كتبت – أسماء حمدي
“لسنا أحرارًا تمامًا حتى يكون جميع الأطفال أحرارًا”، بهذه الكلمات يطلق مغني الراب المراهق دوغو براوني، من جمهورية الكونغو الديمقراطية، صرخة استغاثة عبر إنستجرام. في أغنيته، يرسم براوني صورة قاتمة للواقع: “لا نذهب إلى المدرسة، أمهاتنا يتعرضن للاغتصاب، لا نريد الحرب، نريد السلام.”
أن يُجبر الأطفال على تحويل معاناتهم إلى أغانٍ هو في حد ذاته مأساة يجب أن تهز الضمير الإنساني. كلماته ليست مجرد أبيات موسيقية، بل شهادة موجعة على الدمار الذي تخلفه الحروب، خاصة على الأطفال وتعليمهم. وتأتي رسالته بعد أسابيع فقط من إحياء العالم لليوم الدولي للتعليم، الذي أقرّته الأمم المتحدة كتأكيد على الالتزام بالهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة (SDG4): ضمان تعليم شامل وعالي الجودة للجميع بحلول عام 2030.
لكن بالنسبة لملايين الأطفال المحاصرين في مناطق النزاع، يظل هذا الهدف بعيد المنال، أقرب إلى حلم يتلاشى مع كل طلقة رصاص.


كارثة إنسانية
تعد جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أبرز بؤر الأزمات الإنسانية، حيث يستمر الصراع منذ أكثر من 30 عامًا، خصوصًا في إقليم كيفو الشمالية. ورغم أن العالم ليس غافلًا تمامًا عن المأساة، إلا أن الأزمة نادرًا ما تتصدر العناوين الرئيسية، في ظل انشغال الإعلام بالحروب في أوكرانيا، غزة، ولبنان.
تشير بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن أكثر من 20 مليون شخص في الكونغو الديمقراطية بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بينهم 7 ملايين نازح فرّوا من غوما، كيفو الشمالية، وشرق البلاد. ومن بين هؤلاء، هناك 3.5 مليون طفل يعيشون في أوضاع مأساوية.
ومع تصاعد الحرب، في الشهرين الماضيين، أُجبرت أكثر من 500 مدرسة في كيفو الشمالية وغوما على الإغلاق، مما أدى إلى انقطاع 750 ألف طفل عن التعليم، وفقًا لمنظمة اليونيسف. وبعد سقوط غوما في قبضة متمردي حركة 23 مارس (M23)، أفادت تقارير بأن أطفالًا التقطوا أسلحة متروكة، مما يعرض حياتهم ومجتمعاتهم للخطر. كما أن من يترك المدرسة يصبح هدفًا سهلًا للتجنيد والاستغلال من قبل الجماعات المسلحة، مما لا يسلبهم حقهم في التعليم فحسب، بل يسلبهم طفولتهم، وأمانهم، ومستقبلهم.


أزمة تتجاوز الحدود
يقول الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لمؤسسة Teach For Uganda، جيمس كاساجا أرينايتوي، في حديثه لموقع “إفريقيا.كوم”، إنه زار في يوليو 2023، مخيمات اللاجئين في منطقتي كاغادي وكيكوبي في أوغندا، على الحدود مع الكونغو الديمقراطية، حيث لا يزال زملائه من المنظمة التي شارك في تأسيسها، يعملون كمعلمين في هذه المجتمعات.
يحكي أرينايتوي: “في كل صف دراسي تقريبًا، وجدت أطفالًا فرّ آباؤهم من غوما أو كيفو أو بلدات أخرى شرقي الكونغو. بعضهم حصل على حق الإقامة بفضل سياسة أوغندا المنفتحة تجاه اللاجئين. هذه ليست حالة استثنائية، ففي كل دولة شرق إفريقية، مثل أوغندا، بوروندي، رواندا، وكينيا، يوجد آلاف الكونغوليين الباحثين عن مأوى، فضلًا عن المستوطنات الضخمة مثل بيدي بيدي، ناكيفالي، وكيانغوالي”.
يروي الرئيس التنفيذي لمؤسسة Teach For Uganda، أن أحد زملائه الكونغوليين، الذي اضطر إلى مغادرة البلاد بحثًا عن فرص تعليمية، يخبره أنه مازال يشعر بالألم جراء فقدانه عائلته وأصدقائه في هذه الحرب التي استمرت ثلاثة عقود، وحصدت 6 ملايين روح، وفق التقارير. وتشير أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى أن الصراع أدى إلى نزوح داخلي لأكثر من 5.5 مليون شخص، في حين فرّ نحو مليون لاجئ إلى دول أخرى في إفريقيا.


