كتبت – نادية العناني

باحثة في العلوم السياسية- طالبة دكتوراة

تعمل روسيا في الوقت الراهن على توظيف دبلوماسية القمح لتعظيم حضورها في أفريقيا، وزاد الاعتماد على هذه المقاربة بعدما باتت الدولة الأوروبية من أهم موردي القمح للقارة السمراء خلال الآونة الأخيرة، حيث زادت من إمدادات السلة الاستراتيجية في سلة غذاء الدول للأسواق الأفريقية التقليدية، مثل مصر والجزائر، كما وصلت إلى بعض الأسواق الجديدة على غرار المغرب وجنوب أفريقيا والنيجر وتشاد وأخرها توجو التي باتت سوقًا جديدة لصادرات القمح الروسي بعد وصول أول شحنة إليها في يناير من عام 2025. ووفرت دبلوماسية القمح لروسيا فرصًا كبيرة لتحقيق اختراقات غير مسبوقة على الساحة الأفريقية، كونها تأتي في ظل الأفول الفرنسي في أفريقيا، وتتزامن مع تراجع محتمل للنفوذ الأمريكي، خصوصا وأن رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، معروف بعدم اهتمامه بأفريقيا، وقد تقتصر إداراته على توظيف الشبكات الدبلوماسية التقليدية في مواصلة العلاقة مع القارة السمراء.

محفزات قائمة

شكلت القارة الأفريقية واحدة من أهم مناطق التنافس الدولي على النفوذ خلال السنوات الماضية؛ حيث كانت روسيا واحدة من أهم الأطراف الساعية للوجود بالمنطقة. وعملت موسكو على تطوير حضورها في القارة السمراء.. وعلى ضوء ذلك، كانت ورقة القمح أحد أهم المحفزات والآليات التي استثمرتها روسيالتعظيم نفوذها في الداخل الأفريقي، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

التأثيرات الممتدة لارتفاع الأسعار: أدت الأزمة الأوكرانية، ومن خلفها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى ارتفاع في أسعار القمح والمواد الغذائية؛ بسبب زيادة تكاليف النقل والشحن والتأمين من ناحية، أو بسبب الزيادات المتوقَّعة في أسعارها، من جراء انخفاض المعروض منها في الأسواق العالمية. وقد أدى ذلك إلى تقييد سلسلة الإمدادات الغذائية إلى أفريقيا، التي كانت تعتمد بعض دولها على القمح الأوكراني والهندي، وهو ما أدى إلى ارتفاع التعاقدات الآجلة على القمح بنسبة وصلت إلى نحو 20 في المئة بنهاية العام 2024. وعلى ضوء ذلك، سعت روسيا إلى تعويض القارة الأفريقية بلإمدادات القمح، وهو ما وفر لها بيئة خصبة لاختراق الأسواق الأفريقية. وتجدر الإشارة إلى أن موسكو أرسلت خلال الأشهر الماضية نحو 50 ألف طن من القمح مجانًا إلى بوركينا فاسو وزيمبابوي ومالي والصومال وجمهورية أفريقيا الوسطى وإريتريا، وهو ما دفع بعضها بالفعل إلى تعزيز العلاقة مع موسكو. كما قامت وزارة الزراعة الروسية في عام 2024 بتسليم 200 ألف طن من الحبوب والمساعدات الغذائية للقارة الأفريقية.

تلبية موسكو احتياجات أفريقيا من القمح: وصل حجم الصادرات الروسية من القمح لأفريقيا إلى نحو 30 مليون طن بنهاية العام 2024، ما يمثل زيادة بنحو 35% مقارنة بنفس الفترة من عام 2023، وذلك وفقًا لتقديرات تقرير مركز تنمية صادرات المنتجات الزراعية الروسية “أغرو إكسبورت”، الصادر في ديسمبر 2024. كما استوردت الدولالأفريقية من روسيا منتجات زراعية بقيمة 4 مليارات دولار في عام 2020، حوالي 90% منها عبارة عن قمح، و6% زيت دوار الشمس. وتجدر الإشارة إلى أن شركة  “Uralchem” -، وهي إحدى أكبر الشركات الروسية العاملة في القارة في مجال الزراعة، تقوم  بتوريد العديد من المنتجات -خاصة الأسمدة- لعدد من دول الجنوب الإفريقي، خاصةً زامبيا وزيمبابوي.

