جبهة جديدة في أفريقيا.. تغيّر جغرافيا بحيرة تشاد يحاصر الملايين بين العنف والفيضانات

أكتوبر 6, 2025

كتبت – مريم عبد الحي علي فراج

باحثة دكتوراة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

تغيّر جغرافيا بحيرة تشاد خلال العقود الأخيرة لم يكن مجرد ظاهرة بيئية أو هيدرولوجية، بل تحوّل إلى عامل مركزي في إعادة تشكيل الخريطة السياسية والأمنية والاجتماعية لمنطقة الساحل وحوض البحيرة. فقد انكمشت مساحة البحيرة بأكثر من 90% منذ ستينيات القرن الماضي، نتيجة مزيج من التغير المناخي، والجفاف المتكرر، واستنزاف الموارد المائية بفعل مشروعات الري والسدود، ما أدى إلى تراجع مخزون المياه العذبة وارتفاع ملوحتها، وتدهور النظام البيئي الذي اعتمدت عليه لعقود أنشطة الصيد والزراعة والرعي. هذا التحوّل البيئي العميق أثّر بشكل مباشر في سبل عيش نحو 30 مليون شخص يعيشون في المنطقة، وفاقم هشاشتهم في مواجهة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وفتح المجال أمام جماعات مسلحة لملء الفراغ الناتج عن ضعف الدولة، مما جعل من البحيرة مسرحاً معقداً لتقاطع الأزمات البيئية مع النزاعات المسلحة.[1]

في ظل هذا الواقع، وجدت الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها “بوكو حرام” و”داعش – ولاية غرب أفريقيا”، فرصة ذهبية لاستغلال تدهور الظروف المعيشية لتعزيز نفوذها. هذه التنظيمات سيطرت على قطاعات حيوية مثل الصيد البحري، والزراعة، وتجارة الماشية، وفرضت على السكان المحليين أنظمة “ضرائب” وإتاوات مقابل السماح لهم بممارسة أنشطتهم الاقتصادية، في نمط يُعرف بـ”الاقتصاد العنيف”. ونجحت في بناء شبكة موارد متكاملة تشمل تهريب السلع، والإتجار بالبشر، والاستفادة من طرق التهريب عبر الحدود، مدعومة في أحيان كثيرة بتواطؤ عناصر فاسدة من القوات الأمنية. هذه السيطرة الاقتصادية تحوّلت إلى قاعدة تمويل لعملياتها العسكرية، بما في ذلك شراء الأسلحة، وصناعة العبوات الناسفة، وتمويل هجمات على المواقع العسكرية المعزولة في محيط البحيرة، في وقت تتراجع فيه العمليات العسكرية المشتركة للدول المعنية.

في المقابل، يعاني الوجود العسكري الرسمي في المنطقة من مشكلات هيكلية، أبرزها ضعف التجهيزات، ونقص الأفراد، وصعوبة الإمداد اللوجستي في بيئة جغرافية معقدة تتخللها جزر ومستنقعات ومساحات شاسعة غير خاضعة للرقابة. هذا الواقع جعل العديد من القواعد العسكرية النائية أهدافًا سهلة للهجمات، فيما يعرف بحملة “محرقة المعسكرات” التي شنتها “داعش – ولاية غرب أفريقيا” بهدف الاستيلاء على الأسلحة والمعدات وتوسيع رقعة السيطرة الميدانية. هذه الهجمات المتكررة لم تؤد فقط إلى خسائر ميدانية، بل أضعفت الروح المعنوية للقوات، وقلّصت ثقة السكان في قدرة الدولة على حمايتهم، ما دفع بعض المجتمعات إلى الدخول في صفقات غير رسمية مع الجماعات المسلحة لضمان أمنها، وهو ما عزز من ترسُّخ نفوذ هذه الجماعات.

إلى جانب العامل الأمني، يفاقم التغير المناخي والأزمات البيئية الوضع في حوض بحيرة تشاد. فقد أدت الفيضانات الأخيرة وارتفاع منسوب المياه في بعض المناطق إلى تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، وإغراق مناطق سكنية، وزيادة معدلات النزوح الداخلي. ومع تراجع الأراضي الصالحة للزراعة والصيد، تصاعدت حدة النزاعات بين المزارعين والرعاة والصيادين، في ظل غياب آليات فعّالة لتسوية النزاعات بعد استهداف القادة التقليديين والدينيين من قبل الجماعات المسلحة. هذا الانهيار في البنى الاجتماعية التقليدية حرم المجتمعات المحلية من أدواتها التاريخية لإدارة الموارد المشتركة، وأضعف قدرتها على التكيف مع الضغوط المناخية والاقتصادية، مما جعلها أكثر عرضة للتجنيد أو الاستغلال من قبل الفاعلين المسلحين.[2]

وفي هذا السياق، يسعى المقال للإجابة على التساؤل المطروح للدراسة، وهو: هل يمكن للدول المشاطئة للبحيرة وشركائها الإقليميين والدوليين وضع استراتيجية شاملة تعالج جذور الأزمة البيئية وتحد من تمدد الجماعات المسلحة، أم إن حوض بحيرة تشاد سيظل ساحة مفتوحة لاقتصاديات العنف وتفاقم النزاعات، مع ما يحمله ذلك من تهديدات مستمرة للاستقرار الإقليمي والأمن الإنساني في المنطقة.

