كتبت – أمل علي داوود
باحثة متخصصة في التغير المناخي
في أروقة مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين؛ حيث تتلاقى الأرواح والهمم لعلَّها تنقش أفق المستقبل، تتسارع المفاوضات حول التمويل المناخي كأنها لحظة فاصلة بين عالمين: عالم يسعى لتحقيق توازن مع الطبيعة وآخر غارق في تحديات التنمية، عالم يرنو نحو العدالة البيئية وآخر مستمر في استنزاف موارده في زمنٍ عصيب. هذه المفاوضات ليست مجرد حوار اقتصادي، بل هي رقصة فلسفية بين الأمل الذي يشع في الأفق، والواقع الذي يئن تحت وطأة التغير المناخي.
في قلب هذه المفاوضات، نجد التمويل المناخي ليس مجرد مفهوم اقتصادي، بل هو جسر معلق بين الدول المتقدمة التي تحمل عبء المسؤولية التاريخية لانبعاثات الكربون، والدول النامية التي تحمل عبء الواقع المناخي دون أن تكون المساهم الأول في صنعه. وكأننا أمام مفترق طرق بين إعطاء الأمل لهذه الدول للتأقلم مع تحدياتها المناخية، وبين الإفلات من المسؤولية من قبل الدول التي تسعى لتأجيل دفع فاتورة هذا الدمار البيئي.
وإذا كان التمويل المناخي هو الجسر، فإن الوفاء بالتعهدات هو الحبل الذي يربط أطرافه، وهو أمر لا يمكن لأي طرف أن يتجاوز فيه. فالدول الأفريقية تنادي بالحصول على التمويل الضروري لمواجهة الكوارث الطبيعية وتخفيف آثارها، بينما الدول المتقدمة تتردد في الوفاء بتعهداتها في مجال الدعم المالي والتقني. فهل يظل التمويل مجرد وعد مؤجل، أم إن القمة ستولد من رحمها تلك البذرة التي ستنمو لتصبح شجرة خيرٍ تعطي ثمارها للجميع؟
في فحص عميق لهذه المفاوضات، يتجلى التمويل المناخي ليس فقط من زاوية اقتصادية، بل من زاوية فلسفية، إذ يفتح باب التساؤل عن العدالة البيئية. هل من العدل أن تدفع الشعوب الفقيرة ثمن التطور الصناعي الذي لم تكن جزءًا منه؟ هل من الإنصاف أن تبقى الدول النامية، لا سيما الأفريقية، التي لا تملك سوى القليل من وسائل الدفاع ضد التغير المناخي، عاجزة عن مواجهة المستقبل بينما تواصل الدول الغنية تحميلها عبء الأزمات البيئية؟ إنها فلسفة تبتعد عن الاعتبارات التقليدية للربح والخسارة، وتقترب من مفهوم العدالة بين الأجيال، وبين المجتمعات التي ظلت مهمشة لعقود.
في هذه اللحظات الحاسمة، يصبح الحديث عن التمويل المناخي أقرب إلى إعادة صياغة علاقة الإنسانية بالبيئة. إذا كانت الأموال هي الوسيلة لإنقاذ البشر من أزمات التغير المناخي، فإنها قد تتحول إلى رمز من رموز الالتزام الجماعي بالحفاظ على كوكب الأرض. التمويل ليس مجرد أداة لشراء الحلول، بل هو مسؤولية جماعية تتطلب من كل الأطراف إعادة النظر في أولوياتها، ووضع الإنسان والبيئة في قلب المعادلة.
إحدى أبرز الإشكاليات في المفاوضات الجارية هي الوفاء بالتعهدات المالية التي سبق أن التزمت بها الدول المتقدمة. وها هي الدول النامية، التي تمثل أكثر من نصف سكان العالم، تنتظر بفارغ الصبر تلك الأموال التي لم تأتِ بعد. الوعد بالتمويل في الاتفاقات السابقة هو بمثابة توقيع ملزم، أما التنفيذ فهو معضلة حقيقية. إذ تظل المسألة المالية عائقًا أساسيًا، ينقض على المفاوضات كظل قاتم، فتكتظ الطاولات بالحجج والوعود التي تفقد بريقها مع مرور الوقت.
لكن فلسفة الالتزام يجب أن تتحول إلى واقع ملموس، فما هو الحل إذا كانت المعوقات السياسية والاقتصادية تحول دون الوفاء بالوعود؟ ربما يكون الحل في إعادة التفكير في طرق التمويل، بما يتناسب مع التحديات المناخية والاقتصادية، وقد تكون المرونة في توزيع التمويل وتقليص الفجوات بين الدول المتقدمة والنامية هو المفتاح لإنجاح هذه المفاوضات، والبحث عن آليات جديدة مبتكرة لتسريع التمويل، والابتعاد عن المعوقات التقليدية قد يشكل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة المناخية.
