كتب – د. محمد فؤاد رشوان

باحث في الشؤون الأفريقية

في خطوة تحمل أبعادًا سياسية وأمنية عميقة، صرّح المتحدث الرسمى باسم وزارة الخارجية  الاثيوبية نبيات جيتاشو بعدم توقف بلادة عن الحد من تهديدات حركة شباب المجاهدين فى المنطقة  ملمحًا عن نية بلاده عدم الانسحاب من الأراضي الصومالية عقب انتهاء مهمة بعثة حفظ السلام الأفريقية.

يأتي هذا التصريح ليكشف عن استراتيجية إثيوبيا لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي، وسط واقع سياسي وأمني معقّد تشهده المنطقة. فالصومال، الذي لا يزال يواجه تحديات مستمرة من الإرهاب والصراعات الداخلية، يشكل أهمية استراتيجية بالنسبة لإثيوبيا من الناحية الأمنية والاقتصادية، إضافة إلى تأثيره المباشر على استقرار الإقليم.

التواجد الإثيوبي في الصومال ليس جديدًا؛ إذ تمتد جذوره إلى سنوات من التدخلات العسكرية والمشاركة في عمليات حفظ السلام. ومع ذلك، فإن إعلان أديس أبابا عن نيتها البقاء على الأرض الصومالية حتى بعد انتهاء التفويض الدولي، يعكس توجّهًا يتجاوز الهدف الظاهري المتمثل في مكافحة الإرهاب، ليتطرق إلى طموحات سياسية واقتصادية أوسع. إثيوبيا، التي تُعد واحدة من القوى الرئيسية في شرق أفريقيا، تسعى من خلال هذا القرار إلى تأمين حدودها من تهديدات حركة الشباب الإرهابية، وتعزيز نفوذها الإقليمي، وضمان وصولها إلى ممرات التجارة والموانئ الاستراتيجية على الساحل الصومالي.

لكن هذا القرار يثير تساؤلات حول مدى تأثيره على السيادة الصومالية والعلاقات الإثيوبية-الصومالية، خاصة أن كثيرًا من الصوماليين ينظرون بعين الريبة إلى أي تواجد عسكري أجنبي. كما أنه يُنذر بتعقيد المشهد السياسي في المنطقة، وسط تنافس إقليمي ودولي على النفوذ في القرن الأفريقي، خاصة من قبل تركيا والإمارات والولايات المتحدة.

في هذا السياق، يصبح من الضروري تحليل هذا التصريح الإثيوبي من جميع جوانبه، لفهم تداعياته المحتملة على استقرار الصومال، والعلاقات الإقليمية، ومستقبل الأمن في القرن الأفريقي.

أولًا : الدوافع الإثيوبية للاستمرار في الصومال بعد انتهاء بعثة حفظ السلام

تسعى إثيوبيا إلى تعزيز مكانتها كقوة محورية في القرن الأفريقي وتعتبر الصومال منطقة نفوذ تقليدية لها، ومن ناحية أخرى تخشى إثيوبيا من عودة حرجة شباب المجاهدين إلى الحدود المشتركة ما قد يهدد أمنها الداخلي خاصة مع استمرار الأزمات الداخلية مع تيجراي وأوروميا، كما تنظر إثيوبيا إلى أي تواجد مصري في القرن الأفريقي خاصة في الصومال كجزء من صراع أوسع يتعلق بسد النهضة وتعزيز النفوذ المصري في المناطق القريبة من إثيوبيا وبالتالي تطويق إثيوبيا في مناطق تحركها التاريخية، لذا فتعتبر إثيوبيا التواجد المصري في الصومال مدفوعًا بهدف الضغط عليها في ملفات إقليمية أخرى مثل سد النهضة، ومن المتوقع أن تزيد إثيوبيا من وجودها العسكري في الصومال لتثبيت نفوذها والتأكيد على دورها كفاعل رئيسي في المنطقة، فيما يلي تحليل تفصيلي للدوافع الإثيوبية:

  1.  الدوافع الأمنية
  • مكافحة الإرهاب:

تُعد إثيوبيا من أكثر الدول تأثرًا بتهديدات حركة الشباب الإرهابية التي تعمل داخل الصومال وتهدد استقرار المنطقة بأكملها. استمرار إثيوبيا في التواجد العسكري يُعتبر أداة لحماية حدودها ومواجهة أي محاولات تسلل إرهابي قد يؤثر في أمنها الداخلي، خاصة في الأقاليم الحدودية مثل إقليم الصومال الإثيوبي.

