أماني ربيع
التاريخ الشفوي، أداة غنية ومعقدة لسرد القصص، تحتوي على تفاصيل دقيقة عن الأنساب وتجارب الأسلاف، وهي من الطرق المهمة لنقل المعرفة، لأنها تجلب تاريخًا حيًا غير موجود في الكتب وغيرها من أشكال الوثائق والأرشيفات التقليدية، وكان الأسلاف في أفريقيا يعتمدون في نقل المعارف والتاريخ على ذكريات الماضي التي غالبًا ما تُروى من خلال القصص الطويلة بطريقة آسرة، لذا فهو أداة هامة للحفاظ على الثقافة.
وشهدت السنوات القليلة الماضية اعترافًا متزايدًا بالتاريخ الشفوي في الأكاديميات الغربية، خاصة مع تسليط العديد من المؤلفين وصناع الأفلام والفنانين حول العالم، الضوء على التاريخ الشفوي الغني لغرب أفريقيا.


نبذ التاريخ الشفوي لصالح الرواية الاستعمارية
يستخدم رواة القصص في غرب أفريقيا من السنغال وموريتانيا إلى مالي ونيجيريا التقاليد الشفوية التي يعود تاريخها إلى أكثر من 2000 عام، وغالبًا ما يصاحب سرد القصص آلات موسيقية مثل “الكورا” وهي آلة عود ذات 21 وترًا، أو طبول أو أبواق تساهم في خلق الأجواء المناسبة لسرد القصص، وعلى نحو مماثل، فإن كبار السن من المنطقة التي تُعرف الآن باسم غانا الحديثة غارقون في التقاليد الشفهية، ويعملون كقنوات للمعرفة من خلال نقل الأمثال.
وعكس تقديم التاريخ من خلال الناس ديناميكية الثقافة داخل غرب أفريقيا، لكن للأسف، غالبًا ما استبعدت الأوساط الأكاديمية الغربية التقاليد الشفوية المعقدة من خلال تقديم روايات كاذبة عن أفريقيا والتي استندت إلى الكليشيهات الاستعمارية، وفقا لمقال للكاتبة لافينيا ستينيت بموقع “كوارتز”.
واستمر إرث المركزية الأوروبية في تحديد معالم إنتاج المعرفة في أفريقيا، وقرر أن توثيق المعرفة ونقلها كتابة هو الشكل الشرعي الوحيد، لكن السرد الواحد محدود لأنه لا يمكنه تقديم سوى نسخة واحدة من الحقيقة، ولأن المعرفة سياقية، فلا بد من الاعتراف بالتقاليد الشفوية من أجل تمثيل مجموع الحقائق التي تكثر في المنطقة.
محو متعمد لوثائق عهد الاستعمار
في كينيا مثلا، وخلال وقت إنهاء الاستعمار، دمر المسؤولون الاستعماريون أطناناً من الوثائق، ولمواجهة هذا المحو المتعمد، جمعت كارولين إلكينز، أستاذة التاريخ والدراسات الأفريقية والأفريقية الأمريكية في جامعة هارفارد، مئات الشهادات الشفوية ودمجتها مع شظايا من الأدلة الأرشيفية المتبقية لتحدي وجهات النظر الراسخة للإمبريالية البريطانية.
وأثارت طريقة إليكنز انتقادات حادة، بحسب ما ذكرت في مقال لها بصحيفة “الجارديان” البريطانية، وقالت إن مراجعتها لـ “أساطير الإحسان الإمبراطوري البريطاني”، على حد قولها، أزعج الكثيرين، خاصة وأن معظم المؤرخون يقدسون الوثائق وبخاصة مؤرخي الإمبراطورية، الذين اعتبروا، لعقود من الزمان، أن الأدلة المكتوبة مقدسة، لذا لم تكن الشهادات من الشعوب المستعمرة ذات أهمية كبيرة.