التعليم كأداة للمقاومة
يشير أرينايتوي، إلى أنه يعرف جيدًا تأثير الفقدان والمعاناة على الأطفال، مضيفًا: “قبل أن أبلغ العاشرة من عمري، فقدت والديّ وإخوتي بسبب الإيدز وأمراض يمكن الوقاية منها في الريف الأوغندي. شكلت هذه المآسي طفولتي بطرق لا أتمناها لأي طفل، خاصة أولئك الذين لا يملكون القدرة على تغيير مصيرهم. لكن على عكس أطفال الحروب، أُتيحت لي فرصة التعليم، بفضل دعم جدتي وأشخاص كرماء. كان التعليم ملجئي وطريقي للخروج من الألم نحو مستقبل أفضل”.
أكد أن التعليم هو أحد أقوى أدوات المقاومة، وهذا ما يجعله من أوائل ضحايا الحرب. مضيفًا: “من الكونغو إلى السودان إلى إريتريا، تتحكم الجماعات المسلحة والأنظمة القمعية في المناهج الدراسية، وتفرض قيودًا على من يحق له التعليم، بل حتى على لغة التدريس. يتم استهداف المدارس، وهروب المعلمين، وحرمان الطلاب من التعلم، مما يحوّل هذه الأزمة إلى كارثة عالمية تستوجب استجابة عاجلة”.


دعوة لحلول جذرية
دعا رئيس مؤسسة Teach For Uganda، الحكومات إلى أن تضع التعليم في قلب استراتيجيات بناء السلام. مشددًا على أن مجموعة شرق إفريقيا (EAC) والاتحاد الإفريقي (AU) مطالبان بالتحرك بجدية لإنهاء الأزمة. مضيفًا: “فالهجرة وحدها ليست الحل، بل يجب إجبار الأطراف المتحاربة، متمردو M23 وحكومة الكونغو، على الجلوس إلى طاولة المفاوضات”.
كما طالب الجهات المانحة والمنظمات الدولية بتمويل الشبكات المحلية لضمان وصول الموارد إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها، لافتا إلى أهمية الاستثمار في نماذج تعليم مقاومة للصراعات، واستخدام التكنولوجيا لتوفير التعلم عن بُعد للأطفال اللاجئين.


نريد السلام
تمتلك الكونغو الديمقراطية بعضًا من أغنى الموارد في العالم، بما في ذلك الكوبالت، والكولتان، والألماس والمعادن التي تشغّل الهواتفن الذكية، والسيارات الكهربائية، والصناعات العالمية. يقول أرينايتوي: “لو تم استغلال هذه الثروات بشكل أخلاقي ومستدام لخدمة الشعب الكونغولي، لما اضطر الأطفال إلى العيش في المخيمات والاعتماد على المساعدات الدولية”.
ومع متوسط عمر سكان إفريقيا البالغ 19 عامًا، وكون ربع سكان العالم سيكونون أفارقة بحلول 2050، فإن القرارات التي نتخذها اليوم بشأن الاستثمار في التعليم ستحدد ما إذا كان هذا الجيل سيزدهر أم يُحاصر في دوائر العنف وعدم الاستقرار.
“نحن أطفال، ولسنا جنود . نحن شعب واحد، أمة واحدة. معًا يمكننا محاربة حروب هذا العالم”، إن كلمات دوغو براوني ليست مجرد أغنية، بل نداء للتحرك. يقول: “نريد السلام، لا نذهب إلى المدرسة”. يضيف أرينايتوي: “علينا أن نصغي إليه، لأنه حتى يكون جميع الأطفال أحرارًا في التعلم والحلم والازدهار، لن يكون أحد منا حرًا حقًا”.