تراجع النفوذ الغربي: يرتبط التوسع الروسي في توظيف دبلوماسية القمح مع أفريقيا، بالتراجع الحاصل في نفوذ القوى الغربية التي ظلت مهيمنة على الساحة الأفريقية لعقود طويلة، بفعل الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول الساحل وجنوب الصحراء خلال العامين الماضيين. وتجدر الإشارة إلى تبنى الأنظمة الجديدة في هذه الدول مواقف مناهضة لباريس وواشنطن بالإضافة إلى التوتر الحاصل بين باريس والجزائر، وهو ما وفر بيئة خصبة لموسكو لإعادة تموضعها في أفريقيا، وتعزيز نفوذها من خلال توظيف دبلوماسية القمح كأحد المداخل المهمة لتطوير العلاقة مع القارة السمراء.

ضعف الإنتاج المحلي: ما زال إنتاج القمح المحلي في العديد من دول القارة الأفريقية عاجزًا عن تلبية جزء كبير من الاحتياجات المحلية، وبما يدفعها للاعتماد على المساعدات من الدول المنتجة للقمح أو التعاقد مع بعض موردي القمح حول العالم لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي. وعلى ضوء ذلك، تمثل المساعدات الروسية من حبوب القمح أولوية استراتيجية في التوقيت الحالي للقارة الأفريقية، لاعتبارين مهمين أولهما: تخصيص موسكو جانب واسع من المساعدات المجانية من حبوب القمح أو تلبية واردات القارة بأسعار مخفضة، وهو ما يجعل المحصول الروسي من القمح أكثر جاذبية للمشترين من القارة. وثانيهما: يرتبط بزيادة الطلب خلال الفترة المقبلة على الحبوب، حيث كشف التقرير المشترك الصادر في نهاية أكتوبر 2024 عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عن أن واردات أفريقيا من الحبوب سترتفع إلى 41% من مشتريات الحبوب العالمية بحلول عام 2033.

شكل يوضح نسبة الواردات الإفريقية من الشركاء التجاريين العالميين خلال الفترة (2023- 2024)

مصدر الشكل البياني: Denys Reva , “Russia’s growing influence in Africa calls for more balanced partnerships” , 26 June 2024 , available at: 2u.pw/jgCiDvqf”https://HYPERLINK “https://2u.pw/jgCiDvqf”2HYPERLINK “https://2u.pw/jgCiDvqf”u.pw/jgCiDvqf

اعتبارات متنوعة

يرتبط التحرك الروسي لتوظيف دبلوماسية الحبوب لتطوير العلاقة مع أفريقيا بجملة من الأهداف، ويتمثل أبرزها فيما يلي:

تصاعد مكانة أفريقيا دوليًا: في رؤية موسكو، أدى تزايد التوترات السياسية العالمية بجانب تصاعد حدة التنافس بين الاقتصاديات الكبري إلى تحويل القارة الأفريقية، إلى نقطة جذب، فبالإضافة إلى الموارد البشرية الرخيصة، فإنها تعوم على موارد هائلة من المعادن النادرة ومكامن الطاقة، والتي تعد أولوية للصناعات الروسية الدفاعية والتكنولوجية. ووفقًا للعديد من التقديرات، تعدّ قارة أفريقيا مصدرًا وموردًا لنحو 30% من احتياطيات العالم من المعادن، ونحو 8% من الغاز الطبيعي في العالم، وما يقرب من 12% من احتياطيات النفط الدولية؛ كما أن لدى القارة 40% من الذهب العالمي ونحو 90% من الكروم والبلاتين. كما أن أكبر مخزن من الاحتياطيات العالمية من الكوبالت والماس والبلاتين واليورانيوم يوجد في أفريقيا. وتملك أفريقيا 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم. وهنا، يمكن فهم تصريحات بوتين على هامش افتتاح القمة الروسية الأفريقية الثانية في يوليو 2023، حيث قال “أن القارة السمراء صارت فاعلًا متزايد الأهمية على المسرح العالمي، ومركزًا جديدًا للقوة”. وأضاف “أن بلاده متضامنة مع أفريقيا للاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب، وترفض استغلال قضايا المناخ وحماية حقوق الإنسان لأغراض سياسية، وتعارض سياسة إملاء القواعد التي يفرضها الغرب”. وقال إن “روسيا على استعداد لدراسة مقترحات خاصة بتوسيع تمثيل أفريقيا في هيئة الأمم المتحدة ضمن سياسة إصلاح مجلس الأمن الدولي”.