نادراً ما شكك العديد من المؤرخين في الأرشيف الرسمي، ولا في السجل التاريخي المكتوب، وبدلاً من ذلك، أعادوا إنتاج رواية رسمية تم الاعتناء بها بعناية مع روايات احتفالية بالإمبراطورية، وتحويل رؤوسهم بعيدًا عن العنف المرتبط بالماضي الاستعماري البريطاني، واستخدمت الروايات التاريخية التي قدموها، والتي تركز على الوثائق، كذريعة للخيالات الإمبراطورية الليبرالية.
قضية الماو ماو
وخاض نحو 5 آلاف رجل وامرأة من قبائل الماو ماو الكينية، معركة قانوية استمرت لسنوات ضد الحكومة البريطانية للحصول على تعويضات واعتذار، وقالوا إنهم تعرضوا للتعذيب على يد الإدارة البريطانية في معسكرات الاعتقال بكينيا، خلال انتفاضة الماو ماو (1952-1960) ضد الاحتلال البريطاني.
واحتجت الحكومة البريطانية في بادئ الأمر بأن الالتزامات المتعلقة بالتعذيب على يد السلطات الاستعمارية حولت إلى جمهورية كينيا عقب الاستقلال عام 1963، وعليه فإنها لا تتحمل أي التزامات، ولكن المحكمة العليا قررت في عام 2011 بأن ثلاثة مدعين، وهم بولو ميوكا نزيلي، ومبوجا وانيينجي، وجين موثوني مارا، “يحق لهم اللجوء إلى القضاء في هذه القضية”.
وعادت القضية إلى المحكمة العليا، لتدعي بعدها وزارة الخارجية البريطانية أن الدعوى رفعت بعد انقضاء المدة القانونية المسموحة، ولكن المحكمة العليا قررت في شهر أكتوبر عام 2013، أن الدعوى، التي رفعها الضحايا سليمة قانونيا، وقبلت استكمال الإجراءات على الرغم من انقضاء المدة.


حجب الأدلة
وخلال مسار هذه القضية في المحكمة العليا في لندن، اكتشفت الحكومة البريطانية كما ضخما من الوثائق، حيث تم العثور في حديقة هانسلوب على حوالي 300 صندوق من الملفات التي لم يتم الكشف عنها من قبل والتي تم نقلها من كينيا في وقت إنهاء الاستعمار، إلى صناديق أخرى لا حصر لها من الملفات من 36 مستعمرة أخرى، والتي تم نقلها خلال مرحلة إنهاء الاستعمار في هذه الدول.
تم نقل ملفات حديقة هانسلوب مؤخرًا إلى الأرشيف الوطني، لكن وزارة الخارجية والبريطانية والكومنولث لم ينتهجوا الشفافية تماما خلال عملية الإخراج عن هذه الوثائق، وهناك حوالي 170 صندوقًا من الملفات “السرية للغاية” مفقودة، وتؤكد إليكنز أنه تم حجب الأرشيفات البريطانية الرسمية، ومع ذلك، لا يزال المشككون في التاريخ الشفوي يتمسكون بالوثائق باعتبارها المصدر الوحيد للأدلة.
والمثير للدهشة أن بعض المنشورات الحديثة التي تتجنب التاريخ الشفوي تتضمن اقتباسات متعددة من الشهادات الشفوية لأعضاء الجيش البريطاني والخدمة الاستعمارية، المحفوظة في أرشيف متحف الحرب الإمبراطوري، وهو ما يوضح النزعة العنصرية في كتابة التاريخ عن طريق اعتماد شهادات البريطانيين باعتبارها مصادر موثوقة، بينما الأفارقة يختلقون القصص.
وتؤكد إليكنز أن قضية الماو ماو تعلمنا أن الشهادات الشفوية الأفريقية ليست بلا معنى ولا خيالية، لكنها مثل جميع أشكال الأدلة، يجب أن يتم فحصها وقراءتها مع مصادر أخرى لتحديد أهميتها للماضي والحاضر، موضحة أنه لا يمكن كتابة التاريخ الاستعماري لبريطانيا مثلا عبر الوثائق وحدها لأن حجم محو الأرشيفات وحجب الوثائق هائل بشكل يجعل هذا أمرا غير مسؤول، ويصبح محاولة أخرى لإعادة إنتاج الأساطير الرسمية التي تخدم صورة بريطانيا الاستعمارية.