أولًا: تحوّل الصيد والزراعة والرعي إلى مصادر تمويل للجماعات المسلحة

اعتماد المجتمعات المحيطة ببحيرة تشاد على الصيد والزراعة والرعي كان تاريخيًا مصدر قوتها الاقتصادية وضمان استقرارها الاجتماعي، لكن هذا الأساس تعرض لتغير جذري مع تصاعد النزاع المسلح وبروز جماعات مثل بوكو حرام و”داعش – ولاية غرب أفريقيا”. هذه الجماعات أدركت القيمة الاستراتيجية لهذه القطاعات الحيوية، ليس فقط كمصادر غذاء، بل كموارد تمويل مستدامة. فسيطرت على مناطق الإنتاج وممرات التجارة، وفرضت أنظمة جباية تحت مسمى الزكاة أو الضرائب على المزارعين والصيادين والرعاة. هذا التحول حوّل الأنشطة التي كانت يوماً أساساً للرزق إلى جزء من “اقتصاد العنف”، حيث يذهب جزء كبير من العائدات إلى تمويل شراء الأسلحة، وإعالة المقاتلين، وتمويل عمليات التوسع العسكري. هذه السيطرة ترافقت مع استغلال هشاشة الدولة، إذ غالباً ما تتم الجباية في مناطق لا وجود فعلي فيها للأجهزة الأمنية أو الإدارية، مما يرسخ سلطة هذه الجماعات كبديل قسري للدولة.[3]

الصيد، الذي كان يمثل عماد الحياة الاقتصادية في جزر وشواطئ البحيرة، أصبح هدفاً مباشراً للجماعات المسلحة التي استغلت تضييق السلطات على الوصول إلى مناطق الصيد تحت ذريعة مكافحة الإرهاب. حظر دخول العديد من الجزر بحجة أنها مناطق عمليات مسلحة ترك المجال مفتوحاً أمام المسلحين لفرض شروطهم على الصيادين الذين يضطرون للعمل تحت سيطرتهم مقابل دفع رسوم محددة على كل شحنة أو كمية يتم صيدها. في بعض الحالات، وفرت الجماعات الحماية للصيادين في مواجهة الميليشيات المنافسة أو الغارات، مقابل الالتزام بدفع هذه الرسوم، ما عزز اعتماد المجتمعات المحلية عليها كوسيط وحامٍ، رغم أن هذا الدور يُبقيهم رهائن في اقتصاد موجه نحو خدمة المجهود الحربي للجماعات.

أما الزراعة، فشهدت تحولات مشابهة، إذ استغلت الجماعات المسلحة نزوح المزارعين من الأراضي الخصبة نتيجة الفيضانات أو القتال، فسيطرت على الأراضي وأعادت توزيعها بشروط مالية أو مقابل الولاء. في مناطق سيطرتها، فرضت الجماعات رسوماً على المحاصيل بعد الحصاد، وصلت في بعض الحالات إلى أضعاف المعدلات السابقة، كما في مثال زيادة ضريبة الحقل الواحد من 10 آلاف إلى 40 ألف نيرة بعد كل موسم حصاد. هذه الضرائب لا تمثل فقط عبئاً اقتصادياً على المزارعين، بل تحد من قدرتهم على الاستثمار في تحسين الإنتاج أو إعادة إعمار أراضيهم، مما يزيد من تبعيتهم للجماعات التي تتحكم في إمكانية وصولهم إلى الأسواق والمياه والأسمدة.