فتح أسواق اقتصادية جديدة: في رؤية موسكو، فإن تطوير العلاقة مع أفريقيا يمثل فرصة لفتح أسواق جيدة أمام المنتجات الزراعية الروسية، خصوصا في ظل استمرار العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، وكان الإنجاز المهم في السنوات الأخيرة حصول زيادة كبيرة في الصادرات الروسية إلى أفريقيا؛ فوفقاً لدائرة الجمارك الفيدرالية في الاتحاد الروسي، فقد زادت الصادرات الروسية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف (من 14,5 مليار دولار إلى 24.5 مليار دولار) في الفترة من 2020 إلى 2024. كما أن عدد الشركات الروسية العاملة في أفريقيا آخذ في الازدياد، بما في ذلك الشركات الحكومية الكبيرة، مثل روساتوم، والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. فضلاً عن أن روسيا هي أكبر مورّد للأسلحة والمعدات العسكرية إلى أفريقيا.

استقطاب دول أفريقيا بعيداً عن الموقف الغربي: سعت موسكو من خلال توظيف ورقة القمح إلى استقطاب دول القارة الأفريقية بعيدًا عن الموقف الغربي المضاد لروسيا، وظهر ذلك، بشكل أو بآخر في رفض أفريقيا الانخراط في العقوبات الغربية على موسكو بالإضافة إلى رفض التصويت لمصلحة المشاريع الغربية التي تستهدف موسكو داخل أروقة المؤسسات الأممية والدولية. ويرتبط هذا التوجه الأفريقي في جانب معتبر منه، برغبة دول القارة في ضمان استمرار المساعدات الروسية من الحبوب، والتي تمثل أهم حلقات سلاسل الغذاء لسكان أفريقيا. وهنا، يمكن تفسير توجه روسيا نحو إرسال مزيد من مساعدات القمح إلى بوركينا فاسو ومالي والنيجر خلال الأشهر الماضية، لتتحول روسيا إلى أكبر مورد للحبوب لدول غرب أفريقيا بنهاية عام 2024.

دعم الحضور العسكري: ساهم الدعم الروسي لتوفير القمح لدول القارة الأفريقية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، في زيادة دورها السياسي والعسكري بالقارة، وهو ما انعكس في تنامي الصادرات الدفاعية الروسية لأفريقيا. كما نشطت موسكو عسكريًا من خلال شركة ” فاغنر”، المعروفة أفريقيًا باسم “أفريكانسكي كوربوس”، وكان من ضمن أنشطتها الرئيسية تقديم الدعم الأمني للسلطات الجديدة في دول الساحل والصحراء، حيث قامت خلال الأشهر الأخيرة من عام 2024 بتزويد دول غرب القارة بمجموعة من المعدات العسكريّة روسية الصنع، كطائرات هليكوبتر هجومية أو طائرات بدون طيار. كما تنشط “فاغنر” في نحو 12 دولة أفريقية، من بينها، أفريقيا الوسطى، وموزمبيق، ومالي، وليبيا، والنيجر بالإضافة إلى تقديم خدماتها في غينيا الاستوائية، وزيمبابوي، والكونغو لضمان أمن المناجم أو الشركات الروسية.

على صعيد متصل، نجحت موسكو من خلال ورقة القمح في تعزيز حضورها في أسواق التسليح الأفريقي، حيث تحولت إلى واحدة من أهم الموردين بالإضافة إلى مواصلة السعى في التوقيت الحالي لزيادة مبيعاتها من الأسلحة للدول الأفريقية، سواءً لمساعدتها في مواجهة مخاطر الإرهاب، أو تعظيم نفوذها ووجودها العسكري في القارة السمراء في إطار صراع النفوذ مع القوى الكبرى الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة وفرنسا.

