسرائيلي إلى مستويات تؤثر في حركة التجارة الدولية أو أسعار الطاقة، فإن الاقتصادات الأفريقية، التي تعتمد تاريخيًا على الدولار في التجارة والتسويات، ستكون أكثر عرضة للضغط على احتياطاتها الأجنبية وتقلبات التضخم.

لكن مع تنامي الاعتماد على أنظمة دفع إقليمية مثل PAPSS، تسير أفريقيا بخطى متسارعة نحو بناء منظومة مالية أكثر استقلالية. هذه الخطوة لا تُسهم فقط في تسهيل التجارة البينية، بل تُعد استراتيجية تحوّط فعّالة ضد التبعات الاقتصادية المحتملة للصراعات الكبرى، ومنها المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، والتي قد تعيد رسم خريطة التمويل والطاقة في العالم. في هذا السياق، تبدو مبادرة PAPSS جزءًا من جهود القارة لتنويع مصادرها وتقليل انكشافها على مخاطر الجغرافيا السياسية الدولية.

2-الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد:

تؤثر هذه الأزمة أيضًا في الأمن الغذائي الأفريقي، نظرًا لاعتماد العديد من الدول على واردات الغذاء والوقود عبر ممرات شحن بحرية معرضة للخطر. فالتصعيد في البحر الأحمر، نتيجة لهجمات الحوثيين على السفن التجارية، أجبر عددًا متزايدًا من شركات الشحن على تغيير مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح، ما رفع التكاليف وأطال فترات الشحن. هذه التحديات تضرب الاقتصادات الهشة في دول مثل الصومال، إثيوبيا، والسودان، التي تعتمد بشكل شبه كلي على الموانئ في استيراد المواد الأساسية يمتد التأثير الاقتصادي للصراع إلى سلاسل الإمداد الغذائية. فالهجمات المتكررة التي ينفذها الحوثيون – المدعومون من إيران – على السفن التجارية في البحر الأحمر دفعت العديد من شركات الشحن إلى تغيير مساراتها والالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تأخير الشحنات وارتفاع تكلفتها.

بالإضافة إلى تلويح إيران بإغلاق مضيق هرمز– معبر بحري رئيسي يمر عبره نحو 20 في المئة من النفط المنقول بحراً في العالم، وهو ما يعد مصدراً للقلق في حال تطور الصراع قد يمثّل ضربة موجعة للدول الأفريقية التي تعتمد على هذه الممرات البحرية في استيراد الغذاء والوقود. معظم هذه الدول تواجه بالفعل صعوبات في تلبية الطلب المحلي، ويؤدي أي تعطيل إضافي في حركة الملاحة إلى تفاقم العجز التجاري، ونقص المعروض من السلع الأساسية، وتآكل القدرة الشرائية للمواطنين.

يُرجَّح أن يتحوّل البحر الأحمر إلى ساحة صراع مفتوحة، بفعل التداخل بين خطوط التجارة العالمية والمواجهات البحرية غير المباشرة. ومع احتدام التوتر، زادت احتمالات اندلاع مواجهة بحرية بين الولايات المتحدة – حليفة إسرائيل – والقوات البحرية الإيرانية، خاصة في حال إغلاق مضيق هرمز أو تصعيد الهجمات في مضيق باب المندب.

يهدد مثل هذا السيناريو بشكل مباشر الدول الأفريقية المطلة على البحر الأحمر، مثل جيبوتي والصومال والسودان، التي تعتمد على الموانئ البحرية كنقاط عبور استراتيجية. وتشير تقارير أمنية إلى تنسيق محتمل بين الحوثيين وحركة الشباب في الصومال، ما يفتح الباب أمام موجة جديدة من العمليات العنيفة، ويضعف قدرة هذه الدول على حماية ممراتها الحيوية.

3-أفريقيا في مرمى التنافس الجيوسياسي:

تُمثل أفريقيا، في هذا السياق، ساحة ثانوية لتنافس جيوسياسي دولي، لكنها تدفع ثمنًا مضاعفًا لذلك. فهشاشة البنى الاقتصادية، وغياب آليات الحماية الاجتماعية، والاعتماد الكبير على الأسواق الخارجية، يجعلها الأكثر عرضة لارتدادات الأزمات الدولية، سواء من بوابة الطاقة، أو التجارة، أو التمويل.

خلال السنوات الأخيرة، كثّفت إيران محاولاتها لتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي في أفريقيا، مستفيدة من الانكفاء الغربي، ومن رغبة بعض الدول الأفريقية في تنويع تحالفاتها. وقد جاءت جولة الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي في يوليو 2023 إلى كينيا وأوغندا وزيمبابوي كمؤشر على طموح طهران لبناء موطئ قدم في القارة.

