كتبت – أمل على داوود
باحثة متخصصة في التغير المناخي
في ظل تزايد الأزمات الجيوسياسية والأوضاع الاقتصادية المتدهورة والخانقة لنمو الاقتصادات العالمية، والتي تؤجج بارتفاعات غير مسبوقة في الأسعار وتؤثر بشدة على اقتصادات الدول النامية، تتعاظم الضغوط على هذه الدول التي تعاني أصلًا من هشاشة في البنى التحتية الاقتصادية وضعف في الموارد، مما يجعلها أقل قدرة على مواجهة الأزمات وأكثر عرضة للتقلبات.
بداية الأجواء العاصفة كانت مع جائحة “كوفيد-19″، وهي ليست الأزمة الكبرى التي نعلق عليها ما طال الأوضاع العالمية من تدهور، فهي لم تكن مستقرة من قبل حتى نعلق الأمر على الجائحة والأزمة الروسية الأوكرانية وما تلاها؛ فالتهديدات عديدة ولكن العاملين المذكورين هما ما كشفا عن حجم المعاناة متفرعة الجوانب التي لم تترك شيئًا إلا واختبرت مرونته.
فقد شهد العالم على مدار الحقبة الماضية، وتحديدًا منذ اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 تهاويًا لخط الدفاع الأول، المتمثل في تخفيض الانبعاثات الضارة، فالعالم لا يزال يحجل بعيدًا عن الهدف المرجو المتمثل في تحقيق أهداف الحياد الكربوني، وبالنظر إلى المستجدات العالمية نرى هلاكًا لدفاعات الخط الأول خاصة بعد أن عادت الدول الأوروبية للاعتماد على طاقة مستمدة من الفحم جراء حجب الإدارة الروسية لغازها عنها، وهو أشد ما لاحت به العقوبات المفروضة من جانب العالم على روسيا بعد اندلاع أزمتها مع أوكرانيا. الأمر الذي زاد من بعثرة استدامة العمليات.
وفي خضم هذا وذاك، تتأرجح البشرية بين ثنايا المخاطر، ففي السنوات الأخيرة، ارتبطت محددات الموقف المناخي وتعقيداته بنمط الروابط التكنولوجية، فبناء على استراتيجية الأمم المتحدة لمجابهة الخطر المناخي، والتي قادت إلى 29 قمة عالمية للأطراف المعنية بالتغير المناخي، وإعلان اتفاقية باريس والرغبة في تعظيم المنفعة المشتركة والتكاتف العالمي، والتي تنادي به الاتفاقية على مدار 9 أعوام الماضية إلى تعزيز العلاقة بين التكنولوجيا والتغير المناخي بين الدول الموقعة على المستويات السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية[1]، لا سيما في ظل التطورات المتسارعة التي جعلت الموقف يبدو مربكًا عالميًا والجهود معزولة، ومنفردة.
اليوم، ومع تحول حجم وطبيعة التحديات المناخية إلى أزمات إقليمية ووطنية ومجتمعية على مستويات متفاوتة، وأصبحت المؤسسات العالمية غير مجهزة لمعالجتها فوريًّا. كانت التكنولوجيا بأدواتها كافة سبيل في أزمة المناخ؛ حيث يتكامل مزيج من البيانات البيئية العالمية مع التقنيات الحديثة وأساليب علوم البيانات لتمكيننا من تحقيق رؤى جديدة تدعم مسارات التنمية المستدامة وتعيد تشكيل علاقة الإنسان بكوكب الأرض بطرق جوهرية. تشمل هذه التقنيات المتقدمة الأقمار الصناعية، الطائرات بدون طيار، الحوسبة السحابية، أجهزة الاستشعار، الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، البلوك تشين، والعلوم المدنية، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من البرمجيات مفتوحة المصدر وتطبيقات الهاتف المحمول. ومع هذه الأدوات المتطورة، يبقى السؤال المحوري: كيف يمكن الاستفادة المثلى من سيل البيانات الضخمة الواردة من هذه التقنيات لتحقيق أهداف المناخ؟
في سياق الإجابة على هذه التساؤل، لا بد من تعريف ماهية البيانات الضخمة (Big Data)، هي مجموعة ضخمة ومعقدة من البيانات التي تتجاوز قدرة الأنظمة التقليدية على معالجتها أو تحليلها باستخدام الأدوات أو التقنيات التقليدية. هذه البيانات تأتي في أشكال متنوعة مثل النصوص، الصور، مقاطع الفيديو، البيانات الجغرافية، بيانات الاستشعار، والسجلات الرقمية[2]، ما يجعل هذه البيانات “ضخمة” هو قيمتها والإمكانات المعرفية التي يمكن استخلاصها منها؛ فهي ليست مجرد بيانات كمية أو وصفية، بل هي مصدر غني يقدم رؤى حول العالم المحيط بنا. يترافق مع الكم الهائل للبيانات تنوع في المصادر وتكاملها؛ مما يتيح تكوين صورة شاملة بعد تحليلها. هذه الصورة تسهم بشكل أو بآخر في اتخاذ قرارات مدروسة، وفهم سلوكيات البشر، وتحسين الخدمات، فضلًا عن دعم تطوير تقنيات مبتكرة.