  • التحديات الحدودية:

الحدود الطويلة بين إثيوبيا والصومال تُعد مصدر قلق أمني دائم، حيث يسهل تهريب الأسلحة والمقاتلين. لذلك، تسعى إثيوبيا إلى تأمين وجود عسكري في الداخل الصومالي لضمان عدم تصاعد التوترات الأمنية[1].

2 .  تعزيز النفوذ السياسي والإقليمي

  • الهيمنة الإقليمية:

تُعد إثيوبيا واحدة من القوى الكبرى في شرق أفريقيا، وتسعى إلى ترسيخ نفوذها كقائد إقليمي. التواجد العسكري المستمر في الصومال يُمكنها من لعب دور أساسي في صياغة القرارات السياسية داخل الصومال، مما يُعزز من قوتها الإقليمية.

  • موازنة القوى الإقليمية:

وجود دول مثل تركيا ومصر في الصومال من خلال الاستثمارات العسكرية والاقتصادية يُشكل تحديًا لإثيوبيا. لذلك، ترغب إثيوبيا في مواجهة هذه التحديات من خلال البقاء كطرف رئيسي في الساحة الصومالية.[2]

3.  الدوافع الجيوسياسية

  • مواجهة التدخلات الدولية:

تسعى إثيوبيا للحفاظ على استقلالها النسبي عن الضغوط الدولية وتجنب فقدان السيطرة على تطورات الوضع في الصومال لصالح قوى دولية أو إقليمية أخرى. بقاء القوات الإثيوبية يضمن قدرتها على التأثير في مستقبل البلاد.

كما أن استمرار التواجد في الصومال يمنح إثيوبيا فرصة لتعزيز علاقاتها مع القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي تدعم مكافحة الإرهاب لذا فإن هذه الخطوة قد تساعدها في تخفيف الضغوط الدولية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في الداخل.

  • إدارة التوازن الإقليمي:

القرن الأفريقي يُعتبر منطقة تنافس بين القوى الدولية مثل الولايات المتحدة والصين وتركيا، إضافة إلى دول الخليج، لذا فإن إثيوبيا ترى أن انسحابها من الصومال قد يُفسح المجال لهذه القوى لتوسيع نفوذها، ومن ناحية أخرى ترغب إثيوبيا في ترسيخ دورها كقوة إقليمية قائدة في شرق أفريقيا، خاصة مع التنافس القائم مع دول مثل كينيا وأوغندا، وبالتالي فإن البقاء في الصومال يمكن أن يُظهرها كطرف لا غنى عنه في قضايا الأمن الإقليمي.[3]

4 .  الاعتبارات الداخلية

  • تعزيز الوحدة الوطنية:

في ظل التحديات السياسية الداخلية التي تواجه إثيوبيا، مثل الصراعات العرقية والمطالبات بالانفصال، فإن نجاح الجيش الإثيوبي في الصومال يمكن أن يُستخدم كوسيلة لتعزيز الوطنية ودعم الحكومة.

  • تقوية النظام السياسي:

يُعد استمرار وجود إثيوبيا في الصومال أداة لتعزيز نفوذ النظام السياسي لرئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد. من خلال تأكيد إثيوبيا دورها كفاعل إقليمي أساسي، يسعى النظام إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية وإقليمية. داخليًا، يساعد التواجد العسكري في تعزيز صورة آبي أحمد كقائد قوي يحمي مصالح بلاده ويعزز الأمن القومي عبر الحدود، خاصة في ظل التحديات السياسية والعرقية التي تواجهها إثيوبيا.

ثانيًا: موقف القانون الدولي حال عدم انسحاب إثيوبيا من الصومال

استمرار إثيوبيا في التواجد العسكري في الصومال بعد انتهاء مهمة بعثة حفظ السلام الأفريقية (ATMIS) يثير تساؤلات حول مدى توافق هذا القرار مع مبادئ وقواعد القانون الدولي، يعتمد الموقف القانوني على عدة أبعاد، منها الالتزام بسيادة الدول، مبادئ التدخل العسكري، الإطار القانوني للتواجد العسكري، والتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني.

