كتبت – أسماء حمدي
في عالم تسيطر عليه التكنولوجيا وسرعة الحياة اليومية، تظل بعضعاى الأشياء البسيطة حاضرة بقوة في تشكيل هوية المجتمعات وروابطها الإنسانية.
وفي غرب أفريقيا، يلعب الحصير المصنوع من القش أو البلاستيك دورًا جوهريًا يتجاوز كونه مجرد أداة منزلية, رغم بساطة شكله، إلا أنه يحمل دلالات اجتماعية وثقافية واقتصادية عميقة، ويُعد جزءًا لا يتجزأ من الهوية الأفريقية. إذ يُستخدم في التجمعات العائلية والاحتفالات والمناسبات الاجتماعية، فهو رمز للوحدة، ومساحة مشتركة تجمع الناس من مختلف القبائل والأديان في لحظات من التآزر والراحة.
ذكريات الطفولة
تستعيد “سيانه كبوكويو” ذكريات طفولتها في ليبيريا، حين كانت جدتها تطلب منها إحضار الحصير إلى الفناء الخلفي للمنزل. كانت الجدة تستلقي عليه تحت الظل، في لحظات من الهدوء والسكينة.
تلك الذكريات البسيطة شكلت الأساس الذي بُنيت عليه المصورة الشابة كبوكويو هذه السلسلة الفنية التي تحمل اسم “أطفال الفناء الخلفي، حيث تستكشف المصورة دور الأشياء البسيطة في تشكيل العلاقات داخل المجتمعات في غرب إفريقيا. ومن بين هذه الأشياء، يبرز الحصير كرمز ثقافي مهم يعكس الحياة اليومية ويوحد الأفراد رغم اختلاف خلفياتهم الثقافية والدينية.
وبالنسبة لـ”كبوكويو”، الحصير ليس مجرد قطعة منزلية بسيط، بل هو رمز للبيت، وللجذور، وللشعور بالأمان والانتماء إلى المجتمع.
مساحة آمنة
يُستخدم الحصير في غرب أفريقيا لأغراض متعددة، حيث يُفرش أثناء أداء الصلوات، سواء في المنزل أو في المساجد، كما يجمع العائلات حوله خلال وجبات الطعام اليومية ويجلس عليه أفراد الأسرة لتناول الطعام أو تبادل الأحاديث ، ويُصبح مكانًا آمنًا للأطفال للعب عليه في الفناء، ويستلقي عليه الأفراد تحت ظل الأشجار أو في زوايا منازلهم.
ويمثل الحصير في كل منزل مساحة مشتركة تجمع أفراد الأسرة والجيران والأصدقاء في لحظات تعزز الروابط الاجتماعية.
في إحدى الصور من السلسلة، يظهر شخصان يجلسان جنبًا إلى جنب على الحصير، يواجهان نفس الاتجاه. هذا الوضع يعكس فكرة الوحدة التي يجسدها الحصير. تقول المصورة: “إذا أردت أن تذهب بعيدًا، فاذهب مع الآخرين”، بحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية.
يعبر هذا القول عن رسالة المصورة: “الحصير ليس فقط أداة تُستخدم في الحياة اليومية، بل هو مساحة آمنة تُبنى فيها علاقات إنسانية متينة”.
انتماء وتآزر
من منطقة ناناكروم، وهي مجتمع متنوع في العاصمة الغانية أكرا، اختارت المصورة عارضتين من خلفيات ثقافية مختلفة لتجسيد فكرة التنوع والوحدة. كريستينا كينيث، التي تظهر في الصورة إلى اليسار، هي من نيجيريا، بينما إليزابيث أدوسي من غانا. معًا، تمثلان دولتين من أصل 17 دولة في غرب إفريقيا يُستخدم فيها هذا الحصير على نطاق واسع.