وعليه، فالبيانات الضخمة أداة محورية لفهم وتحليل الظواهر المناخية وتوقعاتها، وذلك لأنها تتيح جمع وتحليل كميات هائلة ومتنوعة من المعلومات البيئية، مثل درجة الحرارة، ومستويات الكربون، والأنماط المناخية. لكن “حوسلة” هذه البيانات؛ أي تحويلها إلى أدوات قابلة للاستخدام لتوجيه السياسات والتخطيط المستقبلي، هي عملية حيوية لتمكين المجتمعات من مواجهة التحدي المناخي.
اتصالًا، يقوم هذا المقال على تساؤل رئيس مفاده: كيف تؤثر عملية حوسلة (Instrumentalization) البيانات الضخمة في تشكيل السياسات المتعلقة بالتغير المناخي، وما هي انعكاسات ذلك على فهم التحديات البيئية في أفريقيا؟
الحوسلة.. ماذا يحدث؟
“الحوسلة” هي اشتقاق لغوي يعني “التحول أو التحويل إلى وسيلة”، ومن هنا فالحوسلة أو “instrumentalization” هي مفهوم يُستخدم في العديد من المجالات المعرفية والفلسفية، ويُعنى بشكل رئيس بتحويل المعرفة أو المعلومات إلى أدوات أو وسائل قابلة للاستخدام العملي. يشير المصطلح إلى عملية “تحويل شيء غير ملموس أو مجرد إلى شيء يمكن استخدامه لتحقيق أهداف معينة”[3]. في هذا السياق، الحوسلة تعني توظيف المعرفة أو البيانات بطريقة عملية لتوجيه العمل أو اتخاذ القرارات.
ووفقًا للأطروحات الحديثة، يُعدُّ التآزر بين قدرة اكتساب البيانات الضخمة، والقدرة على تحليلها، وقدرة استخراج الرؤى منها أمرًا بالغ الأهمية لابتكار العمليات الخضراء المستدامة. في هذا السياق، يمكن أن تسهم البيانات الضخمة بشكل كبير في تحسين استراتيجيات الاستدامة البيئية وتوجيه السياسات نحو حلول أكثر فعالية. ففي عام 2006، أعلن عالم الرياضيات البريطاني “كلايف همبي” أن “البيانات هي النفط الجديد”[4]، مما يبرز التنافس المتزايد بين العلامات التجارية على جمع البيانات بشكل مكثف، في حين تسعى الجهات التنظيمية إلى محاسبة الجهات التي تسيء استخدامها، ويظل المستهلكون في مرمى النيران المتبادلة.
بعبارة أخرى، في الوقت الذي تظل فيه العلامات التجارية عالقة في عقلية استخلاصية تهدف إلى تعظيم جمع البيانات، ينظر المستهلكون إلى تبادل البيانات على أنه نوع من التبادل التفاوضي للقيمة؛ حيث يسعى كل طرف للحصول على منافع مقابل المعلومات التي يشاركها. في هذا الإطار، تعتبر البيانات الضخمة مصدرًا غنيًا لفهم أنماط السلوك البشري، مما يتيح لصناع السياسات استخدامها لتحليل العلاقات السببية بين الأحداث المختلفة. ويشير تحليل البيانات الضخمة إلى الأدوات والمنهجيات التي تهدف إلى تحويل كميات ضخمة من البيانات الخام إلى “بيانات قابلة للتفسير”، بحيث يمكن تمييز الأنماط والتوجهات بوضوح[5]. وهذا التحليل يمكن أن يسهم في تعزيز التأثيرات الإيجابية لهذه البيانات، بينما يساعد في التخفيف المركّز من النتائج السلبية الناتجة عن سوء استخدامها.