الرعي وتجارة الماشية، وخاصة الأبقار الكورية التي تشتهر بها المنطقة، لم تكن بمنأى عن هذا النمط. الجماعات المسلحة أدركت القيمة العالية للماشية كمورد مالي وغذائي، ففرضت جبايات على الرعاة عند استخدامهم مناطق الرعي التقليدية، وصادرت قطعاناً من المخالفين أو المعارضين. كما استخدمت تجارة الماشية كوسيلة لتمويل عملياتها، إما من خلال بيعها مباشرة في الأسواق عبر وسطاء، أو عبر شبكات تهريب عابرة للحدود مستفيدة من علاقاتها مع تجار في دول الجوار. في ظل ضعف الرقابة الحدودية وفساد بعض عناصر الأمن، أصبح نقل الماشية من مناطق النزاع إلى الأسواق الكبرى يتم بسلاسة نسبية، مما يضمن للجماعات تدفقاً مالياً ثابتاً.[4]

التحكم في هذه القطاعات الاقتصادية لم يكن مجرد استغلال ظرفي، بل كان جزءاً من استراتيجية أوسع لبناء نموذج حكم بديل. الجماعات المسلحة لم تكتفِ بفرض الضرائب، بل حاولت ترسيخ ما يشبه الإدارة المحلية، حيث تنظم عمليات الصيد والزراعة والرعي، وتضع قواعد لحل النزاعات، وتقدم أحياناً شكلاً من أشكال “الخدمات” مثل تأمين طرق التجارة أو حماية الأسواق من السرقة. هذه الممارسات تمنحها شرعية نسبية في نظر بعض السكان الذين فقدوا الثقة في قدرة الدولة على حمايتهم أو دعمهم، لكنها في الواقع تدمج الاقتصاد المحلي في آلة تمويل الحرب وتعزز عزلة المجتمعات عن مؤسسات الدولة.

هذا الواقع المعقد يجعل من الصعب الفصل بين البعد الاقتصادي والبعد الأمني للنزاع في حوض بحيرة تشاد. فقد أصبح الصيد والزراعة والرعي، وهي أنشطة مدنية بحتة، جزءاً من ديناميكيات الصراع المسلح، بما تحمله من تدفقات مالية وموارد حيوية. استمرار هذا النمط يعزز اقتصاديات العنف ويمدد عمر النزاع، لأن الجماعات المسلحة تجد فيه وسيلة ذاتية التمويل لا تعتمد على الدعم الخارجي فقط، ما يطرح تحدياً كبيراً أمام أي استراتيجية تهدف إلى نزع سلاح هذه الجماعات أو تقويض نفوذها. ولذا، فإن معالجة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة شاملة تدمج الأمن مع إعادة تأهيل الاقتصاد المحلي وتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود خارج منظومات العنف. [5]

ثانيًا: المواقع العسكرية النائية ثغرة قاتلة في جهود مكافحة الإرهاب

المواقع العسكرية النائية في حوض بحيرة تشاد تمثل واحدة من أبرز نقاط الضعف في منظومة مكافحة الإرهاب بالمنطقة، إذ إن انتشارها في مناطق معزولة جغرافيًا وسط جزر ومستنقعات وممرات مائية يجعل عملية الإمداد والإنقاذ شديدة التعقيد. هذه القواعد غالبًا ما أُنشئت في قرى أو مناطق كانت قد دمرت سابقًا بفعل النزاع، بهدف تسهيل الاستقرار وإعادة توطين السكان، لكنها تحولت عمليًا إلى أهداف مثالية لهجمات “داعش – ولاية غرب أفريقيا”. التنظيم يدرك أن هذه المواقع تفتقر إلى التجهيزات الكاملة من أفراد وعتاد، ما يمنحه أفضلية تكتيكية واضحة، خاصة في العمليات الليلية أو الهجمات المباغتة باستخدام مجموعات مقاتلين مدربة وخفيفة الحركة.[6]

التنظيم تبنى استراتيجية ممنهجة أطلق عليها اسم “محرقة المعسكرات”، حيث تستهدف هجماته هذه المواقع النائية لشل قدرات القوات الأمنية في المناطق الحدودية والريفية. الهجمات غالبًا ما تتم بسرعة وبكثافة نيرانية، مع الاعتماد على أسلحة خفيفة لكنها متطورة، واستخدام طائرات مسيّرة معدلة لإلقاء متفجرات على نقاط الحراسة والمواقع الحساسة داخل المعسكرات. الهدف ليس فقط قتل الجنود أو السيطرة على الموقع مؤقتًا، بل بالأساس الاستيلاء على الأسلحة والذخائر والمعدات، ما يقلل اعتماد التنظيم على شبكات التهريب الخارجية ويمنحه اكتفاءً ذاتيًا نسبيًا في التسليح.[7]

الضعف في منظومة التعزيز والدعم يفاقم المشكلة، إذ كثيرًا ما تستمر الاشتباكات لساعات دون وصول أي تعزيزات جوية أو برية، بسبب بُعد المسافات وصعوبة التنقل في التضاريس المعقدة. حالات موثقة لهجمات على مواقع مثل مالام فاتوري على الحدود النيجيرية–النيجرية أظهرت أن القوات بقيت تقاتل بمفردها لثلاث ساعات قبل أن ينسحب المهاجمون حاملين معهم الأسلحة والمعدات. هذا الانقطاع في خطوط الإمداد لا يضر فقط بالمعنويات، بل يشجع التنظيم على تكرار الهجمات معتمداً على أن رد الفعل الحكومي سيكون بطيئاً وغير فعال.

