بقلم: أمانى ربيع
“.. أتصور أن الأفلام التاريخية التي أقدمها ومُصر عليها هي نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر”.
- شادي عبد السلام
شادي عبد السلام (1930–1986) هو أحد أبرز أسماء الرواد في السينما المصرية والعربية، اشتهر كمخرج سينمائي، رغم أنه لم يُخرج سوى فيلم روائي طويل واحد هو “المومياء” لكن هذا الفيلم كُتب له الشهرة والخلود في عالم السينما.
قبل الإخراج، عمل شادي عبد السلام لسنوات طويلة في تصميم الديكور، والأزياء، وكان اللافت في كل أعماله، هو حرصه على استحضار التراث المصري القديم والهوية الثقافية المصرية، وتميزت أعماله بالدقة التاريخية والجماليات البصرية التي تعكس عمق انتمائه لمصر.
وُلد شادي عبد السلام في الإسكندرية عام 1930، وتخرج من كلية فيكتوريا بالإسكندرية عام 1948، وانتقل إلى لندن لدراسة فنون المسرح بين عامي 1949 و1950، حيث تعرّف على تقنيات تصميم المشاهد والأزياء، مما مهد لمسيرته الفنية المتعددة التخصصات.


بين الهندسة والسينما
شكلت دراسته للعمارة بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، أساسًا لاهتمامه بالتفاصيل البصرية والديكور، وما أثرى دراسته في الكلية التي تخرج فيها عام 1955، هو تلمذته على يد شيخ المعماريين حسن فتحي وهو ما منحه الفرصة للاطلاع على تاريخ الفنون الإسلامية.
برز شادي عبد السلام أولًا كمصمم ديكور وأزياء في الأفلام السينمائية، حيث عمل مع مخرجين كبار مثل صلاح أبو سيف الذي كان بوابته لدخول السينما عبر فيلم “الفتوة” عام 1957، ولم يكن عمله في هذا الفيلم مرتبطا بالديكور أو الأزياء، وإنما كان متعلقًا بتدوين زمن كل لقطة.
استمر شادي في العمل كمساعد لأبو سيف في عدة أفلام منها: الوسادة الخالية والطريق المسدود وأنا حرة، أما دخوله إلى مجال تصميم الديكور السينمائي فكان عن طريق المخرج حلمي حليم، فخلال عمله بفيلم “حكاية حب” تغيب مهندس الديكور ليقوم شادي بمهمته وينال عمله الإعجاب، ثم بدأ المخرجون بعدها في اختياره للعمل بأفلامهم، وظهرت براعته بشكل خاص، في الأفلام ذات الطابع التاريخي، مثل: أمير الدهاء ورابعة العدوية وعروس النيل، وعنتر وعبلة، وألمظ وعبده الحامولي.
تميزت تصاميم شادي عبد السلام بإحياء العمارة المصرية الأصيلة، والإبداع في التفاصيل الزخرفية الدقيقة، كما في فيلم “وإسلاماه” للمخرج أندرو مارتون، والذي أعاد من خلاله تصوير العصر المملوكي بتفاصيله المعمارية الثرية وملابسه البديعة وهو ما ظهر في أزياء السلطان عز الدين أيبك والسلطانة شجرة الدر، والأمير محمود.
وظهر إبداع شادي أيضا في فيلم “الناصر صلاح الدين” عام 1963 ليوسف شاهين، الفيلم ذو الإنتاج الضخم والطبيعة الملحمية التي صورت الصراع بين جيوش المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي وجيوش الصليبيين القادمة من أوروبا طمعا في ثروات الشرق.