وبينما يتيح تعريف الحوسلة مدخلًا لعلاقة عضوية متبادلة بين البيانات الضخمة والتغير المناخي، فإنه على جانب آخر، خلق مجالًا للصراع بين التكنولوجيا والتغير المناخي، فهناك سيل من البيانات المتعلقة بالمناخ، ولكن يتم حوسلتها لتصبح أداة وظيفية من شأنها أن تؤثر في أزمة المناخ العالمية وفقًا لبعض الأهداف المبتغاة.
إن تحويل البيانات الضخمة إلى أدوات قابلة للاستخدام في السياسات العامة قد يؤدي إلى تبسيط الأمور البيئية المعقدة؛ مما قد يقلل من قدرة صانعي السياسات على التعرف على تعقيدات الأبعاد البيئية بشكل كامل. فعلى الرغم من أن البيانات قد توفر رؤى دقيقة حول بعض الجوانب، مثل الانبعاثات الكربونية أو تدهور الأنهار الجليدية، فإنها قد تتجاهل بعض الأبعاد البيئية الأخرى التي يصعب قياسها بشكل كمي، مثل فقدان التنوع البيولوجي أو تأثيرات التغير المناخي على المجتمعات الفقيرة. وما يوضح هذا الأمر هو كيفية اعتماد بعض السياسات البيئية على البيانات المترابطة التي تجمعها الشركات الخاصة أو الحكومات باستخدام أدوات حوسبة معينة، دون مراعاة السياقات المحلية أو العوامل الاجتماعية التي يمكن أن تؤثر في فهم تأثيرات التغير المناخي على مختلف الفئات.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي الاعتماد الكبير على البيانات الرقمية إلى إقصاء الأصوات المحلية أو المجتمعية التي قد تقدم فهمًا أكثر شمولية للتحديات البيئية التي تواجهها المجتمعات في مناطق أفريقية معينة. ففي بعض البلدان، قد تكون البيانات البيئية المتاحة محدودة أو تفتقر إلى الدقة؛ مما يؤدي إلى تبني سياسات قد لا تعكس الواقع البيئي بشكل كامل.
من ناحية أخرى، يمكن أن تؤدي حوسلة البيانات الضخمة إلى تعزيز بعض السياسات التي تركز على الحلول التكنولوجية أو السوقية فقط، مثل توجيه الاستثمارات نحو الطاقة المتجددة أو تقنيات التقاط الكربون، بينما تغفل عن حلول أخرى تتعلق بتغير الأنماط الاستهلاكية أو تحسين العوامل الاجتماعية والاقتصادية. كما أن حوسلة البيانات قد تدفع صانعي السياسات إلى اتخاذ قرارات مبنية على بيانات قصيرة المدى أو حسابات اقتصادية محضة؛ مما قد يؤدي إلى إغفال الجوانب طويلة الأجل والمتعلقة بالاستدامة البيئية. لذلك، من الضروري التعامل مع البيانات الضخمة في سياق أوسع يأخذ بعين الاعتبار التنوع البيئي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. قد يتطلب ذلك تبني نهج متعدد الأبعاد يتجاوز البيانات الرقمية ويشمل تحليلًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا يساعد في تقديم حلول شاملة تتماشى مع مختلف الاحتياجات البيئية.
الحوسلة كأداة تحليلية لفهم التغير المناخي في أفريقيا
لطالما كانت الحوسلة في التغير المناخي تعني دمج المعلومات البيئية مع الأنماط الاجتماعية والسياسية لبناء سياسات تكيفية شاملة. فإذا نظرنا إلى قارة أفريقيا ككل، نجد أن التغير المناخي يشكل تحديًا متعدد الجوانب، حيث تتأثر مختلف القطاعات مثل الزراعة والموارد المائية والصحة العامة، وكل هذا يرتبط ببعضه البعض في نظام تفاعلي.[6]
الشكل رقم (1): المخاطر الأكثر إثارة للقلق في المنطقة الأفريقية

ملاحظة: أعدّت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية هذا الرسم البياني باستخدام المساهمات المحددة وطنيًا لـ 53 دولة في أفريقيا، استنادًا إلى المساهمات المحددة وطنيًا النشطة المُقدّمة حتى يونيو 2024.