الجغرافيا تلعب دورًا أساسيًا في ترسيخ هذه الثغرة، فبحيرة تشاد بجزرها النائية وشبكة مجاريها المائية توفر للتنظيمات ملاذات آمنة لا تستطيع القوات الحكومية الوصول إليها إلا بقدرات بحرية أو برمائية متقدمة، وهي قدرات تفتقر إليها معظم جيوش المنطقة. هذا النقص يجعل القوات تعتمد بشكل أساسي على الضربات الجوية، لكن التنظيم تأقلم مع هذا التهديد عبر إنشاء ملاجئ تحت الأرض وبناء تحصينات وسط القرى والمناطق السكنية، ما يصعّب استهدافه دون وقوع خسائر مدنية.

تأثير هذه الهجمات لا يقتصر على الخسائر الميدانية المباشرة، بل يمتد إلى البعد الاستراتيجي والسياسي، إذ إن تكرار استهداف المواقع النائية وإسقاطها – ولو لفترات قصيرة – يضعف ثقة السكان في قدرة الدولة على حمايتهم، ويدفع بعض المجتمعات للتعاون مع التنظيم أو قبول وجوده كأمر واقع. كما أن خسارة المعدات الثقيلة والأسلحة المتطورة تمثل نزيفًا ماليًا وعسكريًا يصعب تعويضه، ما يخلق حلقة مفرغة من الضعف والتعرض للهجوم. كما معالجة هذه الثغرة تتطلب إعادة نظر شاملة في توزيع وانتشار هذه المواقع، والتركيز على تقوية قدرات الحركة السريعة والاستجابة الفورية، سواء من خلال إنشاء قواعد مزدوجة قريبة من بعضها لتوفير دعم متبادل، أو عبر تعزيز القدرات البحرية والبرمائية للوصول إلى الجزر والمناطق النائية. كما يجب تحسين أنظمة الإنذار المبكر والتواصل بين المواقع المعزولة ومراكز القيادة، لضمان أن القوات المتمركزة في الخطوط الأمامية ليست مجرد أهداف تنتظر مصيرها، بل عناصر قادرة على الصمود وصد الهجمات حتى وصول الدعم.[8]

ثالثًا: الفيضانات وتغير المناخ تهديدات تعمّق هشاشة المجتمعات في حوض بحيرة تشاد

الفيضانات المتكررة في حوض بحيرة تشاد لم تعد مجرد ظاهرة طبيعية موسمية، بل تحولت إلى عامل بنيوي يعيد تشكيل الجغرافيا المائية والزراعية للمنطقة ويعمق هشاشة المجتمعات المحلية. ارتفاع منسوب المياه بشكل مفاجئ يتسبب في تآكل ضفاف البحيرة وغمر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، ما يؤدي إلى فقدان المحاصيل الأساسية التي تمثل مصدر دخل وغذاء للسكان. هذه الخسائر الزراعية تترجم إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وانخفاض القدرة الشرائية، وهو ما يضع الأسر الفقيرة تحت ضغط اقتصادي متزايد، ويجعلها عرضة للجوء إلى استراتيجيات بقاء محفوفة بالمخاطر، مثل بيع الأصول القليلة أو النزوح إلى مناطق أكثر أمانًا، وهي تحركات غالبًا ما تستغلها الجماعات المسلحة لإعادة توزيع السكان بما يخدم أهدافها العملياتية.

الأثر الاجتماعي للفيضانات يتجلى في نزوح آلاف العائلات من قراها المدمرة إلى مخيمات مكتظة تفتقر إلى الخدمات الأساسية، ما يخلق بيئة إنسانية هشة تتقاطع فيها الأزمات الصحية والتعليمية والأمنية. في ظل غياب استجابة حكومية فعالة، تجد المنظمات غير الحكومية نفسها عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة، بينما تستغل الجماعات المسلحة هذه الفجوة لملء الفراغ عبر تقديم دعم مشروط أو توفير موارد أساسية مقابل الولاء أو التعاون. هذه الدينامية لا تعزز فقط نفوذ تلك الجماعات، بل تضعف أيضًا الروابط بين الدولة والمجتمع، وهو ما يعقد جهود إعادة الإعمار أو فرض سيادة القانون في المناطق المتضررة.[9]