1.    مبدأ السيادة الوطنية في القانون الدولي

يعد مبدأ السيادة الوطنية من الأسس الراسخة في القانون الدولي، حيث تحظر المادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي. كما تؤكد الفقرة السابعة من المادة ذاتها ضرورة امتناع الدول الأعضاء عن التهديد أو استخدام القوة بشكل يتعارض مع أهداف الأمم المتحدة أو ينتهك سلامة الأراضي أو الاستقلال السيادي للدول الأخرى. بناءً على ذلك، فإن استمرار وجود القوات الإثيوبية في الصومال دون موافقة صريحة من الحكومة الصومالية قد يُعتبر انتهاكًا لهذا المبدأ.

وفي حال عدم صدور تفويض جديد من الحكومة الصومالية، يمكن تصنيف وجود القوات الإثيوبية كاحتلال عسكري غير قانوني، مما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليمية واتهامات بخرق سيادة الصومال.

وفي حال عدم صدور تفويض جديد من الحكومة الصومالية، يمكن تصنيف وجود القوات الإثيوبية كاحتلال عسكري غير قانوني، مما قد يؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليمية واتهامات بخرق سيادة الصومال.

ومع ذلك، يمكن تبرير استمرار الوجود الإثيوبي إذا وافقت الحكومة الصومالية الشرعية على ذلك. وفقًا للقانون الدولي، يجب أن تكون أي مساعدة عسكرية بين الدول قائمة على طلب رسمي من الحكومة الشرعية، مع تحديد أهداف واضحة والالتزام بفترة زمنية محددة. .[4]

 

2.    مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول

يحظر القانون الدولي التدخل العسكري في الشؤون الداخلية لدولة أخرى دون مبرر قانوني. وتنص المادة 2(7) من ميثاق الأمم المتحدة على منع الدول من التدخل في القضايا التي تندرج ضمن الاختصاص الداخلي لدولة أخرى، إلا في حال وجود تفويض صادر عن مجلس الأمن. بناءً على ذلك، فإن استمرار وجود القوات الإثيوبية في الصومال قد يُعد تدخلاً في الشؤون الداخلية إذا لم يكن مدعومًا بطلب رسمي من الحكومة الصومالية أو بتفويض أممي جديد.

ومن ناحية أخرى، تعتبر قضايا مكافحة الإرهاب أحد أبرز الأدوات التي تستخدمها القوى الكبرى لتحقيق مصالحها الحيوية والاستراتيجية، وذلك غالبًا على حساب تقويض سيادة دول العالم الثالث، خاصة الدول العربية والإسلامية. فقد أسفرت أحداث 11 سبتمبر 2001 عن تداعيات خطيرة على مفهوم السيادة الوطنية، حيث اعتمدت الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب على نهج الهيمنة واستخدام القوة الأحادية، مع تهميش أدوات الدبلوماسية. وقد أدى ذلك إلى انتهاك المبادئ الأساسية التي أرساها القانون الدولي، مثل مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وفي هذا السياق، يرى ريتشارد هاس (Richard Haas) أن “الدول تفقد سيادتها عندما تتحول أراضيها إلى ملاذات آمنة للإرهاب الدولي”.

وفي الواقع، شكّلت الحرب الأمريكية على الإرهاب سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، إذ ساهمت في إنشاء مفهوم موازٍ للشرعية الدولية يقوم على قانون الهيمنة بدلاً من شرعية الأمم المتحدة. وبالتالي، يمكن القول إن هذه الحرب تحولت من خلال التدخلات الأحادية إلى حرب شاملة تستهدف السيادة الوطنية.