يعد الجفاف من أكبر التحديات التي تواجه العديد من دول القرن الأفريقي. وعند حوسلة هذه الظاهرة، يمكننا فحص العلاقة بين التغير المناخي والضغط السكاني والضغوط الاقتصادية في هذه المنطقة، بالإضافة إلى النزاعات المحلية الناتجة عن شح المياه. كذلك، يمكن النظر في تأثير هذه الأزمات على السوق الزراعي وسلاسل الإمداد الغذائي التي تعتمد عليها الدول الأفريقية بشكل أساسي.
يعتبر الجفاف في القرن الأفريقي مثالًا حيًا على كيفية تفاعل التغير المناخي مع الجوانب الاجتماعية والسياسية في أفريقيا. عندما نتحدث عن الجفاف في منطقة الصومال وكينيا وإثيوبيا، نجد أن هذا ليس مجرد مشكلة بيئية ناشئة عن قلة الأمطار، بل هو أيضًا نتيجة لعدة عوامل اقتصادية واجتماعية.
أولاً، يعاني العديد من سكان القرن الأفريقي من الفقر المدقع، ويعتمدون بشكل كبير على الزراعة والرعي لتأمين لقمة عيشهم[7]. ومن هنا، يمكن ملاحظة أن الجفاف يُضعف الاقتصاد الزراعي في هذه الدول، ويؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء ونقص المواد الغذائية، ما يزيد من معاناة السكان. ثانيًّا، أن تأثير الجفاف يتعاظم بسبب عدم توافر مياه الشرب، مما يؤدي إلى تدهور الصحة العامة وزيادة انتشار الأمراض.
من ناحية أخرى، يعتبر عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول مثل الصومال، عاملاً مفاقماً للأزمة؛ حيث إن غياب الدولة المركزية وعدم وجود سياسات وطنية فعالة لمواجهة الكوارث البيئية يزيد من حدة الأزمات[8]. وهذا يطرح التساؤل الأكثر إلحاحًا للإجابة والذي يكمن في كيفية حوسلة التغير المناخي مع النظام الاجتماعي والسياسي لتطوير استراتيجيات فعالة للتكيف مع هذه الكوارث الطبيعية.
أما عن الفيضانات في حوض نهر النيل، يعاني العديد من الدول من فيضانات مفاجئة نتيجة لتغيرات في أنماط هطول الأمطار. هذه الفيضانات تشكل تهديدًا كبيرًا للبنية التحتية والزراعة في دول مثل السودان[9] وإثيوبيا. على الرغم من أن هذه الفيضانات قد تكون مرتبطة مباشرة بتداعيات المناخ، إلا أن تأثيرها يعكس أيضًا العديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تواجه هذه الدول.
في هذا السياق، يمكننا تطبيق منهج الحوسلة لفهم كيف أن التغير المناخي يتداخل مع التحديات السياسية المتعلقة بمياه النيل. من خلال التعاون المشترك بين دول حوض النيل، يمكن دمج البيانات المناخية مع السياسات الزراعية وإدارة المياه بهدف تقليل الأضرار الناتجة عن الفيضانات.
وتظهر الحاجة هنا إلى استراتيجيات تكيُّف تعتمد على التخطيط المشترك بين هذه الدول لتطوير أطر قانونية تهدف إلى تقليل الخلافات حول المياه، مع تعزيز التعاون الإقليمي في ظل هذه التحديات المناخية المتزايدة. الحوسلة هنا تستخدم بمنظورها الإيجابي لتؤدي دورًا حيويًا في جعل مناقشات التغير المناخي أكثر شمولا وعملية، بحيث تصبح الحلول المقترحة جزءًا من نظام متكامل يتعامل مع الأزمة بشكل شامل، بحيث لا تقتصر الحلول فقط على القطاع البيئي، بل تشمل الجانب الاقتصادي والاجتماعي أيضًا.
الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتغير المناخي في أفريقيا
تشهد القارة الأفريقية تحولًا بنيويًا في علاقتها مع البيئة، ليس فقط على مستوى الطقس أو الزراعة، بل في أنماط الحياة والهياكل الاقتصادية والاجتماعية. البيانات الضخمة أصبحت أداة مركزية لفهم هذا التحول؛ حيث تتيح الربط بين التداعيات المناخية والمعيشية من خلال مؤشرات كمية دقيقة. من خلال دمج المعلومات الجغرافية، السكانية، السلوكية، والاقتصادية في منصات حوسبية، يمكن تجاوز التحليلات التقليدية إلى نماذج تفسيرية وتنبؤية تعكس الواقع بدقة.
- التحولات الحضرية غير المرئية: البنية التحتية في مواجهة المناخ
المدن الأفريقية لم تُصمَّم لتتحمل صدمات مناخية متكررة. الفيضانات المتزايدة، والجفاف المستمر، يهددان المرافق الحيوية من طرق ومياه وكهرباء[10]. من خلال حوسلة البيانات الجغرافية والهندسية، بات من الممكن التنبؤ بالمناطق التي ستتعرض لانهيار في البنية التحتية قبل وقوع الكارثة، وهو ما يُتيح للحكومات تصميم خطط طوارئ ذكية. كما تتيح تحليلات البيانات التنقلية تحديد المناطق التي تشهد أكبر تدفقات نزوح بيئي، مما يدعم قرارات إعادة توزيع الموارد والخدمات.
بيد أن عدم توظيف البيانات المناخية المتاحة عبر تقنيات الحوسبة الضخمة في وضع معايير البنية التحتية في أفريقيا يمثل فجوة كبيرة في التخطيط المستقبلي. مع العلم أن 70% من البنية التحتية التي ستُشيّد في الخمسين عامًا القادمة لم تُبنَ بعد، فإن هذه المرحلة تمثل فرصة حاسمة لاعتماد معايير تأخذ في الحسبان المخاطر المناخية المتوقعة، مثل ارتفاع منسوب سطح البحر أو اشتداد العواصف المدارية. ومع ذلك، ما زال كثير من هذه المشروعات يُخطط لها ويُنفذ بمعزل عن المعطيات المناخية الدقيقة، مما يهدد بخلق بنية تحتية غير قادرة على الصمود أمام تحولات مناخية معروفة وقابلة للتوقع من خلال تحليل البيانات.
تؤكد الكوارث المناخية التي ضربت عددًا من الدول الأفريقية في السنوات الأخيرة على الحاجة الماسة إلى دمج المعلومات المناخية في معايير التخطيط والبناء. ففي موزمبيق وحدها، بلغت خسائر البنية التحتية قرابة ملياري دولار نتيجة إعصاري كينيث وإيداي في عام 2019. كما فقدت مالاوي بنيتها التحتية للرصد الهيدرولوجي بالكامل بعد إعصار فريدي في 2023. هذه الأمثلة توضح مدى أهمية إدخال المعارف المناخية المتوافرة، سواء من خلال البيانات التاريخية أو التوقعات المستقبلية، في تدريب المهندسين وتطوير المعايير الإنشائية، لضمان أن تكون المنشآت قادرة على مواجهة مثل هذه التحديات المتكررة[11].
وتُعد المدن الساحلية مثل جراند لاهو وجراند بسام وأسيني في كوت ديفوار نماذج واضحة لتأثير التغيرات المناخية على البنية التحتية والسياحة والأنشطة الاقتصادية. فقد أدى زحف البحر وتآكل السواحل إلى صعوبة في الحفاظ على المنشآت السياحية، بل وهدد مواقع تراثية مدرجة على قائمة اليونسكو. كما تعرضت بيئات حيوية كغابات المنجروف، التي تُسهم في استقرار الشواطئ وتنظيم المناخ المحلي، للتدهور. لو استُخدمت البيانات المناخية التي توفرها الحوسبة الحديثة في تصميم مشروعات قادرة على التكيف مع هذه التغيرات، لكان من الممكن الحد من هذه الآثار وتقوية البنية الاقتصادية والبيئية في تلك المناطق.