من منظور بيئي، تكشف الفيضانات عن هشاشة البنية التحتية في دول الحوض، إذ تؤدي إلى تدمير الطرق والجسور ومرافق المياه والصرف الصحي، مما يعيق حركة القوات الأمنية وعمليات الإغاثة على حد سواء. تدهور هذه البنية التحتية يطيل أمد الأزمة، حيث تبقى المناطق المنكوبة معزولة لفترات طويلة، وهو ما يمنح الجماعات المسلحة حرية حركة أكبر وقدرة على التخطيط والتمركز بعيدًا عن أعين السلطات. إضافة إلى ذلك، فإن غياب خطط إدارة مخاطر الكوارث يزيد من حجم الخسائر البشرية والمادية، ويضعف قدرة المجتمعات على التعافي السريع.

على الصعيد الاقتصادي، فإن الضرر الذي تلحقه الفيضانات بقطاعي الزراعة والصيد يعصف بسبل العيش التقليدية للسكان المحليين. فقدان المعدات الزراعية ومخزونات الحبوب، وانخفاض أعداد الأسماك بسبب اضطراب النظام البيئي المائي، يدفع الكثيرين نحو البطالة والفقر المدقع. هذه الظروف تشكل بيئة مثالية لعمليات التجنيد التي تقوم بها الجماعات المسلحة، إذ تقدم عروضًا مالية أو وعودًا بالحماية مقابل الانضمام إليها. ومع تراكم هذه العوامل، تتحول الكارثة البيئية إلى أزمة أمنية متصاعدة.

البعد الإقليمي للأزمة يتضح حين ندرك أن الفيضانات لا تعترف بالحدود السياسية، بل تضرب مناطق متعددة في نيجيريا وتشاد والكاميرون والنيجر، ما يتطلب تعاونًا عابرًا للحدود لإدارتها. لكن ضعف التنسيق بين الدول الأربع، وتباين أولوياتها السياسية والأمنية، يجعل من الصعب صياغة استراتيجية مشتركة فعالة. وفي ظل هذا الفراغ، يتوسع نفوذ الجماعات المسلحة التي تستفيد من ضعف المراقبة على الحدود المائية، لتهريب السلاح والسلع وحتى الأشخاص، مما يضيف بُعدًا جديدًا لتعقيد الصراع.

إلى جانب الأضرار المباشرة، تترك الفيضانات أثرًا نفسيًا طويل الأمد على المجتمعات المحلية، حيث تتشكل لدى السكان حالة من عدم اليقين والخوف من تكرار الكارثة، ما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات قسرية مثل التخلي عن أراضيهم أو الهجرة الدائمة. هذا النزيف البشري يفرغ القرى من قواها العاملة، ويترك فراغًا اقتصاديًا وأمنيًا تستثمره الجماعات المسلحة لتوسيع نفوذها. ومع استمرار تغير المناخ، يتوقع أن تتزايد حدة هذه الظواهر، مما يجعل الحاجة إلى حلول مستدامة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.[10]

رابعًا: الاستغلال السياسي والأمني لأزمة بحيرة تشاد

الأزمة المتعددة الأبعاد التي يشهدها حوض بحيرة تشاد تحولت إلى ورقة ضغط بيد الحكومات والجماعات المسلحة على حد سواء. فبعض الحكومات الإقليمية توظف ملف الأمن ومكافحة الإرهاب في المنطقة كوسيلة للحصول على دعم عسكري ومالي دولي، سواء من القوى الغربية أو من الشركاء الإقليميين. هذا التوظيف السياسي للأزمة يجعل من قضية بحيرة تشاد أداة لشرعنة تمديد الصلاحيات الاستثنائية للأنظمة الحاكمة، وتبرير القيود على الحريات العامة، بحجة الحفاظ على الأمن. وفي المقابل، تنجح الجماعات المسلحة في استثمار التوترات العرقية والمظالم الاجتماعية الناتجة عن التدهور البيئي والنزوح، لتحويلها إلى خطاب تعبوي ضد السلطات، مما يعمّق الانقسام ويزيد من هشاشة المجتمعات المحلية.