ورغم ذلك، قد تستند إثيوبيا في تبرير وجودها إلى جهود مكافحة الإرهاب، وهو ما يتماشى مع قرارات مجلس الأمن التي تحث الدول على التعاون في مواجهة التنظيمات الإرهابية مثل “حركة الشباب”. ومع ذلك، يتعين أن يتوافق هذا التدخل مع القانون الدولي، بما يشمل احترام سيادة الدولة والحصول على موافقة حكومتها الشرعية.[5]

3.    الإطار القانوني للتواجد العسكري

تحكم مشاركة القوات في عمليات وبعثات حفظ السلام ثلاثة مبادئ أساسية حددتها الأمم المتحدة منها؛ موافقة الدول المتنازعة وذلك لعدم اعتبار القوة الموجودة جزءًا من الصراع بين جميع الأطراف، الحيادية بين جميع الأطراف لمراقبة أي انتهاكات والابلاغ عنها، عدم استعمال القوة إلا للدفاع عن النفس والمنطقة المنوط بحمياتها، وفي حالات محددة يتم استخدامه كافة الوسائل لردع أي محاولات قد تهدد المواطنين[6]، لذا فإن استمرار تواجد القوات الإثيوبية في الصومال يتطلب إطارًا قانونيًا واضحًا. وفقًا للقانون الدولي، يجب أن يكون التواجد العسكري تحت أحد التفويضات التالية:

تفويض أممي: يقتضي السماح بالتواجد العسكري لدولة قرار من مجلس الأمن يسمح لها بذلك  من أجل حفظ الأمن أو مكافحة الإرهاب، حيث منحت المادة 39 من ميثاق مجلس الأمن سلطة تقديرية إذا كان الأمر يتعلق بتحديد حالة تهديد للسلم والأمن الدوليين حيث ورد في هذه المادة أن لمجلس الأمن أن يقرر ما إذا كان هناك حالة تهديد للسلم والأمن الدوليين أم لا؟ إخلال به أو عندما يكون هناك فعل وقع أو عملًا أو عدوان ومع ذلك يقدم المجلس توصياته أو له أن يقرر ما يجب اتخاذه من تدابير طبقًا لأحكام المادتين (41-42) من ميثاق الأمم المتحدة. [7]

تفويض إقليمي: تفويض من الاتحاد الأفريقي، مع موافقة الحكومة الصومالية حيث أنشأ مجلس السلم والأمن الأفريقي التابع للاتحاد الأفريقي تفويض بإنشاء بعثة أميصوم للاضطلاع بمهام حفظ السلم والأمن في الصومال بموافقة مجلس السلم والأمن الدوليين.

اتفاقية ثنائية: اتفاقية بين الصومال والدولة التي ترغب في التواجد على أن تُحدد أهداف ومدة التواجد مثل الاتفاق الأخير بين الصومال ومصر وغيرها من الاتفاقيات الثنائية التي تتوقف على رضاء الطرفين.

ومع انتهاء مهمة بعثة ATMIS ، ينتهي الإطار القانوني الذي يسمح لإثيوبيا بالتواجد في الصومال. استمرار القوات الإثيوبية دون تفويض جديد قد يُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي، ما لم يتم الاتفاق على إطار قانوني جديد.

4.     ميثاق الأمم المتحدة وقواعد التدخل العسكري

قد تستند إثيوبيا إلى المادة 51 التي تعترف بحق الدفاع عن النفس، إذا زعمت أن وجودها في الصومال ضروري لحماية أمنها القومي من تهديدات حركة الشباب. ومع ذلك، يجب أن تُثبت إثيوبيا أن التهديد وشيك، وأن التواجد العسكري هو الوسيلة الوحيدة لحماية أمنها.

حتى مع استناد البعض إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لتبرير تدخلاتهم، فإن هذا التبرير قد فقد وجاهته وأصبح غير مقنع. فحق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في هذه المادة لا يمكن أن يغطي التدخل في الشؤون الداخلية للدول تحت ذريعة حماية مواطني الدول المتدخلة أو الدفاع عن حقوق الإنسان. تنص المادة 51 بوضوح على أن استخدام هذا الحق يجب أن يكون ردًا على عدوان مسلح، وهو ما لا يوفر أي أساس قانوني أو شرعي لتبرير التدخلات بدعوى حماية حقوق الإنسان أو مواجهة انتهاكات مزعومة ضد مواطني دولة معينة.