- التغير المناخي والاقتصاد الأفريقي
يُعد قطاع الزراعة في أفريقيا من أكثر القطاعات تأثرًا بالتغير المناخي. يمكن من خلال حوسلة التغير المناخي أن نفهم كيف أن ارتفاع درجات الحرارة والتغيرات في أنماط هطول الأمطار تؤثر على إنتاج المحاصيل الزراعية[12]. في بعض المناطق، قد تؤدي هذه التغيرات إلى نقص في الإنتاج الغذائي، مما يزيد من أسعار السلع الأساسية ويؤثر في الأمن الغذائي.
مثال على ذلك الموجات الحارة التي ضربت منطقة الساحل الأفريقي في السنوات الأخيرة. هذه الموجات تؤثر في محاصيل الحبوب، مثل الذرة والأرز، مما يؤدي إلى تراجع في إنتاج المحاصيل وزيادة معدلات الفقر بسبب نقص الغذاء. إذا تم استخدام البيانات المناخية في تخطيط السياسات الزراعية، يمكن للعديد من الدول الأفريقية تحسين آليات الإنتاج الزراعي وتطوير أساليب ري حديثة للحفاظ على المحاصيل[13].
- الاقتصاد غير الرسمي كمرآة للتغير المناخي
النزوح المناخي لا يؤدي فقط إلى أزمة سكن، بل يُعيد تشكيل خريطة العمل غير الرسمي في المدن. البيانات المستخرجة من أنظمة الدفع الرقمي، الهواتف المحمولة، والكاميرات الذكية تُظهر تحولات فورية في أنماط الكسب، من الرعي والزراعة إلى البيع الجائل والعمل اليدوي المؤقت. نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة على هذه البيانات تُمكّن صانعي القرار من تتبع توسّع هذا الاقتصاد بدقة، ما يسهم في بناء أدوات تدخل اقتصادية وتخطيطية واقعية.
تُظهر أزمة النزوح المرتبط بالتغير المناخي في أفريقيا وغيرها من المناطق كيف يمكن أن تسهم حوسلة البيانات الضخمة في تفاقم التحديات بدلًا من معالجتها، عندما تُستخدم من دون إطار قانوني وتنظيمي مناسب[14]. فعلى الرغم من توافر بيانات حول أعداد النازحين وأسباب النزوح، لا تزال الأطر القانونية عاجزة عن مواكبة التحولات المناخية، حيث لا تشمل الحماية الحالية للاجئين حالات النزوح الناتجة عن الكوارث البيئية. ووفقًا للمركز الدولي لرصد النزوح (IDMC)، بلغ عدد النازحين داخليًا في أفريقيا 35 مليون شخص، مما يمثل ما يقرب من نصف العدد الإجمالي عالميًا، وهو ما يعكس تضاعفًا ثلاثيًّا مقارنةً بعام [15]2009. من بين هؤلاء النازحين، تسببت الكوارث الطبيعية في زيادة ملحوظة في الأعداد، حيث ارتفع عدد النازحين جراءها من 1.1 مليون في عام 2009 إلى 6.3 مليون في عام 2023 (كما يوضحها الشكل 2)، مع تسبُّب الفيضانات في أكثر من 75% من هذه الحالات.
الشكل رقم (2): النزوح الداخلي بسبب الكوارث في أفريقيا (2009-2023)

المصدر: المركز الدولي لرصد النزوح (IDMC)، تقرير 2024
ورغم هذا الحجم الكبير من البيانات المتاحة، فإن غياب تحديث في تعريف صفة اللاجئ دوليًا يجعل هذه المعلومات عديمة الأثر القانوني في كثير من الحالات، مما يُضعف قدرة المؤسسات على تقديم الحماية الفعلية.
وبالإضافة إلى البُعد القانوني، يتفاقم الوضع الإنساني نتيجة الاعتماد غير المتوازن على البيانات الضخمة في مراقبة النزوح من دون ربطها باستجابات صحية واجتماعية فعالة. فالتقارير تشير إلى أن المجتمعات التي تُجبر على النزوح نتيجة التغير المناخي تواجه أزمات متعددة: من نقص الغذاء والمياه النظيفة إلى الافتقار للرعاية الصحية، ناهيك عن الازدحام وسوء التغذية في مراكز الإيواء. وعلى الرغم من وجود أدوات رقمية قادرة على تتبع حركة النازحين وتحديد احتياجاتهم، إلا أن الاستجابة غالبًا ما تكون غير متناسبة مع حجم البيانات المتوافرة، ما يؤدي إلى تفويت فرص التدخل السريع، خصوصًا في مواجهة أوبئة مثل الكوليرا والملاريا، والتي ترتفع معدلاتها في بيئات النزوح الهشة.
