كتبت – أسماء حمدي
في مساء 28 مايو 2025، أسدل الستار على أحد أكثر الأصوات الأدبية تأثيرًا في أفريقيا، برحيل الكاتب والمفكر والمناضل الكيني نجوجي واثيونجو، عن عمر ناهز 87 عامًا. وقد أعلنت عائلته نبأ الوفاة عبر منشور لابنته، وانجيكو واثيونجو، على فيسبوك، قالت فيه: “بقلب مثقل بالحزن، نعلن وفاة والدنا، نجوجي واثيونجو. وكما كانت رغبته الأخيرة، فلنحتفل بمسيرة حياته وإرثه”.
لم يكن واثيونجو مجرد كاتب، بل كان ضميرًا ثقافيًا لبلاده، ومرشحًا دائمًا لجائزة نوبل في الأدب، وأحد القلائل الذين تحدوا مركزية اللغة الغربية بكتاباتهم الأصلية. سجن ونفي تحت نظام دانيال أراب موي، لكنه لم يحد يومًا عن طريقه. عاش واثيونجو للكلمة، ووهب حياته للدفاع عن كرامة اللغة والحرية، حتى لحظته الأخيرة.
من ذاكرة الاستعمار إلى جذور المقاومة
في عام 1938، وُلد نجوجي واثيونجو في قلب كينيا، في زمن كانت البلاد لا تزال تتلوى تحت وطأة الاستعمار البريطاني. لم تكن طفولته مجرد سيرة ذاتية عادية، بل نواة وعي مبكر بصوت الغاصب وظلم التاريخ. ومن هذه النواة، تشكلت لاحقًا ملامح مشروعه الأدبي، الذي مزج بين التوثيق والتحدي.
في روايته الأولى “لا تبكِ يا ولدي” عام 1964، تشكلت بذور هذا المشروع، إذ بدأ واثيونجو في تفكيك ما تركه الاستعمار من ندوب اجتماعية ونفسية. لم تكن الرواية مجرد حكاية عن أسرة، بل عن وطن ممزق، يبحث عن ذاته بين أنقاض الذاكرة.
حين يرتدي الطغاة بزّات محلية
لكن الكاتب لم يرضخ للحنين إلى الماضي، بل اتجه لاحقًا إلى مساءلة الحاضر نفسه، منتقدًا النخب الحاكمة التي ارتدت بدلات المستعمر، وأعادت إنتاج القمع تحت شعارات وطنية. ففي “الشيطان على الصليب” (1980) و”ساحر الغربان” (2006)، كشف واثيونجو عن كيف يمكن للسلطة أن تَخون الثورة، وأن يتحول الأمل إلى أداة للهيمنة.
في تلك الأعمال، لم يكن الصوت السردي فقط هو ما يلفت القارئ، بل أيضًا طاقة الغضب النبيل الذي يحول الأدب إلى محكمة تاريخية، تسائل النفاق السياسي وتدافع عن الإنسان المهمش.
الكرامة تبدأ من اللسان
في عام 1977، قدم واثيونجو مسرحيته السياسية بلغة غيكويو المحلية. كان ذلك فعلًا نادرًا آنذاك، ومخيفًا للنظام الحاكم، الذي لم يتردد في اعتقاله دون محاكمة. سُجن أكثر من عام في زنزانة انفرادية لا تُفتح إلا ساعة يوميًا.
لكن من داخل تلك العزلة، جاء قراره الأعظم، بأن يهجر الإنجليزية، لغة المستعمِر، ويكتب بلغته الأم. لم يكن القرار مجرد خيار لغوي، بل بيان ثوري: أن الكرامة تبدأ من اللسان، وأن التحرر لا يستكمل دون استرداد أدوات التعبير الأولى.
المنفى الجغرافي.. والوطن الذي لا يغيب
غادر واثيونجو كينيا نحو الولايات المتحدة، لكن ذاكرته لم تغادر وطنه. من منفاه، واصل فضح الاستبداد ومناصرة القضايا الأفريقية، خصوصًا في ميادين الثقافة واللغة. في كتابه “تفكيك ذهنية الاستعمار” عام 1986، صاغ نظريته الأبرز: “الاستعمار لم يحتل الأرض فقط، بل اللسان والذاكرة أيضًا”.