وعليه، فإن محاولات تأسيس التدخلات على هذا الأساس تفتقر إلى الشرعية القانونية وتكشف عن الأهداف الخفية وغير النزيهة للمتدخلين الذين يستخدمون هذه الذريعة لخرق سيادة الدول وانتهاك مبادئ القانون الدولي.[8]

وقد أصبحت القضايا الداخلية تخضع لمراقبة دولية متزايدة، حيث تلاشت الحدود التقليدية بين ما هو داخلي وخارجي. الأمم المتحدة تبنّت مفهومًا يُعتبر فيه أن انتهاكات المعايير الدولية تفقد صفتها كقضايا داخلية بحتة وتصبح شأنًا دوليًا، مما يستدعي إعادة تعريف ما يدخل ضمن السيادة الوطنية. الأزمات الداخلية، مثل النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان، تحوّلت إلى قضايا دولية بسبب تأثيراتها الواسعة. هذا التداخل بين الداخلي والدولي فرض تحديًا أمام الدول في الحفاظ على سيادتها، وأعاد رسم اختصاصاتها ودور المنظمات الدولية في حماية الأمن والسلام العالميين.

لذا فإن قرارات مجلس الأمن المتعلقة بمكافحة الإرهاب تُشجع الدول على التعاون، لكنها تُلزم الدول أيضًا باحترام القانون الدولي. استمرار إثيوبيا في الصومال دون موافقة صومالية قد يُعتبر انتهاكًا لهذه القواعد.[9]

5.     القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان

كانت قضايا احترام حقوق الإنسان قديماً تُنظَّم ضمن دساتير الدول وقوانينها الوطنية دون تدخل خارجي. إلا أنه، وبعد المآسي والمجازر التي تعرضت لها حقوق الإنسان خلال الحربين العالميتين، اتجه واضعو ميثاق الأمم المتحدة إلى إيلاء اهتمام أكبر بهذه القضايا، انطلاقًا من الحرص على الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وبناءً على ذلك، تم النص على حقوق الإنسان والحريات الأساسية كالتزام قانوني ملزم في عدة مواد من ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك الديباجة، والمادة (1) الفقرة (3)، والمادة (55)، والمادة (56)، والمادة (62) الفقرة (2). ووفقاً لهذه النصوص، تعهدت الدول بالعمل على تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها دون أي تمييز.

لذا فإن استمرار التواجد العسكري الإثيوبي يُلزم القوات الإثيوبية بالامتثال للقانون الدولي الإنساني. هذا يشمل حماية المدنيين، وضمان عدم انتهاك حقوق الإنسان، وتجنب استخدام القوة المفرطة، أي انتهاكات قد تؤدي إلى انتقادات دولية ومساءلة قانونية أمام المحاكم الدولية.

من ناحية أخرى يُعتبر مكافحة الإرهاب هدفًا مشروعًا، يجب أن يتم ذلك بما يتماشى مع قواعد القانون الدولي الإنساني، أي تجاوزات قد تؤثر في مشروعية التواجد الإثيوبي وتؤدي إلى فقدان الدعم الدولي.[10]

ثالثًا: موقف الاتحاد الأفريقي من عدم انسحاب إثيوبيا من الصومال:

إعلان إثيوبيا عدم انسحابها من الصومال عقب انتهاء مهمة بعثة حفظ السلام الأفريقية (ATMIS)  يثير تساؤلات حول مستقبل استقرار الصومال، ومدى تأثير هذا القرار على العلاقات الإقليمية ودور الاتحاد الأفريقي كفاعل رئيسي في تحقيق الأمن والسلام في القارة. في هذا السياق، يتطلب تحليل موقف الاتحاد الأفريقي مراجعة شاملة للمبادئ الحاكمة للمنظمة، الأبعاد السياسية والأمنية، والمصالح المتشابكة بين الأطراف المعنية.

1. الالتزام بمبادئ الاتحاد الأفريقي

احترام سيادة الدول الأعضاء

يُعتبر احترام السيادة الوطنية للدول الأعضاء أحد المبادئ الأساسية للاتحاد الأفريقي، المنصوص عليها في الميثاق التأسيسي. إذا قررت إثيوبيا الاستمرار في الصومال دون تفويض من الحكومة الصومالية، فقد يواجه هذا التصرف انتقادًا شديدًا من الاتحاد باعتباره انتهاكًا للسيادة الصومالية.
الاتحاد الأفريقي قد يُطالب إثيوبيا بتبرير موقفها وتقديم ضمانات تُظهر أن وجودها يهدف لدعم الأمن والاستقرار، وليس التدخل في الشؤون الداخلية أو فرض الهيمنة.[11]