ويُضاف إلى ذلك بُعد الصحة النفسية، الذي غالبًا ما يُهمَل رغم التحذيرات الواضحة من منظمات مثل “Project HOPE” ومنظمة الصحة العالمية، التي تؤكد تصاعد التحديات الصحية والنفسية بين اللاجئين والمهاجرين. فعلى سبيل المثال، يؤثر النزوح المطول في الصحة الإنجابية، ويسبب اضطرابات نفسية طويلة الأمد نتيجة فقدان الاستقرار وغياب الخدمات الأساسية. ورغم إمكانية الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي والبنية الصحية المتنقلة لتحسين الرعاية، فإن غياب ربط واضح بين تحليل البيانات الضخمة وسياقات محلية حساسة يُفقد تلك الأدوات فاعليتها. وهكذا، تصبح البيانات أداة لرصد المعاناة بدلًا من معالجتها، إذا لم تُوظف ضمن استراتيجيات شاملة تراعي العدالة المناخية والصحية على حد سواء.
- الأبعاد الثقافية للتغير المناخي: قراءة الهويات عبر البيانات
التغير المناخي يُحدث زعزعة في الهُويات الجماعية، لا سيما في المجتمعات الرعوية والزراعية. الرعاة الذين يُجبرون على ترك نمط حياتهم بسبب التصحر يواجهون ضغطًا ثقافيًا واجتماعيًا كبيرًا، وهو ما ينعكس في الخطاب اليومي المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تحليل المحتوى اللغوي المحلي باستخدام تقنيات تعلم الآلة يُظهر تراجع مفردات مثل “الكرامة” و”الأرض” لصالح مفردات “النزوح” و”البقاء”، مما يُشير إلى تحولات عميقة في الإحساس بالانتماء. هذه التحليلات تُعد أدوات قوية لإعادة تشكيل الخطاب التنموي بما يتجاوز مجرد الغذاء أو المأوى.
أظهرت دراسة أجرتها جامعة كيب تاون على تغريدات سكان ناميبيا المتأثرين بالتصحر أن هناك تحولًا في الخطاب الثقافي من الفخر بالأرض إلى الهجرة. يُظهر التحليل اللغوي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي كيف يُعيد التغير المناخي تشكيل الهويات الثقافية للمجتمعات، مما يستدعي استراتيجيات تنموية تأخذ في اعتبارها هذه التحولات.
لذا، بدل الاعتماد على نماذج تنبؤية أجنبية قد لا تعكس الواقع البيئي الأفريقي بدقة، أصبح ممكنًا تطوير نماذج محلية تستند إلى بيانات مناخية وزراعية طويلة الأمد. هذه النماذج، إذا بُنيت على البيانات الصحيحة، تُحقق قدرة تنبؤ عالية على مستوى الدقة الزمانية والمكانية، وتُستخدم فعليًا في منع الكوارث مثل فشل المحاصيل أو نفوق المواشي. بالإضافة إلى ذلك، يُمكن ربط هذه النماذج بأنظمة إنذار مبكر مجتمعية قائمة على تطبيقات الهاتف المحمول، تُرسل تحذيرات للمزارعين والصيادين لحظيًا.
من جانب آخر، يؤدي التغير المناخي إلى زيادة الضغط الاجتماعي نتيجة نقص الموارد الطبيعية. فعندما تعاني مناطق معينة من الجفاف أو الفيضانات، تصبح الموارد الأساسية مثل المياه الصالحة للشرب والأراضي الصالحة للزراعة أكثر محدودية. وهذا يخلق توترات اجتماعية بين المجموعات السكانية المحلية، مما يزيد من احتمالية نشوب نزاعات بسبب الصراع على الموارد[16].