ورغم استمرار الغرب طويلا، في مقاومة مسألة الاعتراف بشرعية القصص الشفوية من غرب أفريقيا، منحت الأكاديمية البريطانية جائزة بقيمة 25 ألف جنيه إسترليني للكاتب توبي جرين عن كتابه “حفنة من الأصداف”، وهو نتاج أكثر من 20 عامًا من البحث، وكان لهذا التكريم أهمية خاصة، نظرًا للتهميش التاريخي لكل من التاريخ الشفوي والتاريخ الأفريقي، وخاصة تلك التي تصور المجتمعات الأفريقية قبل الاستعمار.
إضافة إلى مجموعة غنية من الأبحاث، يقدم كتاب توبي جرين “حفنة من الأصداف” مجموعة مقنعة من المعلومات حول ممالك غرب أفريقيا، باستخدام التاريخ الشفوي لمجتمعات غرب أفريقيا، ويثري الكتاب التقليد ما بعد الاستعماري المتمثل في إعادة تقديم قصة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى على وجه الخصوص، ويقلب فكرة أن أفريقيا مكان بدون تاريخ.
ويؤكد الكتاب على فكرة أن التاريخ الأفريقي موجود في حد ذاته، وليس مجرد إضافة أو دعامة للتاريخ الأوروبي، ويعكس الكتاب في كثير من النواحي المشاعر الواردة في مقال أتشيبي “صورة أفريقيا”، الذي يشكك في شرعية تقديم أفريقيا في الأدب والفلسفة الغربية.
شرع جرين، الذي كان زائرًا منتظمًا لأفريقيا لأكثر من 20 عامًا، في هذا البحث عندما وجد أن “الكثير من الأساطير تكثر حول التاريخ الأفريقي، وفي الوقت نفسه، نادرًا ما يتم تدريس التاريخ الأبعد في غرب أفريقيا نفسها”،
التغريب وخسارة الذاكرة الشفوية
وبينما تلعب الاعترافات بالتاريخ الشفوي من قبل المؤسسات دورًا أساسيًا في خلق فهم وتقدير أوسع وأعمق للتاريخ الأفريقي، يوضح البروفيسور كيفين ماكدونالد أن الخسارة المستمرة للذاكرة الشفوية في أفريقيا مرتبطة ايضا بالقوى الاقتصادية العالمية وحالة التغريب التي تجذب شباب المجتمعات الريفية وتجعلهم يقللون من قيمة المعرفة التاريخية لكبار السن.
ولا يزال هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به، مثل العثور على المشاريع التي تركز على التاريخ الشفوي وتتحدى الامتياز التاريخي للنصوص المكتوبة في التعبير والإنتاج الثقافي الأفريقي، في جميع أنحاء المجتمع من الأوساط الأكاديمية، وحتى صناعة الأفلام والفنون.
يمكن القول إن الاعتراف من قبل الأكاديمية يضع المعيار للصناعات الأخرى للبدء بمسار عمل مماثل وطرح السؤال العاجل حول ما هي التواريخ التي تعتبر صالحة؟ ومن خلال الاعتراف بالتواريخ التي تم تهميشها تاريخيًا ومنحها، يمكن أن يبدأ العمل التحويلي على جميع المستويات المحلية من مناهج المدارس إلى هيئات تقديم المنح، وعندما تبدأ المؤسسات في استكشاف أهمية التاريخ الشفوي والانخراط فيه، يتم خلق المزيد من الاحتمالات للمستقبل.
لهذا، فكتب مثل كتاب “حفنة من الأصداف” ضروري للاعتراف بالمصادر التي نشأت في غرب أفريقيا باعتبارها تقدم وجهات نظر وحقائق تاريخية أساسية تمثل حافزا لمزيد من المناقشة والبحث حول أهمية أفريقيا في تاريخ العالم.