دور الاتحاد كضامن للأمن والسلام

الاتحاد الأفريقي يعتبر نفسه شريكًا محوريًا في دعم السلام في الصومال من خلال بعثة “أميصوم” ثم “أتميس”، التي ساعدت في مكافحة الإرهاب ودعم المؤسسات الصومالية، ومع انتهاء مهمة البعثة، سيشدد الاتحاد على أهمية أن يتم أي تواجد عسكري أجنبي بالتنسيق مع الحكومة الصومالية وتحت مظلة قانونية واضحة.[12]

2. التحديات الأمنية والإقليمية

مواجهة الإرهاب في الصومال

الاتحاد الأفريقي يدرك أن الإرهاب، خاصة نشاط حركة الشباب، لا يزال تهديدًا كبيرًا للصومال والدول المجاورة مثل إثيوبيا وكينيا. إذا استطاعت إثيوبيا تقديم مبررات واضحة تُظهر أن وجودها العسكري يسهم في مكافحة الإرهاب، فقد يتخذ الاتحاد موقفًا مرنًا يدعو إلى تنسيق الجهود الأمنية بين الأطراف. ومع ذلك، سيتطلب ذلك ضمانات بعدم استغلال هذا التواجد لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية ضيقة.

تداعيات التنافس الإقليمي

الصومال يُعد ساحة لتنافس إقليمي ودولي بين قوى مثل تركيا، والولايات المتحدة، مما يعقد المشهد. استمرار التواجد الإثيوبي قد يُنظر إليه كخطوة لتعزيز النفوذ في ظل تنافس قوى إقليمية أخرى. الاتحاد الأفريقي سيواجه تحديًا في ضمان أن هذا التواجد لا يؤدي إلى تصعيد التوترات الإقليمية أو يؤثر سلبًا في التعاون بين دول القرن الأفريقي.[13]

3. تداعيات القرار الإثيوبي على الاتحاد الأفريقي

تأثير القرار على مصداقية الاتحاد

إذا فشل الاتحاد الأفريقي في التعامل بفعالية مع هذا الوضع، فقد يتعرض لانتقادات تتعلق بضعف دوره كضامن للأمن والسلام في القارة. الاتحاد سيحتاج إلى اتخاذ موقف متوازن يعكس التزامه بمبادئه وحرصه على تحقيق الاستقرار في الصومال.

خطر تصاعد النزاعات الإقليمية

استمرار التواجد الإثيوبي دون تنسيق واضح قد يؤدي إلى تصعيد التوترات مع الصومال أو دول أخرى في المنطقة. هذا السيناريو سيضع الاتحاد الأفريقي في موقف حرج وقد يجبره على التدخل بطرق أكثر حدة لضمان الاستقرار.

خاتمة وسيناريوهات مستقبلية للوضع القائم في الصومال

في ضوء التوترات الإقليمية والدوافع الإثيوبية لتعزيز وجودها في الصومال بعد انتهاء تفويض بعثة حفظ السلام، يبرز الوضع القائم كساحة معقدة تتداخل فيها المصالح الوطنية، الإقليمية، والدولية. ومع استمرار إثيوبيا في التمسك بهذا القرار، تتنوع السيناريوهات المحتملة بناءً على تطورات الأحداث والعوامل المؤثرة.

السيناريو الأول: استمرار التواجد الإثيوبي بدعم صومالي وإقليمي

قد تسعى إثيوبيا إلى التفاوض مع الحكومة الصومالية للحصول على تفويض رسمي يُشرعن وجودها العسكري. إذا نجحت أديس أبابا في تأمين دعم الحكومة الصومالية أو موافقة ضمنية من الاتحاد الأفريقي، قد يُؤدي ذلك إلى تهدئة المخاوف المحلية والإقليمية مع بقاء إثيوبيا لاعبًا رئيسيًا في مكافحة الإرهاب وتأمين الاستقرار.

السيناريو الثاني: تصاعد التوترات الإقليمية

في حال استمرت إثيوبيا في تواجدها العسكري دون إطار قانوني أو موافقة صومالية، قد تُفسَّر الخطوة كخرق للسيادة، ما يؤدي إلى تزايد الاحتجاجات المحلية وتفاقم التوترات مع قوى إقليمية مثل مصر وتركيا، اللتين تُنافسان إثيوبيا على النفوذ في المنطقة. هذا السيناريو قد يُشعل صراعات سياسية وأمنية أوسع.