هنا، تأتي الحوسلة لتساعد في فهم هذه الظواهر كمجموعة من التفاعلات بين التغير المناخي والبيئة الاجتماعية. وبذلك، يمكن للمتخصصين في مجال التغير المناخي أن يقدموا حلولًا منهجية تعزز التعاون بين الجماعات المختلفة، وتعمل على تقليل النزاعات الناتجة عن الاحتباس الحراري أو الجفاف.
العدالة المناخية في أفريقيا لم تعد تعتمد فقط على سردية “المسؤولية التاريخية” بل على القدرة على تقديم أدلة رقمية قابلة للقياس. باستخدام البيانات الضخمة، يمكن للدول الأفريقية حساب الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة الناتجة عن التغير المناخي بدقة، وربطها بالبروتوكولات الدولية مثل اتفاقية باريس. هذا النوع من الحوسبة القانونية يسمح بإنشاء ملفات تعويض رقمية، مدعومة بسلاسل كتل (Blockchain) لضمان الشفافية وعدم التزوير. هذه الأدلة تُستخدم في المحافل الدولية لانتزاع حقوق تمويل التكيف والإنقاذ بطريقة أكثر فاعلية.
ختامًا، تشكل حوسلة البيانات الضخمة أداة قوية في تشكيل السياسات المتعلقة بالتغير المناخي، ولكنها في الوقت ذاته تحمل تحديات كبيرة في تفسير التحديات البيئية بشكل متكامل. وبالتالي، من الضروري مراعاة التحليل العميق والشامل للبيانات البيئية، وعدم الاعتماد فقط على الأرقام والمعايير الرقمية التي قد تقتصر على جزء من الصورة الكبرى للمشكلات البيئية العالمية.
[1] – The Paris Agreement, UNFCCC, https://unfccc.int/process-and-meetings/the-paris-agreement, (Accessed: September 20, 2024).
[2] – البيانات الضخمة لأغراض التنمية المستدامة، الأمم المتحدة، متاح على https://www.un.org/ar/global-issues/big-data-for-sustainable-development
[3] – عبد الوهاب المسيري، “موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، (دار الشروق – القاهرة، ط 1، 1999، مج 1)، ص 47.
[4] – شيماء المرزوقي، “النفط الجديد”، الخليج، 23 يوليو 2023، متاح على: https://www.alkhaleej.ae/2023-07-23/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF/%D8%A5%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7
[5] – Verleye. G, et.al, “Credibility of green advertising: six elements that drive credibility in green advertising.”, frontiersin, June 2023.
[6] – African Development Bank. 2022. Towards an integrated and climate-resilient Africa and a just
energy transition. Towards an integrated and climate-resilient Africa and a just energy transition
| African Development Bank – Building today, a better Africa tomorrow (afdb.org)
[7] – Kelly. E, The Horn of Africa crisis, explained.”, Concern Worldwide, July 19, 2023.
[8] – Agegnehu Waga. A, Navigating chaos: IGAD’s efforts Amidst Somalia’s Governance crisis.”, Heliyon, Volume 10, Issue 18, September 30, 2024.
[9] – “SUDAN Anticipated impact of the rainy season.”, Thematic report, June 20, 2024.
[10] – ICDL, “ICDL Insights: How can Africa address its Big Data challenges?.”, April 18, 2023. https://icdl.org/icdl-insights-how-can-africa-address-its-big-data-challenges/
[11] – Al-Hamndou Dorsouma, “Building climate-resilient infrastructure in Africa: challenges and opportunities.”, African Development Bank Group, November 07, 2024
[12] – Food and Agriculture Organization of the United Nations and United Nations Water (2021).
[13] – Seyyedmajid Alimagham. et, al. “Climate change impact and adaptation of rainfed cereal crops in sub-Saharan Africa”, European Journal of Agronomy, Volume 155, April 2024.
[14] – Naseem Qader, “The Diplomacy of Displacement: How Climate Migration Will Reshape Global Borders and Alliances.”, USC Center on Public Diplomacy (CPD), April 7, 2025.
[15] – IDMC (2024) Internal Displacement in Africa: an overview of trends and developments (2009-2023). Internal Displacement Monitoring Centre. https://doi.org/10.55363/IDMC.VYIL2669
[16] – عبد القادر محمد على، “هكذا يتسبب التغير المناخي بصناعة العنف في أفريقيا”، الجزيرة، يناير 2024.