لكن التصعيد الأخير يهدد بتقويض هذه الجهود، حيث؛ إذ تجد الدول الأفريقية نفسها مضطرة إلى إعادة حساباتها بين التعاون مع إيران أو تجنب الاصطدام بالمواقف الغربية الداعمة لإسرائيل. كما يُعيد الصراع تفعيل النفوذ الإسرائيلي الاستخباراتي والأمني في المنطقة، خاصة في شرق أفريقيا، وهو ما قد يؤدي إلى انقسام جديد في مواقف الدول بين الاصطفاف والتحفظ.

في ظل التصاعد المستمر للصراع، تبدو أفريقيا وكأنها تدخل في مرحلة جديدة من التفاعل الإجباري مع تحولات النظام الدولي. فمع تراجع دور القوى الغربية، وازدياد الحضور الإيراني – الإسرائيلي في القارة، تجد الحكومات الأفريقية نفسها أمام خيارات صعبة: إما الانخراط في تحالفات قد تُعرضها لضغوط سياسية واقتصادية، أو الانكفاء ومحاولة تحييد نفسها عن صراع تدفع ثمنه دون أن تشارك فيه.

والأخطر أن الدول الأفريقية لا تملك أدوات كافية لامتصاص الصدمات المتكررة الناتجة عن هذا النزاع. فهشاشة البنى التحتية، وغياب السياسات الاحترازية، واعتماد معظمها على الاقتصاد الريعي أو المساعدات الخارجية، يجعل من كل أزمة خارجية ضربة داخلية مضاعفة. ورغم أن بعض الدول قد تحاول استثمار الوضع من خلال تعزيز علاقاتها مع أطراف النزاع، إلا أن غالبية الحكومات تجد نفسها أمام معضلة: البقاء على الحياد في مواجهة نزاعٍ دولي، أو الدخول في تحالفات قد تؤدي إلى عزلة سياسية واقتصادية.

علاوة على ذلك، مع دخول الولايات المتحدة طرفًا مباشرًا في النزاع، قد يؤدي إلى عسكرة المنطقة ويفتح الباب أمام توسيع نفوذ القوى الكبرى في مناطق مثل القرن الأفريقي، مما يعرض القارة إلى مزاحمة جيوسياسية جديدة فوق أزماتها الداخلية. بالإضافة أنه نظراً لموقع جيبوتي الاستراتيجي عند مضيق باب المندب، تُعد من أكثر الدول الإفريقية تأثرًا بتصعيد الصراع الأمريكي -الإيراني فقد تتحول جيبوتي إلى ساحة لوجستية وعسكرية لقوات أجنبية، كونها تستضيف قواعد عسكرية أمريكية وصينية وفرنسية. ازدياد التوتر في البحر الأحمر، وخصوصًا إذا استخدمت إيران أو الحوثيون أساليب هجومية بحرية، سيضع جيبوتي في قلب منطقة نزاع محتمل. كما سيهدد إثيوبيا -الدولة الحبيسة- فهي تعتمد على جيبوتي فأكثر من 90٪ من تجارة إثيوبيا الخارجية تمر عبر ميناء جيبوتي.

وفي الختام، يُعيد التصعيد الإسرائيلي – الإيراني تسليط الضوء على ترابط النظام الدولي، وعلى أن ما يحدث في منطقة واحدة قد يُحدث موجات صدمة في مناطق بعيدة عنها جغرافيًا. وإذا لم تنجح الدبلوماسية في احتواء هذا الصراع، فإن القارة الأفريقية ستكون واحدة من أبرز المتضررين، ليس فقط اقتصاديًا، بل أيضًا على صعيد الأمن الإقليمي واستقرار الأنظمة السياسية. وعلى الرغم من أن الصراع الإيراني – الإسرائيلي لا يدور على الأرض الأفريقية، إلا أن نتائجه تضرب عمق اقتصاداتها واستقرارها السياسي والاجتماعي. من أسعار النفط، إلى الأمن الغذائي، إلى التحالفات الإقليمية. كما أن التدخل الأمريكي في إيران لا يُعيد فقط تصعيد الأزمة الإقليمية، بل يُحدث ارتدادات جيوسياسية واقتصادية وأمنية قوية على القارة الإفريقية، وخصوصًا على دول الممرات الاستراتيجية مثل جيبوتي. فمع كل ضربة عسكرية تتسع دائرة الأثر، وتجد الدول الإفريقية نفسها محاصرة بتحديات لم تكن طرفًا فيها، لكنها تتحمّل تكلفتها.


[1] https://qiraatafrican.com/en/13697/iran-israel-conflict-what-are-the-implications-for-africa/

[2] https://cnnbusinessarabic.com/energy-and-sustainability/1121147/%D8%A3%D8%B3

[3] https://www.reuters.com/business/energy/jp-morgan-maintains-2025-forecast-oil-prices

[4] https://www.cnbcarabia.com/139401/2025/21/06/

[5] https://cnnbusinessarabic.com/sectors/1121027/