تحييد الضغوط الغربية على موسكو: في إطار سعي موسكو للقفز على التراجع الحاصل في مناعتها الإقليمية والدولية، خصوصًا بعد فرض وزارة الخزانة الأمريكية في 15 يناير 2025 عقوبات جديدة على ما يقرب من 100 فرد وكيان روسي، بما في ذلك بنوك وشركات روسية عاملة في قطاع الطاقة الروسي بالإضافة إلى تهديد ترامب بعد تنصيبه في 20 يناير 2025لموسكو حال رفضها مقاربة الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن إنهاء الأزمة الأوكرانية، حيث هدد ترامب بتطبيق مجموعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، منها زيادة الرسوم الجمركية على مختلف السلع الروسية التي يتمتوريدها للولايات المتحدة. وفي المقابل يرجح أن يمرر الاتحاد الأوروبي في فبراير 2025،الحزمة الــ16 من العقوبات على روسيا، والتي قد تشمل تدابير اقتصادية، من بينها فصل 15 بنكًا آخر عن نظام “سويفت” لتبادل المعلومات المالية بجانب فرض قيود على 70 سفينة ناقلة للنفط الروسي. وعلى ضوء ذلك، اتجه الكرملين إلى توظيف القمح من أجل توسيع دائرة علاقاته مع القارة السمراء، ودفع دول أفريقيا إلى تجنب الانحياز نحو المعسكر الغربي في الأزمة. وهنا، يمكن فهم إعلان موسكو في مطلع العام الجاري 2025 اعتزامها تصدير الغذاء والمحاصيل إلى “الدول الأفريقية الصديقة”، على أن يباع بالروبل أو بعملات تلك الدول بنسب متفق عليها؛ وهو ما تعده أفريقيا ميزة كبيرة، وفرصة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي تعانيها في سلاسل توريد الحبوب، وبخاصة القمح.

تحديات قائمة

على الرغم من نجاحات موسكو في دعم علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا إلا أن ثمة تحديات يمكن أن تؤثر على طبيعة التحركات الروسية في القارة السمراء، ويتمثل أبرزها فيما يلي:

ضعف حجم التبادلات التجارية: بالرغم من أن روسيا تحتل المركز الثامن عالمياً في إجمالي الناتج القومي بقيمة 2.3 تريليون دولار بنهاية عام 2022، فإن حجم العلاقات التجارية بين روسيا وإفريقيا يُعد متواضعاً نسبياً. فحجم الاستثمارات الروسية في إفريقيا يبلغ نحو 40 مليار دولار بنسبة لا تزيد عن 1 في المئة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القارة السمراء؛ وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة بالاستثمارات الأمريكية والأوروبية والآسيوية.

التطور الهائل في استثمارات المنافسين: وفقاً للعديد من التقديرات، لا يزال حجم العلاقات التجارية الروسية مع أفريقيا هو الأقل مقاربة بالمنافسيين الاقتصاديين الكبار، وبخاصة الصين والاتحاد الأوروبي الذى يحتفظ بمكانة اقتصادية كبيرة مع أفريقيا. وتبلغ قيم التجارة بين روسيا وأفريقيا نحو 24,5 مليار دولار، نحو 80 في المئة منها يمثل صادرات روسية إلى أفريقيا، ومعظمها سلع غذائية، وهي نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بالصين التي تصل حجم مبادلاتها التجارية مع أفريقيا إلى نحو 254 مليار دور. وعلى ضوء ذلك تمثل المنافسة مع القوى الاقتصادية العالمية تحديا ماثلاً أمام موسكو، فعلى سبيل المثال، فإن الصين على الرغم من كونها حليفة لموسكو بشكل علني، فإنها تهدف إلى تعزيز هيمنتها على أفريقيا بدلاً من تقاسم المصالح مع روسيا في هذه القارة.

التراجع المحتمل لإنتاج القمح الروسي:  تشير العديد من التقديرات الاقتصادية إلىاحتمال التراجع النسبي في إنتاج القمح الروسي خلال العام الجاري 2025 بفعل التغيرات المناخية وارتفاع منسوب الجفاف، واستمرار تأثيرات الأزمة الأوكرانية على قطاع الزراعة الروسي.

ضعف الصادرات الأفريقية إلى روسيا: تُقدر نسبة صادرات الدول الإفريقية إلى روسيا بأقل من نصف في المئة من إجمالي صادرات القارة إلى بقية دول العالم، وهي تقتصر على عدد محدود من دول القارة، فنحو 70 في المئة من تجارة روسيا مع 4 دول؛ هي مصر والمغرب والجزائر وجنوب إفريقيا. وتستحوذ مصر وحدها على حوالي ثلث التجارة بين روسيا وإفريقيا بنحو 6 مليارات دولار عام 2022. وهي نسبة ضئيلة أيضاً مقارنة بحجم التبادل التجاري بين تركيا والدول الإفريقية، الذي يتجاوز 37 مليار دولار سنوياً.

المصادر