إحياء الروح المصرية
قبل الشروع في أعماله، اعتمد شادي على أبحاث مكثفة في المتاحف والنصوص الأثرية، وذكر مهندس الديكور أنسي أبو سيف في مقال له عن شادي، أنه في مرحلة الإعداد لفيلم “وإسلاماه”، لجأ إلى مصادر عدة استقى منها المعلومات التاريخية الصحيحة عن طبيعة الحياة الاجتماعية بمصر في عهد المماليك.
كانت هذه المصادر مزيجًا من لوحات المستشرقين، بجانب الدراسات والأبحاث عن الحياة في مصر في ذلك العهد، وكتب مثل “طباع وأزياء المصريين العصريين” لإدوارد لين، و”بدائع الزهور في وقائع الدهور” لابن إياس الحنفي، ومخطوطات المقريزي، والرسوم المصورة في مقامات الحريري، وكليلة ودمنة، وكل ذلك ساعده في تكوين تصور بصري شامل عن الحياة في ذلك الوقت ليضع بعدها بصمته الخاصة عند البدء في تصميم أزياء وإكسسوارات وديكورات الفيلم.
كان لشادي عبد السلام أيضا أكثر من تجربة على المستوى الدولي، منها تجربته في فيلم “كليوبترا” للمخرج جوزيف مانكوفيتش، ومن أبرز تصميماته المركب الفرعوني للملكة، كما قام أيضا بتصميم ديكور وأزياء الفيلم البولندي “فرعون”.
وفي فيلمه الوثائقي “الحضارة”، استعان المخرج الإيطالي روبرتو روسيليني عام 1966، بشادي عبد السلام، بعد إعجابه بتصميماته ذات البصمة المصرية الواضحة.
ومن استوديوهات السينما إلى السجادة الحمراء لمهرجان كان، وضع شادي عبد السلام بصمته المصرية على إطلالة النجمة فاتن حمامة عند عرض فيلم “الحرام” في مهرجان كان عام 1965، من خلال فستان أسود بسيط وقلادة ضخمة مستوحى من تراث مصر القديمة، ليصبح أول مصمم عربي في المهرجان العريق.



المومياء.. السرد البصري للهوية
اشتهر شادي عبد السلام بفيلم “المومياء” إنتاج عام 1969، وهو فيلمه الروائي الطويل الوحيد، والذي يحتل المرتبة الثالثة في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
يعد “المومياء” تحفة سينمائية تجسد الصراع بين الهوية المصرية والاستعمار الثقافي، حيث يتناول الفيلم قصة اكتشاف مقبرة فرعونية وصراع المجتمع المحافظ مع تدخلات المستكشفين الأجانب.
قدم شادي القصة عبر سرد بصري فريد من نوعه اعتمد على الرمزية، مستخدما الألوان الترابية والإضاءة الخافتة لتجسيد البيئة الصحراوية التي تدور فيها الأحداث، واعتمد على الإيقاع البطيء لتعزيز الجو الفلسفي.
ولمحاكاة الأجواء في الصعيد، صمم شادي قرية صعيدية استعاد من خلالها التراث من خلال العمارة الطينية المصرية التقليدية، مستلهما نموذج قرية القرنة بالأقصر للمهندس المصري حسن فتحي.
أما أزياء الممثلين بالفيلم، فاعتمد فيها على الأقمشة الخام والتصاميم المستمدة من النقوش الفرعونية، مع تجنب التزييف الهوليودي الذي يقدم البهرجة على الحقيقة.
حظي فيلم المومياء بإشادات نقدية واسعة عند عرضه في الخارج، عام ١٩٦٩، حيث عرض في العديد من المهرجانات العالمية، مثل مهرجان فينسيا عام ١٩٧٠، ومهرجان قرطاج عام ١٩٧٠، ومهرجان لندن عام ١٩٧٠، ومهرجان سيدني عام ١٩٧١، ومهرجان سان فرانسيسكو عام ١٩٧١، ومهرجان شيكاغو عام ١٩٧١، ومهرجان بلجراد عام ١٩٧٢، ومهرجان كارلو فيفاري ١٩٧٢، ومهرجان برلين عام 1972، وأخيرا عرض فى القاهرة فى مطلع عام ١٩٧٥.
حصد الفيلم العديد من الجوائز الدولية منها: جائزة جورج سادول في فرنسا عام 1970، وجائزة النقاد في مهرجان قرطاج عام 1970، واحتل المركز الأول ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما العربية، وفقا لاستفتاء نقاد سينمائيين ومثقفين خلال الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013.