أفريقيا بين الواقع والمأمول
في قلب القارة السمراء؛ حيث تتشابك الآمال والآلام، يترنح مستقبل الدول الأفريقية بين أمواج التداعيات المناخية العاتية، وتُضاف إلى أعبائها التزامات سياسية واقتصادية تفرضها تحديات عالمية قد تكون فوق طاقتها. ومع انعقاد مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين، يجد القادة الأفارقة أنفسهم أمام مفترق طرق حرج، يتفاوضون في بحر من الأمل والخوف، على موارد قد تكون آخر خط دفاع لهم أمام العواقب الوخيمة للتغير المناخي.
الدول الأفريقية، رغم أنها الأقل مسؤولية عن الانبعاثات الكربونية، هي الأكثر تأثرًا بتداعياتها. فأراضيها، التي شهدت يومًا زخمًا حضاريًا وموردًا طبيعيًّا لا يعوّض، باتت اليوم مهددة بالتصحر والجفاف والفيضانات. يتحدث الساسة الأفارقة عن “العدالة المناخية” كما يتحدث ناشطو حقوق الانسان عن الحق في الوجود، لكن ذلك لا يعني شيئاً أمام ضغوط السياسات الدولية التي تقرر مصيرهم. إذ يواجهون مواقف مشحونة بالصراعات والمساومات، في ظل غياب التوازن بين من يملكون الحلول ومن يعانون من نتائجها.
في ظل التفاوض الذي استمر لأكثر من أسبوعين حول التغير المناخي في مدينة باكو بـ أذربيجان، فقد تم التعهد بتقديم تمويل مناخي للدول المتضررة يقدر بنحو 300 مليار دولار سنويًا، قد يبدو مبلغًا جيدًا في الظاهر، لكنه قد لا يكون كافيًا لمواجهة حجم المخاطر التي تهدد الدول الأفريقية. فإن تكلفة التكيف مع التغير المناخي في القارة تتطلب موارد ضخمة لتطوير البنية التحتية، مثل أنظمة الري الحديثة لمواجهة الجفاف، وآليات مكافحة الفيضانات، فضلاً عن استثمارات ضخمة في الطاقة المتجددة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
بالإضافة إلى ذلك، هناك قلق كبير في الدول الأفريقية حول كيفية توزيع التمويل المناخي، إذ يُخشى من أن جزءًا كبيرًا من هذه الأموال قد يُوجه إلى مشروعات غير مستدامة أو غير ذات تأثير فعلي على أرض الواقع؛ مما يجعلها مجرد جهود سطحية لا تعالج المشكلات الجوهرية التي تواجهها القارة.
في هذا المشهد المتأزم، يُطرح التساؤل الأوسع: هل التفاوض حول التمويل المناخي هو مجرد عملية حسابية باردة؟ أم هو سعي إنساني يتجاوز الأرقام والمصالح الضيقة نحو فضاء أرحب، يتم فيه تجسيد مفاهيم العدل والمساواة؟ إن المفاوضات لا تقتصر على تبادل المعطيات الاقتصادية، بل هي صراع بين الوجود والاندثار، بين الحياة والموت. والأفارقة، وهم في موقفهم الصعب، يسعون إلى انتزاع الحق في البقاء من بين أنياب من لا يعرفون سوى اللغة الربحية.
تظل كلمات ممثلي الدول الأفريقية في تلك المفاوضات كأنها أصداء لنداءٍ ضائع في الفضاء، علّها تجد صدى في ضمير العالم الذي يزعم أنه يسعى لتحقيق التوازن. ولكن هل يستطيع هذا الضمير أن يوازن بين من يملك ومن يعاني؟ وهل يمكن أن تتحقق العدالة المناخية في عالم يكتنفه القسوة الاقتصادية والتفاوت الهائل في القدرات؟
قد يبدو الجواب بعيداً، لكن الأمل، في النهاية، هو ما يظل متقداً في قلب أفريقيا، وما يحفزها على الاستمرار في التفاوض في المرات القادمة، لعلها تجد يوماً ما أن صوتها قد وصل أخيرًا، وأن حلمها بالعدالة المناخية قد أصبح حقيقة قابلة للتحقيق. فالدول الأفريقية قادرة على التغلب على الصعاب والابتكار في مواجهة الأزمات. فبإمكانها إعادة تشكيل مستقبلها إذا استثمرت في تنمية الموارد البشرية، والبنية التحتية، والتعليم، والطاقة المتجددة. ورغم كل ما تواجهه من تحديات، تظل أفريقيا محركًا حيويًا للفرص والمستقبل الذي لا حدود له.