السيناريو الثالث: تدخل دولي وإعادة التوازن

في حال تصاعدت الضغوط الدولية والإقليمية على إثيوبيا، قد يُفرض عليها الانسحاب أو تقليص وجودها العسكري تحت مظلة قرارات دولية أو إقليمية. هذا السيناريو قد يُقلل من تأثير إثيوبيا في الصومال، لكنه سيُتيح المجال لمنافسين آخرين لتوسيع نفوذهم.

في النهاية، ستتحدد طبيعة التطورات بناءً على التوازن بين المصالح الإثيوبية، المواقف الصومالية، وأدوار القوى الدولية والإقليمية. التزام الأطراف بالقانون الدولي والإطار الإقليمي سيُسهم في إدارة الوضع بشكل أكثر استقرارًا، بينما سيُفاقم أي تجاهل لهذه المبادئ تعقيد المشهد السياسي في القرن الأفريقي.

Bottom of Form


[1] تلميح إثيوبيا لـــ” عدم خروج قواتها من الصومال ” يعمق التوتر في القرن الأفريقي، الشرق الأوسط ، 16 نوفمبر 2024 على الرابط :

https://2u.pw/TnFUynVj

[2] الأطماع الإثيوبية في الساحل الصومالي.. الدوافع والمخاطر والمآلات، مركز مقديشيو للبحوث والدراسات على الرابط :

https://2u.pw/Bc9npIAV

[3] بدر حسن الشافعي، إثيوبيا الحبيسة والهيمنة البحرية.. الدوافع والمآلات، موقع الجزيرة على الرابط :

https://2u.pw/ZP0xMQg

[4] سندل مصطفى، مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول بين النصوص والمتغيرات الدولية، في مجلة القانون الدولي والعلوم السياسية (الجزائر، معهد الحقوق والعلوم السياسية بالمركز الجامعي صالحي أحمد بالنعامة، العدد 3، الإصدار 3 ،2017) ص 213

[5] حمياز سمير، إشكالية مفهوم السيادة الوطنية في ظل المتغيرات الدولية الراهنة، في مجلة الحوار الثقافي، (الجزائر، جامعة عبد الحميد بن باديس ، كلية العلوم الاجتماعية، المجلد 5، العدد 1، 2016 ) ص 288 – 289.

[6] مينا عادل، مهمة حفظ السلام في الصومال والدور المصري، 7 سبتمبر 2024 على الرابط :

[7] د. ايمان ترامبط، تدخل حلف شمال الأطلسى للنزاعات الداخلية، دراسة مقارنة بين حالة كوسوفو وليبيا،          ( عمان، مركز الكتاب الأكاديمي 2017)، ص 48 .

[8] مرسلي محمد، انتهاك مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول من الحرب العادلة إلى قانون جاستا، دفاتر البحوث العلمية (الجزائر، المركز الجامعي تيبازة، العدد 11، 2017 ) ص 420.

[9] كمال بوعشة، مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول: أي مبرر للمبدأ في ظل المتغيرات الدولية الراهنة؟ في مجلة الحقوق والعلوم السياسية (الجزائر، جامعة خنشلة، العدد2 المجلد 11 ، 2024)  ص 15.

[10] د. عمر بن ابوبكر أحمد باخشب، سيادة الدولي في ظل التطورات الدولية ” دراسة تحليلية” ، القانونية (المنامة، هيئة التشريع والإفتاء القانوني، العدد الثالث، 2015) ص 329-  330.

[11] لومي، ميثاق الاتحاد الأفريقي، المادة (4) فقرة (ز).

[12] محمد صالح عمر، انسحاب قوات حفظ السلام في الصومال.. السياقات والإنجازات والتحديات، موقع الجزيرة على الرابط:

https://2u.pw/zPTY6tWt

[13] نور جيدي، هل ينجح الصومال بالانتقال لقوات أفريقية جديدة متجاوزًا إثيوبيا، 30/10/2024 على الرابط:

https://2u.pw/15yqT02S