في ظل هذا الواقع، يصبح التعاون الأمني بين دول الحوض متأثراً بحسابات سياسية معقدة، إذ غالباً ما تفرض الخلافات الثنائية أو الإقليمية نفسها على طبيعة التنسيق المشترك. فعلى سبيل المثال، قد تُبطئ المنافسات الحدودية أو النزاعات التاريخية بين بعض الدول من فعالية العمليات العسكرية المشتركة، ما يتيح للجماعات المسلحة فرصة لإعادة الانتشار أو التمدد. كما أن اعتماد بعض الدول على مليشيات محلية أو جماعات مسلحة موالية لها في إدارة الصراع، يفتح الباب أمام إعادة إنتاج أنماط عنف غير منضبطة، تعزز الفوضى بدلاً من احتوائها، وتضعف الثقة بين الشركاء المفترضين في محاربة الإرهاب. الخطاب الإعلامي والسياسي حول بحيرة تشاد بدوره أصبح جزءاً من لعبة النفوذ، حيث تلجأ الحكومات إلى تضخيم أو تقليل حجم الخطر تبعاً لمصالحها في اللحظة الراهنة. ففي بعض الأحيان، يتم تضخيم خطر الجماعات المسلحة للحصول على مزيد من الدعم الدولي، بينما في أحيان أخرى تُخفف حدة الخطاب لطمأنة المستثمرين أو الرأي العام. هذا التلاعب بالمعلومات يعرقل بناء استجابة إقليمية واقعية ومستدامة، إذ يحجب الصورة الحقيقية لحجم الأزمة، ويؤدي إلى سوء تخصيص الموارد، سواء في الجانب الأمني أو الإغاثي.[11]

الأطراف الإقليمية والدولية ليست بعيدة عن هذا الاستغلال، إذ تنظر بعض القوى الكبرى إلى حوض بحيرة تشاد باعتباره مسرحاً لتعزيز وجودها العسكري أو الاستخباراتي في وسط وغرب أفريقيا. التدخلات التي تأتي تحت غطاء مكافحة الإرهاب أو المساعدات الإنسانية غالباً ما تحمل في طياتها أهدافاً استراتيجية، مثل تأمين موارد الطاقة أو توسيع مناطق النفوذ. هذا الحضور الخارجي يخلق توازنات جديدة، لكنه في الوقت نفسه قد يفاقم من حدة التوترات المحلية، خاصة إذا ما ارتبط بدعم طرف على حساب آخر، مما يعزز الانقسام ويؤجج الصراع.

الأزمة الإنسانية الناجمة عن التدهور البيئي والنزاعات المسلحة، بدلاً من أن تكون مدخلاً لتوحيد الجهود، أصبحت أداة إضافية للمساومات السياسية. فبعض الأطراف قد تُبطئ أو تعرقل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق معينة كوسيلة للضغط على خصومها أو لمعاقبة مجتمعات يُشتبه بدعمها للجماعات المسلحة. هذا التسييس للمساعدات يضاعف من معاناة المدنيين، ويقوض الثقة في الهيئات الإنسانية، ويغذي روايات الجماعات المسلحة التي تستغل هذه المعاناة في تجنيد عناصر جدد.[12]

في هذا، ويمكن القول إن الاستغلال السياسي والأمني لأزمة بحيرة تشاد يعمق من تعقيدات المشهد ويجعل أي حل شامل أكثر صعوبة. فبدلاً من أن تكون البحيرة نقطة التقاء للتعاون الإقليمي والدولي في مواجهة تهديدات مشتركة، تحولت إلى ساحة يتقاطع فيها الطموح السياسي مع حسابات النفوذ وأجندات الأمن. هذه الديناميكيات تجعل من الضروري إعادة النظر في آليات التعامل مع الأزمة، بحيث تركز على معالجة الأسباب الجذرية للتدهور البيئي والاجتماعي، وتفصل العمل الإنساني عن الحسابات السياسية الضيقة، لضمان استقرار طويل الأمد في المنطقة.

خامسًا: سباق الموارد وإعادة رسم خرائط النفوذ في حوض بحيرة تشاد

يتّسم حوض بحيرة تشاد بكونه مسرحًا لتنافس حاد على الموارد الطبيعية المحدودة، حيث أدّت عقود من التراجع في منسوب المياه وتدهور البيئة إلى دفع المجتمعات المحلية والجماعات المسلحة والدول المشاطئة إلى سباق محموم للسيطرة على ما تبقى من الأراضي الخصبة ومصادر المياه. هذا التنافس لا ينفصل عن البعد السياسي والعسكري للصراع، إذ تستغل بعض الأطراف هذا الوضع لترسيخ نفوذها على حساب الآخرين، ما يؤدي إلى إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية في المنطقة. القوى الإقليمية والدولية ليست غائبة عن المشهد، بل ترى في الأزمة فرصة لتعزيز حضورها عبر تقديم الدعم العسكري أو الاقتصادي لأطراف معينة، بما يضمن لها موطئ قدم في منطقة استراتيجية تربط بين غرب ووسط أفريقيا، وتتحكم في طرق التجارة والممرات العابرة للحدود.[13]