كتب فيه: “الاستعمار يجعل من غير الطبيعي شيئًا طبيعيًا”، و”لا يمكن للإمبريالية وتحالفاتها الداخلية أن تطور أفريقيا”. لقد جعل من اللغة ساحة معركة، ومن الثقافة جبهة دفاع أخيرة ضد محو الذات.
المقاومة و”اللا” التي لا تنكسر
واثيونجو لم يكن يرى في المقاومة عملًا بطوليًا نخبويًا، بل موقفًا يوميًا بسيطًا. وفي مقابلة مع “الجارديان” عام 2018، قال: “المقاومة هي أفضل وسيلة للبقاء.. حتى قول ‘لا’ للظلم شكل من أشكالها”.
وفي مذكراته “مصارعة الشيطان”، تحدث عن أهمية الإيمان الشخصي كأداة للبقاء في وجه القمع.
وحذر من تقسيم المعتقلين بين “صامتين أبرياء” و”مشاغبين”، مؤكدًا أن مثل هذه التصنيفات تعيد إنتاج منطق الطغيان تحت عناوين مختلفة.
“اللغة الأم” معركة هوية
“لا توجد لغة مهمشة في نظر أهلها”، كتب واثيونجو، الذي رأى في لغته الأم “غيـكويـو” نافذة على الكون لا تقل شأنًا عن الإنجليزية أو الفرنسية. اعتبر اللغات مثل الآلات الموسيقية، ولكل صوتها الذي لا يجوز اختزاله.
قال واثيونجو: “حين نريد إطلاق صاروخ إلى الفضاء، نحرص على قاعدة صلبة، القاعدة بالنسبة لنا هي لغاتنا، مواردنا، أجسادنا، وشعرنا، من هناك ننطلق إلى العالم”. كانت اللغة بالنسبة له ليست أداة، بل كينونة.
الكتابة كغناء.. والهوية كمقاومة يومية
في “أحلام في زمن الحرب” عام 2010، شبه واثيونجو الكلمات بالأغاني التي تحرك الذاكرة وتقاوم النسيان. وكان يصف تجربته مع الكتابة بلغته الأم كما لو كانت اكتشافًا يوميًا: “كنت أكتب جملة، ثم أقرأها صباح اليوم التالي، فأجد أنها قد تعني شيئًا آخر. كنت أميل للاستسلام، لكن صوتًا داخليًا كان يطالبني بالاستمرار”.
ولم يكن يخشى البساطة، إذ قال في إحدى المقابلات: “اللغة الوحيدة التي كان بوسعي استخدامها كانت لغتي”. وبها واجه العالم.
لا عرق يختزل الإنسان
لا هوية بلا وعي
رغم مكانته كأحد رموز الأدب الأفريقي، رفض واثيونجو اختزال رؤيته في العرق أو الإثنية. في مقابلة عام 2023، قال: “لا أرى العالم من منظور العرق أو الإثنية. قد يدخل العِرق في المعادلة، لكنه يأتي كنتيجة للطبقة الاجتماعية، وليس العكس”.
وفي “الشيطان على الصليب”، كتب: “حياتنا ساحة معركة بين من يسعون لتأكيد إنسانيتنا ومن يحاولون تفكيكها”. أما في “باسم الأم” عام 2013، فقد وصف الوعي بأنه “وصول يتطلب رحلة كاملة”.
من الإيمان بالذات.. تبدأ كل معركة
ربما تلخص كلماته في “أحلام في زمن الحرب” فلسفته كاملة، قائلا: “الإيمان بالنفس أهم بكثير من القلق مما يظنه الآخرون، حين تقدر ذاتك، سيقدّرك الآخرون، وأفضل أنواع التقدير، هو ما ينبع من الداخل.” بهذا الإيمان، عاش نجوجي، وقاوم، وكتب. رحل عن العالم، لكن كلماته بقيت تقاتل بالنيابة عنه.