أماني ربيع
كانت مدينة الفسطاط، التي أسسها القائد عمرو بن العاص بعد الفتح الإسلامي لمصر عام 641 م، لتصبح أول عاصمة إسلامية لمصر، والنواة الأولى لمدينة القاهرة الحديثة، وأحد ركائز تطور الحضارة الإسلامية في شمال أفريقيا.
وبعد فتح مصر، لم يوافق الخليفة عمر بن الخطاب على أن تكون الإسكندرية، التي ظلت عاصمة لمصر طوال فترة حكم البطالمة، عاصمة للبلاد، وبدأ عمرو بن العاص في البحث عن مكان لبناء عاصمة جديدة.
اختار بن العاص، لها موقعا استراتيجيا بين هضبة المقطم والنيل،بالقرب من حصن بابليون الروماني، في منطقة مصر القديمة حاليًا، وهو ما منحها مع القرب من نهر النيل، أهمية عسكرية وتجارية، وأطلق عليها اسم الفسطاط بمعنى الخيمة، والتي تحولت مع الوقت إلى مدينة مزدهرة ومركزا للإدارة والحكم وعاصمة لمصر لنحو 113 عاما.
تراجع الدور السياسي لمدينة الفسطاط، بعد تأسيس مدينة القاهرة الفاطمية عام 969 م، لكنها حافظت على مكانتها كمركز اقتصادي وثقافي حتى القرن الثاني عشر، عندما تعرضت لحريق كبير دمر جزءا كبيرا منها خلال الصراع بين الفاطميين والصليبيين عام 1168 م.

تعايش الثقافات
ازدهرت الفسطاط كملتقى للتجار والعلماء، وامتزجت فيها الثقافة المصرية مع الإسلامية، وعليها تأسس مسجد عمرو بن العاص، وهو أول مسجد في أفريقيا، وحتى اليوم يعتبر رمزا للعمارة الإسلامية المبكرة، وكانت المدينة أيضا مركزًا لصناعة النسيج والفخار، واشتهرت بصناعة “الديباج” الحريري.
تحولت الفسطاط مع الزمن إلى حي مصر القديمة أقدم وأعرق أحياء القاهرة، بعمارته الشاهدة على تعايش الثقافات المختلفة وسماحة مصر كأرض لكل الأديان السماوية، حيث تضم المنطقة بجانب مسجد عمرو بن العاص، الكنيسة المعلقة وعدد من الكنائس العتيقة، والمعبد اليهودي، وحفائر أطلال مدينة الفسطاط، ومقياس النيل بجزيرة الروضة، وقصر المانسترلي، وقصر محمد علي بالمنيل.
سوق الفسطاط للحرف التراثية.. جسر بين الماضي والحاضر
ومع هذا التاريخ العريق، أصبحت الفسطاط حاضنة للتراث المصري، وكمحاولة لإعادة إحياء المنطقة التاريخية الفريدة، أنشئ سوق الحرف التراثية بالفسطاط كجسر يربط بين الماضي والحاضر، حيث يقع بجوار متحف الفن الإسلامي والمتحف القبطي، وهو ما جعله ليس مجرد مكان للبيع والشراء وإنما وجهة ثقافية وسياحية يزورها السائحون من كل مكان.
يضم سوق الفسطاط مراكز متعددة للحرف، ويمنح الفرصة للفنانين والحرفيين المهرة لممارسة فنونهم وتقديم إبداعاتهم لجمهور ذواق، كما يفتح أمامهم المجال أيضا لتسويق منتجاتهم، ليتحول المكان إلى منارة تشع بالنور والجمال في منطقة الفسطاط الثرية حضاريا بتاريخها الطويل.
ويتميز السوق بتصميمه المعماري المستوحى من الطراز الإسلامي التقليدي، مع استخدام الخشب والأقواس والزخارف الهندسية، ويضم مراكز مختلفة للمنتجات التراثية والحرف اليدوية، مثل:
الفخار، النحاسيات، السجاد اليدوي، والمنسوجات المطرزة، إلى جانب المصنوعات من التراث القبطي والإسلامي، كالأيقونات الدينية، والمصنوعات الجلدية، والحليّ المستوحاة من التراث الفرعوني والإسلامي، بجانب الفنون المصرية التقليدية مثل: الخيامية والأرابيسك.

دور السوق في حفظ التراث
دعم الحرفيين:
حيث يوفر المركز منصة لعرض منتجات الحرفيين المحليين، وخلق فرص استثمارية للشباب وهو ما يشجع الأجيال الجديدة على تعلم الحرف.
التوعية الثقافية:
تُنظم في السوق ورش عمل تعليمية حول صناعة الفخار والتطريز، وغيرها من الفنون التراثية لتمرير هذه الفنون لأجيال جديدة، وذلك بالتعاون مع المؤسسات المختلفة.
الجذب السياحي:
يجذب السوق السياح الراغبين في اقتناء قطع تراثية أصيلة، مما يعزز السياحة الثقافية المستدامة.
الحفاظ على الهوية:
يساهم في مواجهة اندثار الحرف التقليدية بسبب العولمة، عبر دمجها في الاقتصاد الحديث.
وهكذا، يمثل سوق الفسطاط للمنتجات التراثية امتدادًا حيويًا لروح مدينة الفسطاط التاريخية، حيث يجسد دورًا مزدوجًا في حفظ التراث المصري وتنمية المجتمع، ويعزز مكانة مصر كمركز ثقافي عالمي، وبذلك، يصبح المركز ليس مجرد مكان للبيع، بل فضاءً للتعلم والحوار بين الأجيال.