تاريخيًا، شكلت بحيرة تشاد مصدر رزق رئيسي لملايين السكان، لكن تراجع مساحتها بحوالي 90% منذ ستينيات القرن الماضي دفع الجماعات المحلية إلى تكثيف المنافسة على الصيد والزراعة والرعي. مع تضاؤل هذه الموارد، تحوّلت السيطرة على مواقع معينة حول البحيرة إلى مسألة بقاء بالنسبة للمجتمعات، وإلى ورقة ضغط بأيدي الجماعات المسلحة التي تفرض إتاوات أو تمنع الوصول إلى الموارد إلا وفق شروطها. هذا الوضع ولّد بيئة مواتية لاندماج الصراع الاقتصادي مع الصراع الأمني، حيث تصبح الموارد أداة تمويل للنزاعات وأيضًا سببًا لاستمرارها، بما يخلق دائرة مفرغة من العنف والاستنزاف. فيما تزايد النزوح الداخلي الناتج عن تدهور الموارد أسهم في إعادة تشكيل الخريطة السكانية في المنطقة، وهو ما استغلته بعض القوى المسلحة والحكومات لإعادة توزيع النفوذ. فعلى سبيل المثال، قد تدعم جهة ما مجتمعًا نازحًا مقابل ولائه السياسي أو العسكري، بينما تسعى جماعات أخرى إلى تهجير خصومها من مناطق استراتيجية لفرض سيطرة حصرية على الأراضي والمياه. هذا التلاعب بالخريطة الديموغرافية يعزز الانقسامات العرقية والقبلية، ويؤدي إلى تكريس أجواء انعدام الثقة بين المكونات المختلفة، ما يصعّب جهود الوساطة وبناء السلام على المدى الطويل.[14]

تدخل الأطراف الإقليمية في سباق الموارد بحوض بحيرة تشاد يحمل أبعادًا استراتيجية واضحة، إذ تدرك هذه القوى أن السيطرة على الممرات المائية والبرية تعني التحكم في حركة البضائع والأسلحة والأشخاص عبر الحدود. بعض هذه الأطراف يسعى إلى تعزيز دوره كوسيط أو ضامن للاستقرار، بينما يفضّل آخرون تغذية النزاعات بشكل غير مباشر لضمان بقاء نفوذهم عبر الاعتماد المتبادل مع القوى المحلية. هذه الحسابات الجيوسياسية تجعل أي اتفاقيات لتقاسم الموارد هشّة وقابلة للانهيار في حال تغيّرت موازين القوى أو تبدّلت أولويات الأطراف المتدخلة.

العامل الاقتصادي يلعب دورًا محوريًا في سباق الموارد، حيث تتداخل مصالح الفاعلين المحليين مع المستثمرين الأجانب الذين يسعون لاستغلال ما تبقى من إمكانيات المنطقة الزراعية والمائية. هذه الاستثمارات، رغم ما قد تحمله من وعود بالتنمية، غالبًا ما تثير الجدل لكونها تتم في بيئة نزاعية وغير مستقرة، ما يجعل عوائدها عرضة للابتزاز أو المصادرة. وبدلاً من أن تكون أداة لتحسين أوضاع المجتمعات المحلية، تتحول أحيانًا إلى سبب إضافي لتأجيج النزاعات، خصوصًا إذا لم ترافقها آليات عادلة لتوزيع العوائد أو ضمان حقوق السكان.[15]

في هذا السياق المعقد، يبدو أن سباق الموارد في حوض بحيرة تشاد يتجاوز مسألة الصراع على البقاء، ليصبح جزءًا من إعادة رسم خرائط النفوذ المحلية والإقليمية. تداخل العوامل البيئية والاقتصادية والسياسية والعسكرية يجعل من الصعب فصل أحدها عن الآخر، ويطرح تحديات كبرى أمام أي جهود للتسوية أو التنمية المستدامة. السؤال الجوهري الذي يطرحه هذا الوضع هو: هل يمكن تحويل إدارة الموارد إلى أداة للتعاون الإقليمي وبناء السلام، أم أن الحوض سيبقى رهينة لصراعات لا تنتهي على ما تبقى من ثرواته الطبيعية.

وختامًا، يمكن القول إن حوض بحيرة تشاد يجسد نموذجًا صارخًا لتشابك الأزمات البيئية مع الديناميكيات الأمنية والسياسية في قلب أفريقيا. التغيرات المناخية وفقدان الموارد لا تعمل في فراغ، بل تتفاعل مع ضعف مؤسسات الدولة، وتنافس القوى المحلية والإقليمية، وصعود الجماعات المسلحة، لتنتج بيئة نزاع معقدة ومتجددة. هذه البيئة لا تكتفي بإعادة رسم خرائط النفوذ على الأرض، بل تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة، وتفرض تحديات مضاعفة على جهود التنمية والاستقرار. أي استجابة فعالة يجب أن تكون متعددة المستويات، تربط بين الإدارة المستدامة للموارد، وتعزيز قدرات الحوكمة المحلية، ورفع كفاءة التعاون الأمني الإقليمي، وإلا سيظل الحوض رهينة لصراعات لا تعرف نهاية.