هذا الاختيار لم يكن عشوائيًا، فقد أرادت المصورة تسليط الضوء على القيم المشتركة التي تجمع شعوب غرب إفريقيا، على الرغم من اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم. لكن الحصير هو القاسم المشترك الذي يجمعهم، والذي يعتبر مساحة للتآلف والتواصل، ومكان تتلاقى فيه الأرواح وتتشارك اللحظات، سواء في السعادة أو الحزن، في الحياة اليومية أو في المناسبات الخاصة.
تهدف السلسلة إلى إبراز قوة الأشياء البسيطة في حياتنا اليومية، والتي غالبًا ما نغفل عن قيمتها. هذه الأشياء، مثل الحصير والتي تلعب دورًا حيويًا في تشكيل هوية المجتمع وتعزيز الروابط، وللتذكير بأننا في نهاية المطاف كائنات اجتماعية بحاجة إلى العيش المشترك والتآزر في عالم يزداد انقسامًا.
حرفة تقليدية متوارثة
تُعد صناعة الحصير من الحرف التقليدية التي تتوارثها الأجيال في إفريقيا، حيث يمتد تاريخه إلى آلاف السنين وتعتمد هذه الصناعة على مواد طبيعية محلية مثل، أوراق النخيل في شرق أفريقيا، وألياف السيزال في تنزانيا وكينيا، وسعف الدوم في السودان ومصر.
تُجمع هذه المواد وتُجفف وتُنسج يدويًا باستخدام تقنيات تقليدية دقيقة. وعلى الرغم من التطور التكنولوجي، لا تزال العديد من المجتمعات الريفية تعتمد على هذه الطرق التقليدية، حيث تُعتبر الحرف اليدوية مصدر رزق لكثير من الأسر.
في دول مثل غانا ونيجيريا والسنغال، يُعد الحصير التقليدي منتجًا سياحيًا يجذب الزوار الأجانب الذين يبحثون عن الحرف اليدوية الأصيلة. كما أن هناك طلبًا متزايدًا على الحصير الإفريقي في الأسواق العالمية نظرًا لكونه منتجًا طبيعيًا وصديقًا للبيئة.
ففي بعض المناطق الريفية التي تفتقر إلى الأثاث المدرسي، يُستخدم الحصير كبديل للجلوس في الفصول الدراسية، مما يُسهم في توفير بيئة تعليمية بسيطة لكنها فعالة.
تحديات كبرى
رغم الأهمية الثقافية والاقتصادية للحصير في أفريقيا، تواجه هذه الصناعة العديد من التحديات، أبرزها تغير المناخ حيث يؤدي الجفاف وندرة الموارد المائية إلى تقليل توفر المواد الخام المستخدمة في صناعة الحصير.
كما أن المنافسة مع المنتجات الصناعية البلاستيكية الرخيصة، قد يؤدى إلى تراجع الطلب على الحصير التقليدي المصنوع يدويًا.
من جهة أخرى، يتجه العديد من الشباب إلى المدن بحثًا عن فرص عمل أفضل، مما يؤدي إلى تراجع عدد الحرفيين الذين يمارسون هذه الحرفة التقليدية.
ورغم التحديات التي تواجه صناعة الحصير، إلا أن المستقبل لا يزال واعدًا، خاصة مع الاهتمام المتزايد بالمنتجات اليدوية الصديقة للبيئة. وتعمل العديد من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات التنموية على دعم الحرفيين المحليين من خلال توفير التدريب والتمويل وفتح أسواق جديدة لمنتجاتهم.
كما يُمكن أن تُسهم التكنولوجيا في تحسين هذه الصناعة من خلال تقديم أدوات وتقنيات حديثة تُساعد في زيادة الإنتاجية وتحسين جودة الحصير مع الحفاظ على طابعه التقليدي.
ويبقى الحصير رمزًا للبساطة في القارة السمراء، حيث يجمع بين التراث والثقافة. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه هذه الصناعة، إلا أن الجهود المبذولة لدعمها والحفاظ عليها تُبشر بمستقبل مشرق لهذه الحرفة التقليدية التي تُجسد روح المجتمع الأفريقي.