إخناتون.. مشروع لم يكتمل
بعد “المومياء” قدم شادي عبد السلام عددا من الأفلام القصيرة والتسجيلية، سلط من خلالها الضوء على الإرث التاريخي لمصر القديمة، منها فيلم “شكاوى الفلاح الفصيح”، والمستوحى من قصة مصرية شهيرة كتبت على بردية من آلاف السنين، وعرفت تاريخيا باسم “شكوى الفلاح الفصيح”.
ومزج شادي السينما التسجيلية بالروائية من خلال فيلمه “كرسي توت عنخ آمون” الذي تنقل فيه زمن الأحداث بين الماضي والحاضر، حيث يتتبع الفيلم المهندس المسؤول عن ترميم كرسي الملك المصري الشهير بالمتحف المصري، والذي يأخذ ابن أخيه معه إلى موقع الترميم بينما الصبي يشبه الملك الصغير في الملامح.
وأتبع ذلك بعدة أفلام أخرى منها: “جيوش الشمس” وهو فيلم وثائقي يستعرض مراحل حرب أكتوبر 1973، بدءَا من لحظة العبور واقتحام خط بارليف، وصولا إلى لحظة رفع العلم على سيناء، وكذلك لقطات لخنادق ومدافع ودبابات العدو التي تم تدميرها، مع الاستعانة بلقطات لعناوين الصحف العالمية وتعليقاتها على الحرب.
ومن أفلامه أيضا: “الأهرامات وما قبلها” 1984، “عن رمسيس الثاني” عام 1985، وكان مشروعه الكبير الذي لم يكتمل، هو “إخناتون: مأساة البيت الكبير”، وهو الفيلم الذي استغرقت كتابته سنوات، وبدأ شادي في رسم اسكتشات ملابس ومشاهد الفيلم، واختار شخصيات الأبطال، ومنهم الفنان محمد صبحي في دور إخناتون، والفنانة سوسن بدر في دور نفرتيتي.


رفض شادي تحويل مشروعه الطموح لفيلم تجاري، وهو الأمر الذي طالما آمن به، وفي لقاء له قال: “لقد حافظت على نفسي طوال حياتي من التلوث التجاري، كنت أبني نفسي بالقراءة والبحث والتعلم، ولقد مررت بلحظات كثيرة من الضيق الشديد نتيجة أنني لا أعمل”.
للأسف، لم تتمكن وزارة الثقافة من تحمل تكلفة فيلم “إخناتون” الكبيرة الإنتاجية الكبيرة من ديكور وأزياء وإكسسوارات ليموت الحلم الأخير لشادي عبد السلام قبل أن يكتمل.



السينما كأداة للحفاظ على الذاكرة
رأى شادي أن السينما يجب أن تكون وسيلة لتوثيق التاريخ المصري، خاصة في ظل محاولات الاستيلاء على التراث من قبل الغرب، وكان دائما ما يعبر عن قلقه من اندثار الهوية المصرية، مشيرا إلى أن أفلامه هي محاولة لإحياء الروح المصرية الأصيلة.
توفى شادي عبد السلام بعد صراع مع السرطان استمر لأكثر من 4 سنوات، عن عمر يناهز 56 عاما، يوم الأربعاء 8 أكتوبر عام 1986، ورغم قلة أعماله الإخراجية، ترك شادي عبد السلام تأثيرًا عميقًا على السينما العربية.



ويعتبر فيلمه “المومياء” مرجعًا أكاديميًا في دراسة السينما والهوية، فهو لم يكن مهندس ديكور أو مصمم أزياء أو مخرجا فحسب، بل كان حارسًا للهوية المصرية عبر فنون السينما، جمع بين دقة الهندسة والشغف التاريخي ليخلق أعمالًا تُجسد الروح المصرية بكل تعقيداتها.