وفي ضوء هذا التحليل، يبدو أن الإجابة على التساؤل المطروح في بداية المقال تميل نحو ضرورة صياغة استراتيجية شاملة ومتكاملة، تعالج الجذور البيئية والاجتماعية للأزمة بالتوازي مع تقليص قدرة الجماعات المسلحة على التمويل والتوسع. نجاح هذه الاستراتيجية يتوقف على التزام الدول المشاطئة بتجاوز خلافاتها، وبناء آليات تعاون إقليمي فعّالة، واستقطاب دعم دولي مستدام يركز على بناء القدرات لا مجرد الحلول المؤقتة. وإلا فإن اقتصاديات العنف ستظل متجذرة، وستستمر النزاعات في إعادة إنتاج نفسها بوتيرة متسارعة.


[1] OS Mahamood and C Ndubuisi, Factional dynamics within Boko Haram, Institute for Security Studies, 2018, https://issafrica.org/research/booksand-other-publications/factionaldynamics-within-boko-haram.

[2] M Samuel, Islamic State fortifies its positions in the Lake Chad Basin, Institute for Security Studies, 13 July 2021, https://issafrica.org/isstoday/islamic-state-fortifies-its-position-in-thelake-chad-basin .

[3] C Speranza, U Wiesmann and S Rist, An indicator framework for assessing livelihood resilience in the context of social-ecological dynamics, Global Environmental Change, 2014.

[4] M Samuel, Economics of terrorism in the Lake Chad Basin, Institute for Security Studies, 10 July 2019, https://issafrica.org/iss-today/economics-of-terrorism-in-lake-chad-basin.

[5] M Samuel, Boko Haram and COVID-19: Lake Chad Basin’s war on two fronts, Institute for Security Studies, 2021, https://issafrica.org/isstoday/boko-haram-and-covid-19-lake-chad-basinswar-on-two-fronts.

[6] VOA Afrique, La culture du poivron de nouveau autorisée au Niger malgré Boko Haram, 18 October 2017, https://www.voaafrique.com/a/laculture-du-poivrondenouveauautoriseeaunigermalgrebokoharam/4075695.html#:~:text=Les%20autorit%C3%A9s%20de%20Diffa%20avaient,pour%20%22financer%20ses%20activit%C3%A9s%22.

[7] UNOCHA, Tchad Rapport de situation, 10 September 2020, https://reliefweb.int/report/chad/tchad-rapport-de-situation-10-sept-2020.

[8] France24, Nigeria: des dizaines de paysans tués par des activists islamistes présumés, 30 November 2020, https://www.france24.com/fr/

[9] Fahiraman Rodrigue Koné, “Violent extremism erodes local climate resilience in the Sahel,” ISS Today, link: https://issafrica.org/iss-today/violent-extremism-erodes-local-climate-resilience-inthe-sahel

[10] Célestin Delanga & Abélégué Alliance Fidèle, “Lake Chad Basin governments should redouble efforts against ISWAP,” ISS Today, link: https://issafrica.org/iss-today/lake-chad-basingovernments-should-redouble-efforts-against-iswap

[11] Institute for Security Studies (ISS), “Lake Chad Basin’s military bases in ISWAP’s cross-hairs,” ISS Today, link: https://issafrica.org/iss-today/lake-chad-basin-s-military-bases-in-iswap-s-crosshairs 

[12] Refugees International, “Climate-fueled Violence and Displacement in the Lake Chad Basin: Focus on Chad and Cameroon,” Refugees International, link: https://www.refugeesinternational.org/reports-briefs/climate-fueled-violence-anddisplacement-in-the-lake-chad-basin-focus-on-chad-and-cameroon

[13] Tony Blair Institute for Global Change, From Crisis to Conflict: Climate Change and Violent Extremism in the Sahel, Institute.global, link: https://institute.global/insights/geopolitics-andsecurity/from-crisis-to-conflict-climate-change-and-violent-extremism-in-the-sahel

[14] United Nations, Activities of the United Nations system in implementing United Nations… (thematic report), OHCHR, link: https://www.ohchr.org/en/documents/thematic-reports/a77718activities-united-nations-system-implementing-united-nations

[15] SIPRI, Sahel–sud du Sahara: Tendances et conflits climatiques (French fact sheet), SIPRI, link: https://www.sipri.org/sites/default/files/2023-10/21_fs_sahel_french.pdf